قراءة في إصدارات محمّد علاءالدين.. ظلال الآلهة على جدران الغياب

على الرغم من كون معرض الكتاب قد مضت عليه فترة قصيرة، لكن، وبشكل عام، لا يمكن اعتبار المعارض مجرّد مساحة لاستعراض نتاج معيّن، بل هي محطات لإعادة تموضع الوعي في الخارطة الثقافيّة للبلد المنظِّم هذه التظاهرة. وحين يتعلّق الأمر بالكتاب تحديدًا، فإنّ التنقّل بين دور العرض لا يهدف فقط، من حيث المبدأ، إلى المشاهدة أو الاقتناء، بل إلى المساءلة. فكلّ كتاب هو فرضيّة، وكلّ مؤلَّف هو مقترح تأويليّ للعالم، يفتح مسارًا في دروب المعرفة، أو يستكمل ما كانت اقترحته سرديّات سابقة.
في هذا السياق، يصبح الذهاب إلى معرض الكتاب أقرب إلى مراجعة فلسفيّة، من أجل اختيار النصوص التي تشكّل أدوات الإدراك والتفكيك، لا مجرّد التسلية أو الزينة الثقافيّة. هناك، حيث تُوقّع الكتب، لا نحتفي بالمؤلّف، كما يفترض كثيرون، لكنّنا نرصد موقعه في حقل المعرفة، وضمن سيرورة الأفكار.
في جناح “منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافيّ”، وأمام جمهور نوعيّ جمعه “مجلس بعلبك الثقافيّ”، وقّع الدكتور محمد علاءالدين إصداراته الأدبيّة: مسرحيّة “صحوة الآلهة”، وديوانًا شعريًّا تحت عنوان “كتابات على جدران معبد فينيرا”. لكنّ هذا التوقيع لم يكن مجرّد احتفاءٍ بكتاب، أو كتابين، بل لحظة كشف عن مشروع فكريّ يزاوج بين العمق الفلسفيّ والتجربة الإنسانيّة.

علاءالدين، الطبيب المتخصّص في أمراض الجهاز الهضميّ، والمتخرّج من الجامعات اللبنانيّة والروسيّة، لم يأتِ إلى الأدب كزائر، بل كمنقّب في طبقات المجتمع البشريّ، وهو يحاول معالجة الكائن لا في جسده وحسب، بل في كيانه أيضًا.
صحوة الآلهة
في زمن تداعت فيه القيم مثلما تداعت حجارة البيوت في زمن الحرب التي مرّت علينا أخيرًا، تبدو مسرحيّة “صحوة الآلهة”، أشبه بصرخة آتية من قلب قلعة بعلبك، تستنطق التاريخ، وتحمّله عبءَ الحاضر، وتستدعي الآلهة القديمة من سباتها الأبديّ لتشهد على أفول الإنسان المعاصر.
داخل المعابد العتيقة، وبين الأعمدة التي صمدت آلاف السنين، يتجلّى الإله الرومانيّ “جوبّيتر” بإرثه الجبّار، تتبعه خطوات “باخوس”، إله الخمرة والمتعة، في مشهد مسرحيّ غارق بالأسى، في مدينة لم تخُرّبها سيوف العدوّ، بل خُذلت بأيدي أبنائها، واختنقت تحت رماد اللامبالاة.
يراقب الإلهان عتبات الزمن من علٍّ، فلا يجدان إلّا الشكوى، والماضي المضيء الذي تهاوى. هنا تتجلّى العبقريّة في تقديم رؤية فنّيّة تجمع بين الحسّ الميثولوجيّ والوجع الاجتماعيّ، حيث يستحيل الحارس الليليّ لمعبد جوبّيتير شخصيّة محوريّة، وهو الإنسان العاديّ الذي يئنّ تحت وطأة الخذلان. يقف الحارس بين الآلهة كجسرٍ مكسور بين الماضي والحاضر، يروي بؤسه كما يروي تاريخًا لم يعد يُقرأ، يبكي قناديلَ كانت تُضاء بفرح الزائرين، وباتت تُطفأ بصمت الخائبين. تتسلّل كلماته إلى المتفرّج من أجل إيقاظه تمامًا كما أراد الكاتب أن يوقظ آلهته، لا ليعودوا إلى العبادة، بل ليحاكموا الغياب.
في هذا العمل، تتشابك الأسطورة بالواقع، في تماهٍ مدهش بين الخيال والحقيقة. فـ”صحوة الآلهة”، عدا عن كونها استعارة أدبيّة، هي مرآة لتساؤل مفاده: متى تصحو الشعوب من خدرها؟
تشابك الأسطورة بالواقع
في هذا العمل، تتشابك الأسطورة بالواقع، في تماهٍ مدهش بين الخيال والحقيقة. فـ”صحوة الآلهة”، عدا عن كونها استعارة أدبيّة، هي مرآة لتساؤل مفاده: متى تصحو الشعوب من خدرها؟ ومتى تعود الروح إلى المعابد، لا كأماكن سياحيّة، لإنّما كرموز حضاريّة تستحقّ الحياة؟
لا يكتب علاءالدين كهاوٍ، بل كمن قرأ الجسد والروح معًا، واستطاع أن يشخّص أمراض الزمن، إضافة إلى عمله الأساسيّ كطبيب يعمل على تخفيف آلام البشر. أمّا مسرحيته فهي، كما لحظنا، عبارة عن عرض دراميّ، وتشخيص فلسفيّ لحالة شعب، وحوار صامت بين الماضي الذي لا تمحوه الأيّام، والحاضر الذي لا تستقيم أموره.
كتابات على جدران معبد فينيرا
ومن المعبد الرومانيّ الأكبر والأشهر ينتقّل علاءالدين، في مؤلّفه الثاني، إلى معبد فينيرا (فينوس)، عبر ديوانٍ شعري كُتب بلغتين: العربيّة والروسيّة، وكأنّ اللغة الواحدة لا تكفي لاحتواء التجربة. في ديوانه “كتابات على جدران معبد فينيرا”، لا يُقال الحبّ بوصفه عاطفة، إنّما بوصفه يقينًا توحيديًّا.
“أشهد بجلالة الواحد الأحد، الحبّ الفرد الصمد…”، ليست افتتاحيّة رومانسيّة، بل تبدو كمادّة نحتٍ ميتافيزيقيّ.
هنا يُعبد الجمال كما يُستحَق وليس كما نراه. هناك، وبدلًا من تقديس الأنوثة تتمّ محاكمتها. الجدران، التي تتميّز بالجماد، تحفظ الجمل المنقوشة بمطرقة الزمن ولا تحفظ اللمسات. هكذا اختار علاءالدين الكتابة كمن يضع مرآةً أمام معبدٍ أسطوريّ ليقرأ من خلالها زوال المعنى وثبات الرمز.
في اختيار معبد فينيرا كخلفيّة للنصّ، يقترح علاءالدين مفهومًا للحبّ كمؤسّسة عالميّة، تُمارَس طقوسها كما يُمارَس الدين في المجتمعات الكونيّة، لا كشعور داخليّ.
يكتب علاءالدين في ديوانه عن مفهوم شعوريّ وليس عن إمرأة.. فالقصائد ليست اعترافات، بل صكوك وجوديّة. وفي اختيار معبد فينيرا كخلفيّة للنصّ، يقترح علاءالدين مفهومًا للحبّ كمؤسّسة عالميّة، تُمارَس طقوسها كما يُمارَس الدين في المجتمعات الكونيّة، لا كشعور داخليّ.
صحيح أنّ اللغة الروسيّة في الديوان هي ترجمة للعربيّة، لكنّها تضيف إليه نكهة خاصّة تحمل آثار الغربة التي عاشها المؤلّف خلال دراسته في البلد الشماليّ. وكأنّ العاشق هنا يريد أن يُترك وحيدًا أمام جداره، يخطّ فوقه آخر محاولات الحنين. الحبّ في هذا السياق يُعلن كما تُعلن الحروب أو كما يُبشّر بالأديان، بشكل مفاجىء ومن دون مقدّمات.
في هذا السياق يصبح معبد فينيرا منصّة للطرح الوجوديّ، وليس مكانًا للعبادة. كيف يمكن الحبّ المتحوّل والمتبدّل أن يكون مطلقًا؟ وكيف يمكن الإنسان، الكائن الموقّت، أن يقيم عهدًا سرمديًّا؟
الشعر أداة لتشريح المعنى
إذًا، الديوان لم يكن احتفالًا بالجمال، إنّما مساءلة له. لماذا تُمنح “فينيرا” كلّ هذه السلطة؟ ولماذا نقف أمامها كمنفيّين من التجربة نفسها قبل الوقوع في شباك العشق؟ إنّ علاءالدين، الطبيب المتشبّع بالعلوم، والكاتب المتشبّع بالأسطورة، يستخدم الشعر كأداة لتشريح المعنى. وهكذا يتحوّل الديوان إلى وثيقة وجوديّة، تتجاوز اللغة من أجل الوصول إلى السؤال الإشكاليّ حول العلاقة الجدليّة بين الشعور العاطفيّ والكتابة. تُرى هل كُتبت على جدران المعبد بعض عبارات الحبّ قبل أن يمحوها الزمن؟
إنّ علاءالدين لا يطلب من القارئ أن يشعر، بل يدعوه إلى الإستيقاظ كي يرى طريقه إلى النجاة. أمّا الآلهة التي يدفعها المؤلّف للصحوة فلم تعد قابلة للعبادة، في حين أنّها تتساءل: متى سقط الإنسان؟