لماذا لا يعود السوريون إلى بلادهم؟

“سقط نظام بشّار الأسد” عبارة طال انتظارها لدى ملايين السوريّين والسوريّات، ولا سيّما اللاجئين واللاجئات منهم، ممّن حملوا وجع الغربة سنواتٍ طوال. لكن، هل يعني سقوط النظام نهاية الحكاية؟

بالنسبة إلى كثيرين، لا. على رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على انهيار النظام، لا يزال آلاف السوريّين في لبنان، لا يفكّرون في العودة حتّى الآن. لكلٍّ منهم أسبابه، وغالبًا ما تتقاطع هذه الأسباب مع شعور عميق بعدم الأمان، وضياع المستقبل، وغياب أيّ ضمانات حقيقيّة للعودة الكريمة.

بيتٌ سقط مع الذاكرة

يقول أبو أحمد، وهو رجل ستّينيّ من مدينة حمص، إنّه لم يعد يملك شيئًا في سوريّا. بيته المؤلّف من طابقين سقط خلال الحرب، ولا يملك ثمن حجر واحد ليعيد بناءه. “لا تعويضات حتّى الآن، لا من الدولة الجديدة ولا من الدول المانحة. فأين سأعيش؟ وماذا سأفعل في هذا العمر؟”، يتساءل أبو أحمد بأسى.

اليوم، اعتاد أبو أحمد على نمط حياته في حيّ الجمّيزة ببيروت، حيث يعيش مع عائلته، ويقضي أوقاته في مقهى قريب برفقة أصدقاء جدد. “أمّا أصدقاء الطفولة في حمص، فإمّا ماتوا أو هاجروا”.

لا يعرف ابنه محمّد سوريّا إلّا من صورٍ باهتة في الذاكرة. تركها حين كان في العاشرة من عمره. “لا أتذكّر سوى الملامح”، يقول. اعتاد العيش في بيروت، حيث درس وتخرّج، وبنى صداقات يصفها باللطيفة، ولا يتخيّل نفسه مبتدئًا من جديد في بيئة لا يعرفها: “لا أحبّ أن أترك أصدقائي… ولا أن يتركوني”، يضيف بابتسامة خجولة.

ليس سوى الفقر والانكماش

في زمن نظام بشّار الأسد، دفعت الخدمة الإلزاميّة آلاف الشباب السوريّين إلى الهروب من البلاد، خشيةً من ماكينة القتل التي لم تهدأ، ومن سنوات الخدمة العسكريّة التي لا تنتهي. اليوم، سقط النظام، وسقطت معه الخدمة الإلزاميّة، لكنّ ذلك لا يكفي لدفع اللاجئين السوريّين إلى العودة.

فرّ سليم، وهو شاب في مطلع الثلاثينيّات، من سوريّا هربًا من الخدمة العسكريّة، لكنّه لا يفكّر في العودة إلى بلاده، على رغم زوال السبب الذي غادر لأجله. يقول: “الوضع الاقتصاديّ في سوريّا سيّئ جدًّا حتّى اليوم. أفضل راتب يمكن أن يتقاضاه شخص هناك لا يتجاوز الـ 300 دولار، وفي حالات نادرة”.

يضيف سليم: “أنا متخرّج من كلّيّة هندسة ميكانيك، صحيح أنّني لا أعمل بشهادتي في لبنان، بل كـ “بارتندر”، ولا أملك أوراق إقامة نظاميّة كحال أكثر من 80 في المئة من السوريّين هنا، لكنّني أعمل في مهنة أحبّها، وتدرّ عليّ نحو 900 دولار شهريًّا مع البقشيش. هذا المبلغ مستحيل أن أحصّله في دمشق أو في أيّ مدينة سوريّة”.

ويتابع سليم: “عدد البارات في دمشق قليل جدًّا، حتّى قبل سقوط النظام، ولا يُقارن أبدًا بما هو موجود في بيروت”.

“علويٌّ” في المنفى

صديق سليم، الذي اختار اسم “عليّ” لأسبابٍ أمنيّة، يقول في حديثٍ إلى “مناطق نت” إنّه لجأ إلى لبنان هربًا من الخدمة الإلزاميّة، لكنّه لا يجرؤ على العودة إلى سوريّا، خوفًا من القتل أو الاعتقال، فقط لأنّه ينتمي إلى الطائفة العلويّة.

“العلويّون السوريّون في موقف حرج اليوم”، يقول عليّ، ويتابع: “الجميع ينظر إلينا وكأنّنا متّهمون، وكأنّنا فلول نظام. كأنّنا بحاجة إلى حمْل صكّ براءة عن أفعال لم نرتكبها. أنا من عائلة فقيرة، استدنت المال كي أتمكّن من السفر إلى بيروت. لم نجنِ يومًا أيّ فائدة من النظام، بل كنّا ضحاياه مثل غيرنا. لكن هل يدرك أحد هذه الحقيقة؟ لا أظنّ، وسط هذا الكمّ من الفوضى والأحكام المسبقة.”.

يضيف عليّ: “لا أريد الموت، ولا أن أُقصى هناك فقط لأنّني علويّ. ثم إنّ المغادرة من لبنان بشكل نظاميّ لمن لا يحمل إقامة، مثلي، تؤدّي إلى ختم “منع دخول” على الأوراق. حتّى لو قرّرت زيارة سوريّا فقط لمعرفة ما يجري، ربّما أخسر العودة إلى لبنان نهائيًّا، ولا أقبل الدخول تهريبًا، خصوصًا في ظلّ الأوضاع الراهنة”.

حرّيّة مفقودة

رزان، شابّة سوريّة في منتصف العشرينات، وصلت إلى لبنان مع عائلتها في مطلع العام 2015، قادمة من ريف دمشق. فُتحت لهم الحياة في بيروت من باب المطبخ؛ إذ إنّ والد رزان، “الشيف”، وجد فرصة عمل جيّدة، فقرّروا البقاء، وتعلّقوا بالمكان والجيران.

رزان: أنا غير محجّبة، ولا أريد أن أتحجّب. في المدن الريفيّة، الفتاة غير المحجّبة لا ترتاح في الشارع، ولا حتّى إذا تأخّرت في العودة إلى المنزل.

وعلى رغم الصعوبات المتزايدة في تجديد الإقامة أخيرًا، ترفض رزان فكرة العودة إلى مدينتها في ريف دمشق، وتقول لـ “مناطق نت”: “بيتنا تضرّر في الحرب، ولا يمكن إصلاحه. المشكلة أنّ المدينة هناك باتت شبه ميّتة. بعد الساعة الثامنة مساءً تختفي المواصلات، ولا كهرباء، لا ماء، لا حياة، ولا أصدقاء. والأسوأ من كلّ ذلك أنّ الناس هناك يتدخّلون بكلّ تفصيلة في حياتك”.

وتتابع: “أنا غير محجّبة، ولا أريد أن أتحجّب. في المدن الريفيّة، الفتاة غير المحجّبة لا ترتاح في الشارع، ولا حتّى إذا تأخّرت في العودة إلى المنزل. الكلّ يتهامس، وكأنّها ترتكب عارًا. أمّا هنا في بيروت، فأعيش حياتي بحرّيّة. مدينة جميلة، لا تنام، ولا تفرض قيودًا غريبة على أحد”.

الهويّة الجندريّة تهدر الحياة

“نحنا على أيّام بشّار الأسد ما حدا طايقنا، هلأ على أيّام الشرع بدّك يحبّونا نحنا المِثليّين؟”. بهذه العبارة الساخرة، يختصر زوربا- وهو اسم مستعار لشاب سوريّ مِثليّ الجنس- موقفه الحاسم من فكرة العودة إلى سوريّا. بالنسبة له، الأمر ليس مجرّد قرار، بل تهديد مباشر لحياته.

يعتبر زوربا أنّ العودة إلى سوريّا تعني المجازفة، بخاصّة إذا قرّر أن يعيش حرّيّته في الملبس والمظهر. يروي كيف يقرأ على وسائل التواصل عن شبّان يتعرّضون لمضايقات من أجهزة الأمن لمجرد ارتداء الشورت. “فكيف إذا كنت مِثليّ؟ وكيف إذا كنت بحبّ ألبس حلق بإذني أو منخاري؟”، يسأل.

في لبنان، يرى زوربا أنّ مظاهر التعبير عن الذات مقبولة نسبيًّا، بينما في سوريّا، بحسب وصفه، “لن تكون طبيعيّة أبدًا”، وبخاصة مع نظام جديد يتبنّى خطابًا محافظًا بخلفيّة إسلاميّة.

زوربا: شخص مثليّ الجنس سيبقى منبوذًا حتّى لو نادى بالحقّ. دمي مهدور، وقد يُقتل أحدهم ويقال عنه “الله لا يرحمو… شاذ

“كنت دومًا ضدّ بشّار الأسد ونظامه، ووقفت مع الثورة”، يقول زوربا ويردف: “لكن للأسف، شخص مثليّ الجنس سيبقى منبوذًا حتّى لو نادى بالحقّ. دمي مهدور، وقد يُقتل أحدهم ويقال عنه “الله لا يرحمو… شاذ”. لذا، بالطبع لن أعود. لا أريد البقاء هنا أيضًا. أسعى إلى الخروج من هذه المنطقة كلّها… هذه المنطقة المليئة بالصراعات”.

الحرّيّة حقٌ ممنوع

الحرّيّة الشخصيّة قيمة أساسيّة بالنسبة إلى كاتيا، شابّة سوريّة في أواخر العشرينات من عمرها. تقول في حديث إلى “مناطق نت” إنّها لم تهتمّ يومًا بالسياسة، ولا يهمّها من يحكم سوريّا سابقًا أو حاليًّا. بكلّ صراحة وتضيف: “اتركوني بحالي، وبسّ، ما بدّي شي تاني”.

تحبّ كاتيا السهر والمشاوير والأصدقاء، وارتداء الفساتين في الشارع، وهو أمر طبيعيّ في بيروت لكنّه شبه مستحيل في سوريّا. توضّح: “كثير من السوريّين يظنّون أنّ الحرّيّة الشخصيّة تعني “الفتنة”، لكنّني لست كذلك، أنا مجرّد فتاة تحبّ أن ترتدي ما تشاء، دون مبالغة بالطبع، وأن أسهر مع أصدقائي وأشرب “كاس”. وهذا غير مقبول في مدينتي، دير الزور، التي أنتمي إليها”.

تتابع كاتيا: “لن أشعر بالراحة في سوريّا الجديدة إذا لم أستطع أن أكون على طبيعتي، وأن أعيش كما أريد. لست مستعدّة لأن أصطنع شخصيّة أخرى لا تشبهني، خصوصًا بعد وفاة أمّي هنا في بيروت ومقتل والدي في الحرب بسوريّا، وبقائي وحيدة دون صديق أو معيل. أعمل في شركة مهمّة، وأحبّ عملي، وأريد أن أعيش بحرّيّة واستقلاليّة لا يقبلها كثيرون في بيئتي الأصليّة”.

سوريّا بين الحلم والواقع

يتجسّد سبب رفض السوريّين العودة إلى وطنهم في عوامل جوهريّة عدّة تمسّ واقعهم المعيشيّ والإنسانيّ. فالمنازل المهدّمة وغياب التعويضات والحرّيّات الشخصيّة المحدودة في سوريّا مقارنةً بلبنان، إضافةً إلى الوضع الاقتصاديّ المتردّي، كلّها عوامل تقف حائلًا أمام العودة.

كذلك يُلقي الإقصاء الطائفيّ في المؤسّسات وإدارات الدولة بظلاله على فرص التعايش والاندماج، ممّا يجعل كثيرين يعيدون حساباتهم مرارًا قبل التخلّي عن وطنٍ بديل قدّم لهم الأمان والحياة.

يبقى السؤال المحوريّ: هل ستتمكّن السلطات السوريّة الجديدة من احتواء جميع السوريّين بمختلف انتماءاتهم وطوائفهم؟ وهل يمكن تحقيق ذلك عبر حلول جذريّة وسريعة، تبدأ بإعادة الإعمار وتحسين الاقتصاد والرواتب وصون الحرّيّات والكرامات الشخصيّة والمعنويّة والابتعاد عن كلّ أشكال الإقصاء والطائفيّة؟

الإجابة على هذا السؤال تحدّد مصير مئات آلاف السوريّين الذين يتطلّعون إلى وطن يعودون إليه لا كلاجئين، بل كمواطنين بكامل حقوقهم وواجباتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى