تلامذة الجنوب بمواجهة امتحانات رسميّة لا تقدّر أوضاعهم

مفارقة غريبة تستمرّ منذ اندلاع الحرب في الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 وتتمثّل بصيف وشتاء تحت سماء التعليم. طلاب وتلامذة يتابعون دراساتهم كالمعتاد، وآخرون يسيرون في رحلة دراسيّة مثقلة بالتحدّيات، وهم طلّاب الجنوب، وتحديدًا تلامذة الشهادة الثانويّة، ممّن وجدوا أنفسهم في مواجهة اختبار يتجاوز حدود قدرتهم الأكّاديميّة، إذ فرضت عليهم الحرب ولا تزال (مع وقف إطلاق النار الهشّ)، واقعًا استثنائيًّا قاسيًا، وهو الدراسة على وقع الغارات المستمرّة يوميًّا، وتعليم بنكهة الأمن والأمان المفقودين.
وسط هذه الظروف، تمسّك كثر من التلامذة بالأمل في استكمال عامهم الدراسيّ، لكنّ الامتحانات الرسميّة جاءت لتكشف عن فجوة صارخة في العدالة التعليميّة، إذ تُرك الطلّاب في المناطق المتضرّرة إلى مصائرهم، من دون دعم كافٍ من وزارة التربية، ولا الأخذ بالاعتبار مبدأ تكافؤ الفرص مع زملائهم في المناطق الآمنة.
ووفقًا لبيانات اليونيسف، أدّت الحرب المستمرّة إلى نزوح نحو 11,000 تلميذ وطالب من مدارسهم وإغلاق 50 مدرسة، بينها 12 ثانويّة. وبعد وقف إطلاق النار أُجبرت المدارس الرسميّة في الجنوب على الإغلاق المتكرّر حفاظًا على سلامة التلامذة، بينما كان التعليم يستمرّ بشكل شبه طبيعيّ في مناطق أخرى، الأمر الذي فاقم الفوارق الأكّاديميّة، وأشعل شعورًا عميقًا بالغبن لدى التلامذة الجنوبيّين.
لقد تفاوتت استجابة المؤسّسات التعليميّة إلى هذه الحرب بشكل كبير، فبينما توقّفت الدراسة في المدارس الرسميّة، حاولت المدارس الخاصّة الاستمرار عبر التعليم عن بعد، مستفيدةً من خبراتها المكتسبة خلال جائحة كورونا. أعادت هذه المدارس تفعيل منصّاتها الإلكترونيّة لضمان استمراريّة العمليّة التعليميّة، في حين واجهت المدارس الرسميّة تحدّياتٍ جسيمة، مثل ضعف الإنترنتّ، وصعوبة تنظيم الدروس، وفقدان التلامذة لمستلزماتهم الدراسيّة. بلغ الأمر ببعض الطلاب الاعتماد على تطبيق “الواتساب” كوسيلة تقليديّة للتواصل مع المعلّمين، وهي طريقة غير كافية لتقييم الأداء أو متابعة الواجبات بفعاليّة.

معاناة التلامذة “الرسميّين”
يصف حيدر قبيسي، وهو تلميذ اقتصاد واجتماع من بلدة زبدين، تجربته لـ “مناطق نت” بالقول: “خلال التعليم عن بعد، كنت أشعر وكأنّني أستمع إلى إذاعة، لم أتمكّن من التركيز ولم أستفد بأيّ شيء. وعندما عدنا إلى التعليم الحضوريّ، استغرقت الأمر شهرًا كاملًا لأستعيد تركيزي في الصف”. يتابع قبيسي “حتّى اليوم، أشعر بالإحباط وأسوأ ما أخشاه هو خسارة العام الدراسيّ بأكمله”.
في المقابل، يروي أحمد عيسى، وهو تلميذ علوم حياة نزح من بلدته عيترون إلى إحدى الثانويّات الخاصّة، تجربته بشكل مختلف تمامًا فيقول لـ “مناطق نت”: “أنا واثق من نفسي قبل الامتحانات، لأنّ الإدارة منحتنا فرصةً لتعويض ما فاتنا. حتّى في أيّام العطل، كنّا نأتي إلى المدرسة ونأخذ دروسًا إضافيّة”.
يكشف هذا الواقع عن فجوةٍ هائلةٍ في الاستجابة للأزمة بين المدارس الخاصّة والرسميّة. فبينما استطاعت الأولى وضع خطط مرنة، واستثمار مواردها، والتحرّك بسرعة لتعويض خسائر تلامذتها، وجدت الثانية نفسها تكافح من أجل البقاء.
والمدارس الخاصّة، بفضل إمكانيّاتها المادّيةّ، أنشأت برامج دعم إضافيّة، ووفّرت بيئة تعليميّة محفّزة، بل وذهبت إلى تنظيم امتحانات تجريبيّة لتعزيز ثقة التلاميذ. أمّا المدارس الرسميّة، فكانت تواجه عاصفة من التحدّيات: إضرابات المعلّمين المتكرّرة، توقّف الدروس بسبب القصف المجاور للمدارس (مثل ثانويّتي الصبّاح وميفدون)، وضيق الوقت، وصعوبة إكمال المناهج.
على رغم الاعتراضات الواسعة من تلامذة الجنوب، تمسّكت وزارة التربية بإجراء الامتحانات الرسميّة الموحّدة، من دون حذف بعض الدروس أو اعتماد مواد اختياريّة
الحرب ليست التحدّي الوحيد
يوضح محمّد غندور وهو تلميذ في ثانويّة ميفدون الرسميّة لـ “مناطق نت”: “الحرب لم تكن التحدّي الوحيد. انتقلتُ من مدرسة خاصّة إلى أخرى رسميّة بسبب الظروف الاقتصاديّة، والأوضاع هنا صعبة. الأساتذة يمرّون على الدروس بسرعة، ومع أنّهم يحاولون مساعدتنا، إلّا أنّ كثرًا منهم فقدوا أحبّاءهم أو منازلهم، لكنّهم ما زالوا يصارعون لإنهاء المنهاج، حتّى لو اضطرّوا إلى حذف أو تلخيص الدروس”.
من ناحيتها تشير سوزان، التلميذة في اختصاص الإنسانيّات من بلدة تول، إلى أنّها لجأت إلى أحد المعاهد الخاصّة في النبطية قبل فترة الامتحانات الرسميّة. تتابع لـ “مناطق نت”: “وضعت خطّة للدراسة وأعمل جاهدة لتعويض كلّ ما خسرته من خلال الذهاب يوميًّا إلى المعهد على الرغم من أن كثيرين من أصدقائي لم تكن لديهم القدرة الماليّة كي يعوّضوا ما فاتهم معنا”. تضيف سوزان “بالنسبة إليّ، سأدرس بجدّ لأحصل على منحة وأسافر للدراسة خارج لبنان. لقد فقدت الأمل من هذا البلد”.
وعلى رغم الاعتراضات الواسعة من تلامذة الجنوب، تمسّكت وزارة التربية بإجراء الامتحانات الرسميّة الموحّدة، من دون حذف بعض الدروس أو اعتماد مواد اختياريّة، كما حصل في الأعوام السابقة. قمر، تلميذة من بلدة المحموديّة (جزّين)، تروي لـ “مناطق نت” أنّه “خلال زيارة وزيرة التربية ريما كرامي إلى ثانويّة الصبّاح حاولنا التعبير عن مخاوفنا كتلامذة، لكن لم نأخذ فرصتنا، على الأقلّ كان يجب أن يستمعوا إلينا. نحن بحاجة إلى دعم إضافيّ، سواء من خلال زيادة ساعات التدريس أو بإضافة أيّام دراسيّة. ليس من العدل أن نُعامل كغيرنا ممّن لم يمرّوا بالظروف نفسها. شعرنا بالخذلان”.
وتتساءل قمر بمرارة عن تمسّك الوزارة بالامتحانات هذا العام، على الرغم من الظروف الأمنيّة والمعيشيّة المتدهورة “كيف تصرّ الوزيرة على الامتحانات وترفض إعطاء إفادات، بينما سبق للوزارة أن منحتها خلال انتفاضة 17 تشرين في 2019؟ حينها لم يعترض طلّاب الجنوب، بل كان عديد من المتفوقين يفضّلون الشهادات الرسميّة. أليس الوضع اليوم أخطر ويتطلب قرارات استثنائية؟”.
شبّو: مشاهد القصف، وفقدان الأحبّة أو المنازل، وغياب الدعم النفسيّ الرسميّ والمنظّم، كلّها عوامل تترك أثرًا مباشرًا عليهم، يظهر في ضعف التركيز، وتراجع الدافعيّة
اضطراب الشعور بالأمان
تعكس هذه الشهادات حجم المخاوف والآمال التي عايشها التلامذة خلال الحرب، وتسلّط الضوء على التحدّيات المتراكمة التي لم تقتصر على الجانب التعليميّ، بل امتدّت لتطال صحّتهم النفسيّة. من اضطراب الشعور بالأمان، إلى ضغوط التكيّف مع أوضاع قاسية وصولًا إلى القلق المتزايد حيال الامتحانات والمستقبل الغامض.
في هذا السياق، تؤكّد الإختصاصيّة النفسيّة آمنة شبّو لـ “مناطق نت” أنّ “تأثير الحرب على التلامذة كان بالغًا، وردود فعلهم لم تكن مفاجئة. فمشاهد القصف، وفقدان الأحبّة أو المنازل، وغياب الدعم النفسيّ الرسميّ والمنظّم، كلّها عوامل تترك أثرًا مباشرًا عليهم، يظهر في ضعف التركيز، وتراجع الدافعيّة، والقلق، والتوتّر، والشعور بالعجز وفقدان الأمل”. تتابع شبّو: “يُظهر البعض سلوكًا عدوانيًّا تجاه الأصدقاء أو المعلّمين، فيما يعاني آخرون من أعراض اكتئابيّة حادّة. فهذه الفئة العمريّة حسّاسة للغاية، ومع غياب المتابعة النفسيّة، ربّما تتراكم الصدمات وتترك ندوبًا نفسيّة عميقة تعوق قدرتهم على مواجهة التحدّيات وتحقيق إمكانيّاتهم الأكّاديميّة والمهنيّة في المستقبل”.
تحذّر شبّو من خطورة غياب الدعم النفسيّ: ” كان يفترض أن تتبنّى المؤسّسات التعليميّة خطّة طوارئ شاملة، تتضمّن جلسات دعم نفسيّ فرديّة وجماعيّة، إضافة إلى استشارات متخصّصة لمعالجة حالات أكثر تعقيدًا”.
على الوزارة أن تتحرّك
وتختم حديثها بالقول: “أتمنّى أن تلقى معاناة الطلاب الاهتمام الذي تستحقّه. هذه ظروف استثنائيّة، وتتطلب استجابة استثنائيّة. على الوزارة أن تتحرّك لإرسال مرشدين نفسيّين وخبراء لمتابعة الحالات الحسّاسة بشكل عاجل، فالصحّة النفسيّة لهؤلاء التلامذة على المحكّ، ومصيرهم الدراسيّ والاجتماعيّ يتطلّب منّا جميعًا تضافر الجهود لضمان عدم خسارة العام الدراسيّ، والحدّ من التسرّب، وبناء مستقبل أكثر أمنًا وأملًا لهم”.
يعكس صوت هؤلاء التلامذة حجم الضغوط الكبيرة التي يعايشونها، وحاجتهم الملحّة للتفهّم، والدعم الأكّاديميّ والنفسيّ، ومعاملة مرنة قبل لحظة الامتحانات الحاسمة. ففي الوقت الذي توفّر فيه المدارس الخاصّة دعمًا شاملًا أكّاديميًّا ونفسيًّا يتيح لطلّابها مجابهة هذه المرحلة بثقة، يظلّ تلامذة المدارس الرسميّة يشعرون وكأنّهم خسروا مرّتين؛ مرّة لأنّهم غير مسؤولين عمّا حلّ بهم، ومرّة لأنّ الاستجابة من قبل مؤسّساتهم التعليميّة جاءت متأخّرة وضعيفة. ومع غياب الدعم الرسميّ تزداد الفجوة بين القطاعين وتعمّق الهوّة في فرص التعلم العادلة.