معرض بيروت للكتاب المدينة تكتب نفسها

عند مدخل “سي سايد أرينا”، لا يشعر الزائر أنه يخطو نحو مجرّد قاعة معارض، بل إلى مساحة تتقاطع فيها الطقوس مع الذاكرة، حيث الكتب تُعرض كمرمزات حيّة، لها جاذبيّة الشموع وسط ليل طويل. الجوّ يحمل نبرة احتفال هادئ، كما لو أنّ المدينة، بكلّ ما عبر فوقها من أزمات، قرّرت أن تردّ على ضجيج الشاشات برقّة الورق. لا يتعلّق الأمر بالمقارنة بين وسائط، بل بإصرار ثقافيّ على تثبيت حضور لا يمكن نسخه، أو تحويله إلى مجرّد بيانات. الكتاب، في هذا السياق، يتحوّل إلى أداة مقاومة، وشكل من أشكال الصمود الرمزيّ، والبلد لم يخرج من الحرب بشكل كلّيّ، والأبنية في مرحلة رفع الركام.
توقّع السيميائيّ الإيطاليّ أمبرتو إيكو أن يبقى الكتاب على قيد الحياة، كما بقيت الدراجة الهوائيّة وملعقة الطعام، لا لأن التكنولوجيا لم تُنتج البدائل، بل لأنّ تلك الأشياء البسيطة تحتفظ بقيمة لا تنضب. ما ينطبق على الملعقة والدرّاجة، ينطبق على الكتاب بوصفه أداة عضويّة للفهم، وشاهدًا ناعمًا في زمن قاسٍ. في معرض بيروت العربيّ والدوليّ للكتاب، البالغ دورته السادسة والستّين، يتجلّى هذا البعد بوضوح. الكتب هنا ليست استعراضًا ثقافيًّا، بل محاولة متجدّدة لإثبات معنى الوجود، وسط مدينة تتغيّر من دون أن تنكر ذاكرتها.
زيارة المعرض طقس جماعي
تأتي الناس إلى هذا الحدث كما لو أنّهم يلبّون نداءً سنويًّا، فيه طابع الاحتفال وفيه أيضًا روح الالتزام. الأرضيّات الحمراء التي تغطّي الممرّات، الأرصفة الموقّتة المتوّجة بالأرفف، الأضواء التي تسطع فوق العناوين، والطاولات الجديدة المخصّصة لدور النشر، كلّ ذلك يُشكّل بنية مسرحيّة تنتظر جمهورها. ليس من النادر أن ترى زوّارًا يرتدون أفضل ما عندهم، أو يحملون باقات ورد هدايا رمزيّة لحفلات التوقيع. هذه ليست سلوكيّات استهلاكيّة، بل تعبير عن شعور داخليّ بأنّ المشاركة في هذا الحدث هي شكل من أشكال الحضور الاجتماعيّ والثقافيّ.

هناك من يقرأ العناوين كما لو أنّه يسترجع حياته، وثمّة من يتنقّل بين الأجنحة وكأنّه يتجوّل في حديقة للأفكار. تتجاور كتب الطفولة مع مذكّرات المنفى، وتلتقي الروايات الحالمة مع الدراسات السياسيّة والأنثروبّولوجيّة. تتحدّث الكتب هنا بلغات كثيرة، لكنّها تشترك في هدف واحد: أن تعيد إلى المدينة صوتها المتقطّع.
بيروت الحاضنة للفكر
في هذا المعرض، تبدو بيروت وكأنّها تُعيد اكتشاف وظيفتها الأصليّة كحاضنة للفكر، ومنفى اختياريّ للكتاب والمفكّرين المطرودين من أنظمتهم، وواحة حرّيّات وسط رمال أجهزة الرقابة.
لأيّام عشرة يتصدّر الكتاب الواجهة، مثل صيغة بديلة من النشرات الإخباريّة المسمومة، وكأداة استبصار واستقراء لما هو قادم من تحوّلات ومخاوف وآمال.
لطالما كانت بيروت، في مقاهيها كما في معارضها، وطنًا بديلًا للمنفيّين. بين الرصيف والكتاب، بين الكلمة والمنفى، تشكّلت في بيروت جغرافيا رمزيّة للحرّيّة، تُعاش كذلك بكثافة مضاعفة، مثل لو أنّ كلّ لحظة معرض هي طقس جماعيّ في حضرة الكلمة.
ليس غريبًا إذًا أن يعود المعرض بقوّة كما لو أنّه نداء رمزيّ: إنّنا ما زلنا نقرأ، لأنّنا نريد أن نفهم. نكتب، لأنّنا نرفض أن نصمت.
شغف تفكيك اللحظة
تكشف العناوين المعروضة هذا العام عن نبض متحوّل: اهتمام متزايد بالكتابات السياسيّة، بالذاكرة، بالحروب، بالسرديّات المهشّمة، بالهويّات المكسورة التي تحاول إعادة تركيب ذاتها من الحبر والندبة. هناك عديد من الكتب المترجمة، وكذلك الحضور اللافت للاصدارات الشعريّة والروائيّة بما يعكس شغفًا متزايدًا في فهم اللحظة، في تفكيك الحاضر، وفي التنقيب داخل الأنقاض النفسيّة والاجتماعيّة للناس ممّن عاشوا على حافّة الخوف والانفجار والانهيار.
ليس غريبًا إذًا أن يعود المعرض بقوّة كما لو أنّه نداء رمزيّ: إنّنا ما زلنا نقرأ، لأنّنا نريد أن نفهم. نكتب، لأنّنا نرفض أن نصمت. ننشر، لأنّنا نراهن على أنّ المعنى حتّى لو كان هشًّا ومبعثرًا فهو لا يزال قادرًا على جمع الناس ولو مرّة في السنة، حول طاولة، في مقهى، أو في جناح داخل قاعةٍ مُطوّقةٍ بالأمل والخراب على حدّ سواء.
بين الأرنب والتاريخ الطائفي
في إحدى الزوايا، ينهمك طفل بقراءة كتاب عن ديك وأرنب، فيما يتناقش والداه حول كتاب عن تاريخ الطائفيّة. تتقاطع اللحظة الحميمة مع الفكرة الكبرى، وتتجسّد بيروت بوصفها مدينة تعرف كيف تجمع الأضداد: البراءة والتأمّل، الحكاية والتحليل، الطفولة والوعي التاريخيّ.
أمّا المعرض ككل، فهو أكثر من مساحة بيع وشراء، هو مساحة استذكار. تقف فيه المدينة أمام مرآة مصنوعة من الورق والحبر، وتتأمّل انعكاسها الذي لا يشبه صور الإعلانات. هنا يُعرض تاريخ سينمائيّ منسيّ، وهناك تتكدّس كتيّبات عن وجع فلسطين، وفي كلّ ركن، تتسلّل بيروت من جديد لتقول شيئًا لم يعد أحدٌ يسمعه في نشرات الأخبار. إنّها تحاول عبر الكتب أن تروي قصّتها بنفسها، لا من خلال مترجمين أو وكلاء.
إصرار شبه صلاة
إذا كانت التكنولوجيا تُسرّع في محو الطقوس الجماعيّة، فإنّ معرض بيروت للكتاب يُعيد تثبيت واحدة منها بإصرار يشبه الصلاة. لا تزال الطاولات تُعدّ بعناية، الندوات تُعقد كأنّها مجالس شورى فكريّة، الكتب تُوقّع وسط ضوء خافت من الأمل، والأحلام القديمة تُبعث من جديد، ليس كحنين بل كفعل مقاومة. ليس لأنّ الكتب تملك حلولًا جاهزة للأزمات، بل لأنّها وحدها تجرؤ على طرح الأسئلة، وتفتح الهوامش في زمن يضيق فيه المتن.
هنا، لا يكون الكتاب ترفًا ولا عادة اجتماعيّة، بل ضرورة وجوديّة. وحين يحمل طفلٌ كتابًا أكبر من كفّه، أو يمدّ أحدهم يده ليوقّع اسمه في آخر الصفحة، تتجدّد المدينة من بين الركام، كما لو أنّ المعنى نفسه ينهض ويسيّر الحروف على الإسفلت.
وفي هذا المعرض، لا يكتفي الحاضر بإعادة تركيب جملته الداخليّة، بل يشتاق إلى الذين غابوا، أولئك من صنعوا للمكان روحه. يشتاق إلى رياض الريّس، الناشر الذي لم يكن يبيع كتبًا بل يُطلِق مع كلّ إصدار شغبًا فكريًّا صغيرًا. يشتاق إلى جلسات إلياس خوري في الكافيتيريا، حيث كان يخلط السياسة بالرواية كمن يمزج القهوة بالحبر. إلى تجوال الشاعر محمّد علي شمس الدين بين الأروقة، كأنّه يبحث عن قصيدة ضاعت منه ذات يوم. إلى لحظة توقيع الرئيس سليم الحصّ، ذاك المتقشّف في لغته كما في حياته، الذي منح الكتاب هيبة رجل دولة يعرف أنّ الكلمات مسؤوليّة لا نزوة.
بيروت تكتب نفسها
في زمن يُقال فيه إنّ الشاشة انتصرت، تقدّم بيروت مشهدًا حيًّا يُكذّب هذا الإعلان. بين البحر الذي لا يزال صامتًا والمباني المتعبة التي تقف كشهود من زمنٍ لم ينتهِ، يلمع المعرض بوصفه احتفالًا بالنجاة. ليس ترميمًا للجدران وحسب، بل لإيقاع الجملة، لدفء اللقاء، ولتلك العلاقة السحريّة بين يدٍ تقلّب الصفحة وأذنٍ تسمع ارتعاشة الورق.
هكذا، تكتب بيروت نفسها من جديد. ليس بحثًا عن ماضٍ كانت فيه جميلة فقط، بل لتعلن وسط العتمة أنّها تعرف من تكون. مدينة حين تمسك القلم، لا تكتب لتوثّق الوجع، بل لتقترح سردًا آخر، وسيناريو لا يشبه ما يُكتب عنها من بعيد. سردًا فيه ما يكفي من التحدّي، وما يكفي من الحبر لتُكمل الحياة.