انتخابات رأس بعلبك البلديّة ثلاث لوائح وصوت واحد للتغيير

في بعلبك- الهرمل، لا تُقاس الانتخابات بأرقامها وحسب، بل بما تحمله من أمل معلَّق على تغييرٍ طال انتظاره. المعركة البلديّة هناك ليست مجرّد استحقاق إداريّ، بل حدثٌ يُعبَّأ له الناس، وتُرفع فيه الشعارات، وتُبنى عليه آمال كثيرة. تنتصر لائحة وتُكلَّف بمهامها، لعلّها تكون الجسر المنتظر بين الدولة والمواطن. لكن سرعان ما تتهاوى تلك الوعود تحت وطأة الخلافات الشخصيّة أو التجاذبات السياسيّة. يُحلّ المجلس، يستقيل الأعضاء، ويغيب الرئيس.
في محافظة بعلبك– الهرمل، هذا السيناريو ليس استثناءً، بل واقع تعيشه 12 بلدة على الأقل من أصل 63 بلديّة هي: حزين، حوش الرافقة، رأس بعلبك، نحلة، الخريبة، حورتعلا، الفاكهة– الجديدة، النبي عثمان، عرسال، الكنيسة، نبحا الدمدوم وسرعين التحتا… بلدات حُرمت لسنوات من أبسط حقوقها التنمويّة ودخلت في دورة شلل بلديّ بعد غياب المجالس المنتخبة. وبذلك، حُرمت هذه القرى من خدمات أساسيّة ومشاريع إنمائيّة، هي في الأصل من مهام البلديّات بصفتها السلطة المحلّيّة الأولى في حياة الناس اليوميّة.
سنوات من الانقسام والشلل
منذ سنتين، تعيش بلديّة رأس بعلبك في حال شلل تامّ بعد استقالة عدد من أعضائها بسبب خلافات داخليّة حول رئاسة البلديّة. يشرح أحد فعاليّات البلدة عصام منصور، لـ “مناطق نت”، أنّ هذه الخلافات بدأت منذ اليوم الأوّل لتشكيل المجلس البلديّ الذي تكوّن نتيجة تحالف “القوّات اللبنانيّة” و”الحزب الشيوعي” (تسعة أعضاء) في مواجهة تحالف “سرايا المقاومة” وبعض العائلات (ستّة أعضاء). وعلى رغم التباينات، استمرّ المجلس نحو ثلاث إلى أربع سنوات، قبل أن تبدأ الاستقالات تدريجًا، ستّة أعضاء في البداية، تبعهم لاحقًا الباقون، ليسقط النصاب وتنهار البلديّة قبل إتمام ولايتها.

بذور أمل بطرف ثالث
اليوم، تتأهّب بلدة رأس بعلبك لخوض انتخابات بلديّة جديدة عبر ثلاث لوائح انتخابيّة: الأولى مدعومة من الدكتور ألبير منصور والتيّار الوطنيّ الحرّ والثانية من “القوّات اللبنانيّة”، بينما تمثّل الثالثة تجربة جديدة يُعوّل عليها البعض كمحاولة مختلفة في المشهد المحلّيّ.
هذه اللائحة الأخيرة تتألّف من تسعة مرشّحين أساسيّين، وثلاثة آخرين لم يحسموا قرارهم بعد، أيّ إنّ اللائحة لم تكتمل إلى الآن بشكل رسميّ. هم مجموعة من الشباب ينطلقون من موقع غير حزبيّ ولا عائليّ، ويصفون أنفسهم بأنّهم “الخطّ الوسطيّ المعتدل”، أو “الطرف الثالث” كما يقول مسعود اللقّيس، أحد المرشّحين في حديث إلى “مناطق نت”، ويعتبر أنّ “هذا الخطّ وُلد من رحم المعاناة التي عاشتها البلدة لعقود من التناحر السياسيّ والهيمنة الحزبيّة، حيث كانت الأطراف تتنازع على قرار الناس، وتُعطّل العمل البلديّ عند أوّل خلاف، عن قصد وكيديّة”.
ويضيف اللقّيس “أنّ هذا الترشّح ليس سعيًا للوصول وحسب، بل محاولة لتقديم خيار جديد لأبناء البلدة، خيار متجرّد من الانتماءات التقليديّة، يُراهن على الطاقات المحلّيّة”. ويُذكّر بأنّ “رأس بعلبك تضمّ حوالي 360 مهندسًا، 100 طبيب و42 ضابطًا، إضافة إلى عدد كبير من الأساتذة والمثقّفين، ما يجعلها غنيّة بكفاءات قادرة على إحداث فرق فعليّ في العمل البلديّ”.
“أنّا مرشّح رأس بعلبك، مش مرشّح عيلة”، يقول اللقّيس مؤكّدًا أنّ هدفهم هو “إتاحة الفرصة أمام الجيل الجديد ليكمل المسيرة على قاعدة الكفاءة والوعي، حتّى ولو لم يكن الفوز مضمونًا، فهذا الترشّح بحدّ ذاته يُشكّل موقفًا يُعبّر عن طموحات شريحة واسعة من الأهالي”.
اللقيس: هدفنا هو إتاحة الفرصة أمام الجيل الجديد ليكمل المسيرة على قاعدة الكفاءة والوعي، حتّى ولو لم يكن الفوز مضمونًا
ثلاثة مخاوف تُهدّد التغيير
على رغم الأمل الذي يحمِله المرشّحون الشباب إلّا أنّ مشاعر القلق لا تُفارقهم. لا يُخفي اللقّيس قلقه “من ثلاثة سيناريوهات قد تعيد البلدة إلى الأزمة نفسها. أوّل هذه المخاوف هو تكرار التركيبة السابقة داخل المجلس البلديّ، بحيث تنال اللوائح نسبًا متقاربة من التمثيل (ستّة مقابل تسعة أو سبعة مقابل ثمانية)، ما يُمهّد لعودة الضغوط والتجاذبات التي ربّما تُسفر عن فراغ جديد بعد إسقاط النصاب”.
الخوف الثاني، بحسب اللقّيس، “يتمثّل في احتمال تصاعد تجييش وتأجيج الخطاب الحزبيّ والعائليّ، ما يفتح الطريق أمام العقليّة القديمة للعودة إلى المجلس البلديّ، وبالتالي إلى استمرار النهج نفسه الذي عطّل العمل في السابق”.
أمّا الخوف الثالث فهو “من المال الانتخابيّ، والذي ربّما يُستخدم لحشد الأصوات وشراء الولاءات، وهو أمر يشكّل تحدّيًا حقيقيًّا أمام لائحة لا تملك أيّ إمكانيّات مادّيّة تُذكر، إذ يعمل المندوبون على نفقتهم الخاصة”.
ومع كلّ هذه المخاوف، لا يغلق اللقّيس الباب أمام التعاون، بل يؤكّد أنه لا يعادي الأحزاب ولا العائلات، بل يعتبر أنّ هذا التوازن من المحتمل أن يصبّ في مصلحتهم، ويوفّر فرصًا للتقاطع والتفاهم. ويشدّد اللقّيس على استعداده “لمدّ اليد للجميع في حال الوصول، شرط أن يكون الهدف المشترك هو مصلحة رأس بعلبك وأهلها”.
“بلديّة ظلّ” للمساءلة؟
كانت النتيجة الطبيعيّة لسنوات من غياب العمل البلديّ في رأس بعلبك، شللًا إنمائيًّا واضحًا. في هذا الصدد يشير عصام منصور إلى أنّ “التنمية في البلدة لطالما كانت في المرتبة الثانية بينما يتقدّم الولاء الحزبيّ على أيّ مشروع تنمويّ فعليّ. فغالبًا ما ينتخب الناس الحزب، لا البرنامج، في وقتٍ تفتقر فيه البلدة إلى مقوّمات أساسيّة كالمشاريع السياحيّة والزراعيّة، الطاقة الشمسيّة، خزّانات وبرك المياه، وسواها من البنى التحتيّة الحيويّة”.
من جهته، يُعدّد مسعود اللقّيس ما تحتاجه بلدة رأس بعلبك اليوم “بدءًا من المياه والكهرباء والنقل المشترك لربط البلدة بالجامعات وتخفيف الأعباء عن طلّابها الذين يعانون مشقّات يوميّة للوصول إلى مقاعدهم الدراسيّة”.
ويشير اللقّيس إلى أنّ “المجلس البلديّ المقبل سيكون أمام مهمّات ضخمة، في ظلّ الانهيار الاقتصاديّ والإفلاس في معظم البلديّات. ومع ذلك، أرى في الجمعيّات شريكًا محتملًا، وفي عائدات الخليوي والهاتف موردًا يمكن استخدامه بحكمة من أجل إنماء فعليّ، إن توافرت الإرادة والشفافيّة”.
وفي هذا الإطار، يقترح اللقّيس إنشاء “بلديّة ظلّ تراقب عمل المجلس وتُبقي المواطنين على اطّلاع دائم بما يُنفّذ وبما يُنفق، في محاولة لترسيخ ثقافة المساءلة والمشاركة العامّة في رسم مستقبل البلدة”.
من المتوقّع أن تشهد الانتخابات البلديّة والاختياريّة المقبلة في رأس بعلبك ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة المشاركة، بعد أن كانت منخفضة في الدورات السابقة
مشاركة مرتقبة لتحدّيات الغياب
من المتوقّع أن تشهد الانتخابات البلديّة والاختياريّة المقبلة في رأس بعلبك ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة المشاركة، بعد أن كانت منخفضة في الدورات السابقة. ويُعزى هذا التغيير إلى وجود ثلاث لوائح انتخابيّة، إحداها تطرح مشروع تغيير فعليّ، ما قد يدفع شريحة جديدة من الناخبين إلى المشاركة.
وفق لوائح الشطب، يبلغ عدد الناخبين في البلدة نحو خمسة آلاف، فيما لم يتجاوز عدد المقترعين في الانتخابات السابقة 2600 ناخب. ويعزو بعض المتابعين للمشهد الانتخابيّ هذا التراجع إلى عاملَين أساسيَّين: أوّلهما أنّ نسبة كبيرة من أهالي البلدة ينتمون إلى السلك العسكريّ، ما يصعّب مشاركتهم، وثانيهما أنّ قسمًا من السكّان يقيمون في الخارج، إمّا كمغتربين دائمين أو موقّتين، ما ينعكس سلبًا على حجم المشاركة الفعليّة في الاستحقاقات المحليّّة.
معركة لم تُحسم
وكما في كلّ دورة انتخابيّة، يبقى الثابت الوحيد استحالة استئثار لائحة واحدة بكامل مقاعد بلديّة رأس بعلبك، مهما بلغت قوّتها. وفي هذا السياق، يوضح عصام منصور أنّ “معالم المعركة لا تزال ضبابيّة، بانتظار استكمال تشكيل اللوائح، إذ يُعتبر السعي نحو التحالفات هو العنوان الأبرز في هذه المرحلة بغية حصد أكبر عدد من الأصوات”. ويرجّح منصور أن يفوز ائتلاف يجمع بين مكوّنات اللوائح الثلاث.
بدوره، يتوقّع اللقّيس بأن تخرق اللائحة التي يترشّح ضمنها بعدد من الأصوات. أمّا في ما يخصّ الشائعات التي راجت حول انسحابه وتعثّر ولادة اللائحة الثالثة، فيؤكّد اللقيس لـ ” مناطق نت” استمراره في الترشّح حتّى اللحظة، مشيرًا إلى أنّ العمل جارٍ على استكمال تشكيل اللائحة، وأنّ المفاوضات لا تزال مفتوحة بانتظار ما ستؤول إليه في النهاية.
ويبقى يوم الـ 18 من أيّار (مايو) هو الفيصل، على أمل أن يُحدث هذا الاستحقاق خرقًا في جدار المراوحة، ويسلك التغيير طريقه في بلدة تحتاج فعلًا إلى بلديّة فاعلة وقرار مستقلّ.