اقتراع المعوّقين في البقاع الشمالي.. الاستحقاق مضى والتهميش باقٍ

عند بداية المنعطف المؤدّي إلى متوسّطة الفاكهة الرسميّة، إحدى بلدات محافظة بعلبك الهرمل، يجلس خالد خ. على كرسيّه المُدَولَب، ينتظر معرفة آليّة وصوله إلى قلم الاقتراع. زاروب ضيّق متعرَّج يستحيل مرور أكثر سيّارة، كما يستحيل أيضًا وصول خالد إلى صندوقة الاقتراع، لأنّ المدرسة غير مجهّزة لسير كرسيّه المتحرّك. دقائق طويلة مرّت قبل أن يراه مسؤول إحدى الماكينات الانتخابيّة، فيطلب من شابّين “حمله” كي يُدلي بصوته. هزّ خالد خ. رأسه رافضًا، ثمّ غادر غاضبًا، وهو بحسب ما قاله لـ “مناطق نت”: “لن أشارك في انتخابات لا تعترف بوجودي وكرامتي، بئس الدولة التي تعاملني كإنسان هامشيّ أو مواطن درجة ثانية”.

على الرغم من مرور نحو أكثر من شهر على انتهاء الانتخابات البلديّة والاختياريّة، فإنّ الحديث عمّا حصل فيها لا يزال ضروريًّا لاستخلاص العبر، ومنها هذه الحادثة التي وإن بدت في ظاهرها مجرَّد حالة عابرة، لكنّها فعليًّا تختصر واقع آلاف الناخبين من ذوي الإعاقة في البقاع الشماليّ، حيث إنّ المشاركة السياسيّة لفئات واسعة من المواطنين لا تزال تصطدم بجدران وحواجز كثيرة، بعضها قليل غير إرادي، وغالبيتها أخطاء بشريّة مقصودة، والنتيجة واحدة “حواجز تمنع المعوّقين من ممارسة حقّهم الأساسيّ في الاقتراع بحرّيّة وكرامة وفق إرادتهم”. وفق خالد.

إهمال مزمن في التهيئة

على رغم مرور أكثر من عشرين عامًا على صدور قانون حقوق الأشخاص المعوّقين رقم 220/2000، الذي يحدّد حقوقهم وواجبات الدولة والمؤسّسات تجاههم، لا تزال معظم مراكز الاقتراع في البقاع الشماليّ غير مهيّأة بالمعدّات والوسائل الدّامجة لاستقبال ذوي الإعاقة. بل إنّ بعض هذه المراكز لا تصلح للانتخاب أصلًا، وحدهم من يختارونها يعرفون سبب اختيارها والإصرار عليها ومنع تغييرها على رغم المناشدات.

من إحدى الحملات التي قام بها ذوي الإعاقة (الصورة من المصدر)

يقول الناشط المدنيّ أحمد شمص، من مدينة الهرمل لـ “مناطق نت”: “في المدارس الرسميّة والدوائر والمستشفيات الحكوميّة في محافظة البقاع الشماليّ، لا توجد مصاعد، ولا منحدرات، ولا إشارات توجيهيّة. حتّى دورات المياه غير صالحة كي يستخدمها المعوّقون”. وبحسب شمص فإنّ عدّة تقارير حقوقيّة متخصّصة تؤكّد أنّ “نسبة 70 في المئة من المراكز المختارة كأقلام اقتراع لا تصلح لانتخاب المعوّقين، بل إنّ بعضها يستحيل وصولهم إليها، كلّ هذه العوائق تمنع مشاركة المعوّقين الفعليّة والحرّة في العمليّة الانتخابيّة واختيارهم من يمثّلهم”.

الحملة الوطنيّة دونها الأطراف

في الخامس من أذار العام الماضي، أطلق الاتّحاد اللبنانيّ للأشخاص المعوَّقين حركيًّا، بالتعاون مع وزارات وجهات رسميّة وحقوقيّة ومنظّمات دوليّة مانحة، مبادرة “حقّي 2024” بهدف تعزيز مشاركة الأشخاص ذوي الإعاقة في الاستحقاقات الانتخابيّة البلديّة والتشريعيّة. مشاركة تحترم استقلاليّتهم وكرامتهم ترشيحًا واقتراعًا، إلّا أنَّ صداها في مناطق الأطراف، كالبقاع الشماليّ، بقي خافتًا ودون تفعيل لأسبابٍ كثيرة.

إضافة إلى ذلك ففي قرى وبلدات المحافظة النائية، تتداخل العادات العائليّة والعشائريّة وضعف المعرفة الحقوقيّة، فينتج عنها لا إراديًّا ثقافة النظر إلى الإعاقة على أنّها “عبء كبير” على المعوَّق وذويه. ونادرًا ما نجد مرشّحات ومرشّحين من ذوي الإعاقة، وغالبًا ما يُنظر إلى مشاركة المعوّق في العمليّة الانتخابيّة كـ “مجاملة” أو “مساعدة” أو “عطف وشفقة” لا كحقّ تكفله تشريعات الدستور.

أصوات تكسر التردّد

على رغم التهميش المضاعف الذي يعانيه المعوّقون تبرز أصوات تحاول كسر القوالب النمطيّة وفرض حضورها في الفضاء العام. من بين هؤلاء، زينب عثمان، الشابّة البعلبكيّة ومن ذوي الإعاقة الحركيّة، التي خاضت تجربة الترشيح إلى عضويّة المجلس البلديّ في بعلبك ضمن لائحة “بعلبك مدينتي”. في حديثها إلى “مناطق نت”، تتناول زينب حقّ ذوي الإعاقة الكامل والطبيعيّ في المشاركة السياسيّة، وفي مقدّمتها حقّ الاقتراع، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى سائر المواطنين. وتشدّد على أنّ هذا الحقّ لا ينبغي اعتباره امتيازًا، بل هو جزء أساسيّ من مفهوم المواطنة، مضيفة: “الديموقراطيّة لا تكتمل إلّا بمشاركة جميع الفئات، من دون استثناء أو تمييز”.

وترى عثمان أنّ تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من ممارسة حقّهم في التصويت يتطلّب إزالة الحواجز التي تعوق وصولهم إلى مراكز الاقتراع، وتوفير التسهيلات التي تتناسب مع احتياجاتهم، سواء كانت جسديّة أو بصريّة أو ذهنيّة.

وتضيف: “إنّ إشراك ذوي الإعاقة في العمليّة الانتخابيّة ليس مجرّد التزام قانونيّ وإنسانيّ، بل خطوة أساسيّة نحو بناء مجتمع أكثر شمولًا. فلا يكفي منحهم هذا الحقّ نظريًّا، بل يجب العمل جدّيًّا على تمكينهم من ممارسته فعليًّا، تمامًا مثل أيّ مواطن آخر”.

من جهته يؤكّد طارق المسلماني (48 عامًا)، ابن بلدة الفاكهة البقاعيّة، إصراره على الانتخاب دائمًا والإدلاء بصوته، و”ربّما الترشّح في مرّات مقبلة؛ لا شيء ينقصنا، هذا حقٌ لنا تعطينا إيّاه الحياة وتكفله القوانين، لدينا كمعوَّقين كفاءات كثيرة، طبعًا التحدّيات كبيرة ومضاعفة، لكن بإصرارنا وعزيمتنا ننقل هذه التحدّيات إلى حوافز مشجّعة بدل الركون والاستسلام أمامها”.

واجب الدولة والبلديّات

أعطى الدستور اللبناني المعوَّقين حقّ المشاركة في الانتخابات، ترشيحًا واقتراعًا، لكن للأسف ليس كلَّ ما يُكتَب ويُشرَّع يصبح نافذًا وبحسب الأصول، فابن طرابلس توفيق علّوش ذهب إلى سرايا طرابلس لتقديم طلب ترشيحه، فاصطدم بمنعه من استخدام المصعد الكهربائيّ، في طريقه إلى الطابق الثاني، بناءً على قرار المحافظ السابق رمزي نهرا “يُمنع على المواطنين منعًا باتًّا استخدام مصعدَيّ المحافظة” وعلى رغم جميع المحاولات بحسب علوش “رفض نهرا رفضًا قاطعًا صعودي بالمصعد إلى الطابق الثاني، لتقديم طلب ترشيحي، ما دفع بأحد الضبّاط المتواجدين الإصرار على أخذ طلبي وإجراء امتحان الكتابة حيث أنا، وهذا ما حصل فعلًا، يجب على الدولة اختيار مسؤولين حريصين على إنفاذ وتطبيق القوانين لا جعلها مطايا للمآرب” يختم علّوش.

أعطى الدستور اللبناني المعوَّقين حقّ المشاركة في الانتخابات، ترشيحًا واقتراعًا، لكن للأسف ليس كلَّ ما يُكتَب ويُشرَّع يصبح نافذًا وبحسب الأصول

كسروا كرسيّي وانتخبت

على رغم كلّ الصعوبات والتحدّيات، أصرّ الخمسينيّ عبد السلام الحجيري على الإدلاء بصوته في بلدته عرسال، على الرغم من كسر كرسيّه المتحرّك أثناء حمله على الدرج، فالانتخاب بحسب حديثه لـ “مناطق نت”: “واجب دينيّ إنسانيّ اجتماعيّ. كلّ إنسان واجبه أن يدلي بصوته في الانتخابات البلديّة، لأنّ البلديّة هي لكلّ الناس. وكلّما ارتفعت نسبة الاقتراع، زادت الرقابة على عمل البلديّة”.

يرفض الحجيري بشدّة تخلّف المعوَّقين عن الاقتراع، “نعم حركتنا ناقصة لكنّ إنسانيّتنا مكتملة. صوتنا مش ناقص، وكرامتنا بالتصويت”، قالها بعزم، فهو يرفض مبدأ التهميش ويؤكّد أنّ المشاركة في الحياة السياسيّة وصناعة القرار ليست حكرًا على الأصحّاء جسديًّا.

مطالب محقّة وتوصيات

هذا الواقع المرير بالنسبة إلى المعوّقين، يضع على الدولة واجب إنفاذ القوانين والاتّفاقيّات الدوليّة التي وقَّع عليها لبنان، مثل اتّفاقيّة الأمم المتَّحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة CRPD)) والعهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة لذوي الإعاقة (ICCPR)، كلّ الأسباب والذرائع المقدّمة لتأخير تفعيلها غير مقنِعَة، فقد أحالتها مصادر في المحافظة إلى “صعوبة الوضع وضعف الإمكانات” لكنّ السؤال الأساسيّ: أين هي المبادرات من الأساس وأين توقفت؟

كذلك البلديّات كإدارات محلّيّة واجبها العمل على إنصاف المعوَّقين المتواجدين داخل نطاقها. لذلك يؤكّد عضو بلديّة الفاكهة المنتخب مهنَّد محي الدين، أنّ “البلديّة لن تقبل بإجراء أيِّ انتخابات مستقبلًا لا تؤمّن مشاركة المعوَّقين بالسهولة المطلوبة بعد تأمين المعدّات المساندة والوسائل الدامجة، هذا واجبنا ولا ندّخر جهدًا لتنفيذه”.

من جهتها رفعت منظّمات وهيئات المجتمع المدنيّ، في البقاع الشماليّ، بحسب أحمد شمص، وعلى مراحل، مجموعة مطالب وتوصيات لتسهيل عمليّة اقتراع المعوَّقين والمسنّين، أبرز هذه التوصيات “تجهيز مراكز الاقتراع مسبقًا بممرّات ومصاعد وجميع الوسائل الدامجة. كذلك العمل على تدريب رؤساء وموظّفي أقلام الاقتراع حول أصول التعامل باحترام ومهنيّة مع المعوّقين. توفير وسائل اقتراع بديلة مثل أوراق بلغة برّيل أو إلكترونيّة. كذلك تشجيع الدولة على تبنّي تمثيل المعوَّقين في اللوائح الانتخابيّة ومراكز القرار المحلّيّ يساهم في وضع قضاياهم على طاولة المجالس البلديّة ويضمن متابعتها ومعالجتها”.

في البقاع الشماليّ، لا يُقصى ذوو الإعاقة من المراكز والمناصب وحسب، بل من الحياة العامّة برمّتها. وعلى رغم النصوص القانونيّة والحملات الداعمة، فالواقع ما زال يجرّدهم من حقّ المشاركة الكاملة في العمليّة الديموقراطيّة. فهل يكون الاستحقاق النيابيّ المقبل فرصة لكسر الحواجز والموانع، أم سيكون مجرّد حلقة جديدة من مسلسل التهميش المزمن؟

“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى