أسطورة الشرف واستغلال جسد المرأة للهيمنة والعقاب

يولد جسد المرأة في مجتمعاتنا مثقلًا بأعباءٍ تتجاوز طبيعته البيولوجيّة، ليتحوّل إلى رمز جماعيّ يُلقى عليه عبء الحفاظ على ما يُسمى بـ “شرف” العائلة والمجتمع بأسره.

ومنذ الطفولة، تُلقّن الفتاة دروس الصمت والخوف والحذر المغلّفة بعناوين مثل “العيب” و”الحياء” و”السمعة”، ضمن عمليّة تربويّة ممنهجة عميقة الأثر في تشكيل وعيها ونظرتها إلى كيانها وجسدها.

هذه المفاهيم التي يُروّج لها كـ “قيم أخلاقيّة”، تُستغلّ كآليات مُحكمة للسيطرة على حرّيّة المرأة الجسديّة: حركتها، مظهرها، سلوكها، وحتّى اختياراتها الحياتيّة والشخصيّة. وتَمنح العائلة والمجتمع حقّ التطفّل على قراراتها الخاصّة التي تبدأ من حرّيّة اللباس والتنقّل، ولا تنتهي عند العلاقات العاطفيّة والتدخّل في اختيار الشريك، وتُضفي غطاءً وشرعيّةً على قتل الفتيات والنساء وتعنيفهنّ جسديًّا.

هذا الربط بين أجساد الفتيات والنساء و”الشرف” يفضح بنيةً سلطويّةً عميقةً تُخضعهن إلى رقابة المجتمع، فتُجسّد منظومة “العيب” و”العار” أداةً فعّالةً لاستمرار إعادة إنتاج هياكل الهيمنة الجندريّة، والتحكّم بأجسادهنّ جيلًا بعد جيل.

“العذريّة” كأداة للرقابة

لعلّ أبرز تجلّيات هذا الربط هو اختزال قيمة المرأة في مفهوم “العذريّة”، ليتحوّل هذا الغشاء الهشّ إلى شرطٍ للقبول الاجتماعيّ، وتُبنى على أساسه مصائر فتياتٍ ونساءٍ كثيرات، وتُرتكب باسم حمايته أو استرداده جرائم يُباركها المجتمع ضمنيًّا. وتُمثّل ما تُسمّى بـ “جرائم الشرف” مثالًا واضحًا على وظيفة هذا المفهوم القمعيّة، والعنف المنهجيّ ضدّ الفتيات والنساء في المجتمعات الأبويّة.

منذ ولادة الفتاة يتحوّل جسدها إلى مساحةٍ رمزيّة، يُقيّدها المجتمع بسلاسلٍ من الخوف من “الفضيحة” والنبذ والعنف، ويُخضع تفاصيل حياتها اليوميّة لمراقبةٍ صارمة مستمرّة تحت مسمّيات “الفضيلة”.

ففي لبنان، وعلى الرغم من من إلغاء المادّة 562 من قانون العقوبات التي كانت تمنح عذرًا مخفّفًا لمرتكبي هذا النوع من الجرائم، لا يزال القتل بذريعة “الشرف” مستمرًّا، ما يشير إلى أنّ القانون لم يكن كافيًا لمعالجة أسبابها الثقافيّة والاجتماعيّة.

وتستخدم العائلة أو الشريك هذا “العقاب” في حقّ أيّ فتاة أو امرأة بسبب أيّ سلوكٍ سواء كان حقيقيًّا أو مجرد اتّهام، ومن يتعرّضن لأيّ اعتداءٍ جنسيّ أيضًا. فبحسب دراسةٍ أعدّتها منظّمة “أبعاد” العام 2022، تمتنع ستّ من كلّ 10 نساء تعرّضن للاعتداء الجنسيّ عن التبليغ خوفًا من وصمة “العار” ومن القتل.

حين تتواطأ القيم والسلطة

في البنية الثقافيّة التقليديّة السائدة، تُنتزع من المرأة حرّيّتها في تقرير مصيرها الجسديّ والعاطفيّ وفي أن تكون كائنًا حرًّا، وتُسجن في دائرة مغلقة تُشرعن التمييز والعنف والهيمنة تحت غطاء “القيم” و”الأخلاق”.

فمنذ ولادة الفتاة يتحوّل جسدها إلى مساحةٍ رمزيّة، يُقيّدها المجتمع بسلاسلٍ من الخوف من “الفضيحة” والنبذ و العنف، ويُخضع تفاصيل حياتها اليوميّة لمراقبةٍ صارمة مستمرّة تحت مسمّيات “الفضيلة”.

أمّا جسد الرجل فلا يُحمّل هذا العبء ولا تُترجم سلوكيّاته الجنسيّة “فضيحة” تُهدّد نسيج العائلة أو تُعرّضه للنبذ الاجتماعيّ، بل تتحوّل إلى “مغامرات” ورمز لـ “فحولته” ورجولته.

هذا التمييز الممنهج يُثبت أنّ هذا المفهوم لم يُستخدم يومًا لحماية المرأة بل لترويضها وتقييدها، فكلّما كان هذا الجسد خاضعًا للرقابة والتحكّم كلما ضمنت الأنظمة الأبويّة القائمة، سواء العائليّة أو السياسيّة أو الدينيّة، استمرار سيطرتها وإعادة إنتاج هيمنتها. ولا يُعدّ هذا التحكّم مجرّد بقايا عادات اجتماعيّة عتيقة، بل هو أداة مركزيّة في ترسيخ هذه الأنظمة التي تتواطأ فيها القيم مع البنى الذكوريّة.

نحو تفكيك أسطورة “الشرف”

في مجتمعاتنا، تخوض الفتيات والنساء معارك وصراعات يوميّة ضدّ منظومة بطريركيّة متكاملة، تبدأ من المنزل ولا تنتهي عند حدود الدولة، من أجل تفكيك هذا الرابط بين “الشرف” وأجسادهنّ.

يمكن لإحداث إصلاحات في البنى التربويّة عبر إدراج مفاهيم مثل السيادة الجسديّة ضمن المناهج منذ مراحل التلميذ المبكرة، أن يساعد في بناء وعي جمعيّ جديد يُعلي من شأن الحرّيّة الفرديّة.

لكن، لاستيعاب هذا المفهوم بشكلٍ أكثر عدالة، يجب انتزاعه من دائرة جسد المرأة وإعادته إلى معناه الحقيقيّ، وبناؤه من جديد على أسس إنسانيّة ليكون مرادفًا لقيم مثل النزاهة والصدق والاحترام بمعزلٍ عن النوع الاجتماعيّ.

وللوصول إلى مجتمع أكثر عدلًا ومساواة، يمكن لإحداث إصلاحات في البنى التربويّة عبر إدراج مفاهيم مثل السيادة الجسديّة ضمن المناهج منذ مراحل التلميذ المبكرة، أن يساعد في بناء وعي جمعيّ جديد يُعلي من شأن الحرّيّة الفرديّة.

كذلك يتطلّب هذا الأمر تغييرًا في الخطاب الإعلاميّ الذي يلعب دورًا محوريًّا في إعادة إنتاج الصور النمطيّة المرتبطة بالـ “شرف”، ليُرسّخ سرديّات جديدة تُظهر أنّ الأخلاق لا ترتبط بالمراقبة المجتمعيّة أو المعايير الموروثة.

ولا يكتمل تفكيك هذا المفهوم قبل كلّ شيء من دون تجريم واضح وصريح لكلّ أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، وإقرار تشريعات عادلة وحامية تُنصف الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى