لماذا يُثمّن تبغ الجنوب ويُبخس تبغ البقاع؟

ما إن تُذكر “شتلة التبغ” حتى يحضُر معها تلقائيًا الجنوب، حتى صارا متلازمين. هناك، لا تُزرَع النبتة فقط، بل تُروى معها سيرة أرض وناس. فارتباط الجنوب بشتلة التبغ غدا جزءًا من هويته، والشتلة معه لم تبقَ مسألة زرع فقط، بل تحوّلت أوراقها إلى حكاية صمود لا تنفصل عن تاريخه.

لكن، رغم هذا الارتباط الرمزي والتاريخي، فإن زراعة التبغ لم تكن حكرًا على الجنوب وحده. فالبقاع، بمساحاته الواسعة وأراضيه الزراعية الخصبة، احتضن هذه الزراعة في العديد من بلداته وقراه، من البقاع الأوسط إلى بعض مناطق البقاع الشمالي.

تاريخ زراعة التبغ في البقاع يعود إلى الحقبة العثمانية، بالتوازي مع انتشارها في الجنوب، لتصبح مع الوقت جزءًا راسخًا من تراث المنطقة الزراعي. وذلك إلى أن توقّفت رخص الزراعة خلال الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، ثم عادت بعد انتهائها، لتجد في أراضي البقاع ومناخه بيئة مثالية لنموّها، مما سمح بانتشارها واعتبارها بديلاً اقتصاديًا مهمًّا، خصوصًا في محافظة بعلبك-الهرمل.

تنتشر زراعة التبغ في قرى عدة مثل رياق وطاريا وشمسطار وبدنايل وقصرنبا، وصولاً إلى حوش الرافقة ومجدلون ودورس وعدوس، ومنها إلى بوداي وحوش تل صفية ومزرعة بيت مشيك ودير الأحمر وشليفا وكفردان وبساتين مدينة بعلبك. كما تمتد إلى شعت واللبوة وسهولها، ثم تتراجع تدريجيًا كلما سرنا باتجاه الهرمل.

حوالي 32000 دونم هي المساحة المقدّرة لزراعة التبغ في البقاع
 زراعة مدعومة ومنظمة

تُعد زراعة التبغ من الزراعات ذات الأهمية الاقتصادية، إذ نادرًا ما يتكبّد المزارع فيها خسائر. فهي زراعة مضمونة التصريف، إذ تتولى الدولة اللبنانية شراء الإنتاج من خلال إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي”، ما يوفّر استقرارًا نسبياً للمزارعين.

في حديث إلى “مناطق نت” يُشير حسين شحادة شمص وهو مزارع من بلدة شعت البقاعية، إلى أن الخسارة في هذا النوع من الزراعة لا تحدث إلا في حال تلف المحصول نتيجة سوء التجفيف أو إهماله، “كما أن زراعة التبغ لا تعتمد على شروط مناخية معقّدة، وكل تربة تقريبًا صالحة لها شرط تسميدها بالسماد العضوي قبل الزراعة.”

ويحذّر شمص من زراعة التبغ في أراضٍ سبق أن زُرعت بالبندورة أو البطاطا أو الباذنجان، إذ تشكّل هذه المزروعات بيئة حاضنة لطفيلي يُعرف باسم “الجعفير”، يهدّد الشتول ويتسبّب بخسارة المحصول.

أزمة جفاف في الأفق والصرخة تعلو

تبدأ زراعة التبغ عادةً في شهر أيار، وتحتاج نحو شهر إلى شهر ونصف حتى تبدأ مرحلة القطاف. لكن هذا العام كان مختلفًا إذ بادر بعض المزارعين إلى الزراعة في وقت أبكر، تحسّبًا لأزمة الجفاف المتوقعة في أشهر الصيف.

شمص: زرعت هذا العام في وقت مبكر لأستبق أزمة المياه، الصرخة بدأت تتصاعد في أوساط مزارعي التبغ وسائر العاملين في القطاع الزراعي

بحسب المزارع حسين شمص الذي يزرع سنويًا ما بين 6 و12 دنمًا من التبغ في منطقتي شعت وسهل اللبوة، تبدأ عملية زراعة التبغ بتسميد الأرض، ثم تُزرَع الشتول وتُروى باستخدام التنقيط. تُزال الأعشاب الضارّة عند ظهورها، وبعد نحو ستة أسابيع تُقطف أوراق التبغ عندما تنضج.

يتم تجميع الأوراق في خيوط وتعليقها على “مناشر” لتجفيفها، وهي عملية تستغرق أسبوعًا وتشمل رشّها بالماء بشكل دوري. بعد ذلك، تُخزّن في المستودعات إلى حين موعد التسليم لإدارة حصر التبغ والتنباك، والذي يكون عادةً في شهري كانون الثاني وشباط.

ويتابع شمص: “زرعت هذا العام في وقت مبكر لأستبق أزمة المياه، الصرخة بدأت تتصاعد في أوساط مزارعي التبغ وسائر العاملين في القطاع الزراعي، مع تفاقم جفاف الينابيع وانخفاض مستوى الآبار الارتوازية”.

أكثر من 5 آلاف رخصة

تنتشر نحو 5400 رخصة لزراعة التبغ في قرى وبلدات البقاع، بحيث تحتاج كل رخصة إلى نحو 3 دونمات. تجري العادة في أن يزرع المزارع حوالي 5 دونمات لضمان تأمين الـ330 كيلوغرامًا المطلوبة لكل رخصة. وبهذا، يُقدَّر الإنتاج السنوي في البقاع بحوالى مليون و782 ألف كيلوغرام من التبغ، في حين تتراوح المساحات المزروعة ما بين 27 ألفًا و32 ألف دونم.

تستحوذ بلدة بوداي على الحصة الأكبر من هذه الرخص، إذ تضم حوالي 400 رخصة، وتُزرع فيها مساحة تقدّر بـ240 دونمًا، بالإضافة إلى 60 دونمًا في الحفير، ومساحات أخرى في دير الأحمر وشليفا. ويُعد مزارعو بوداي من أصحاب أكبر البساتين في المنطقة.

في هذا السياق، يوضح المزارع أبو حمزة شمص، من بلدة بوداي، والذي يزرع سنويًا نحو 80 دونمًا من التبغ، أن المزارع يحق له امتلاك العدد الذي يشاء من الرخص، عبر شرائها وتسجيلها باسمه. ويعود ذلك إلى توقف إدارة “الريجي” عن إصدار رخص جديدة، ما دفع الكثيرين إلى اللجوء إلى شراء الرخص القائمة كحل بديل.

تبغ الجنوب أعلى سعرًا والبقاعيون يحتجون

رغم الكميات الكبيرة التي يُنتجها البقاع سنويًا، لا تزال أسعار التبغ في المنطقة متدنية مقارنةً بتبغ الجنوب، بحسب ما يؤكد المزارع أبو حمزة شمص، إذ تستلم إدارة “الريجي” كيلو التبغ من مزارعي البقاع بسعر يتراوح بين 5 و6 دولارات، بينما تُسلّمه من مزارعي الجنوب بسعر 8 إلى 9 دولارات، أي بفارق يصل إلى 3 دولارات للكيلو الواحد.

ويشير شمص إلى أن بعض المزارعين في البقاع يُباع إنتاجهم بأسعار أقل، قد تصل إلى 3 أو حتى دولارين للكيلو. كما يتراوح مدخول الرخصة الواحدة بين 600 و900 دولار في أسوأ الحالات، وبين 1500 و1800 دولار في أفضل الأحوال، ما يُظهر تفاوتًا كبيرًا يؤثر مباشرةً على مردود المزارعين.

شمص: بعض تبغ البقاع، وخصوصًا في مزرعة بيت مشيك وشليفا، يضاهي تبغ الجنوب من حيث الجودة، بل يتفوّق عليه أحيانًا

يُعزى هذا الفارق عادةً إلى اختلاف الجودة، لكن شمص يشدّد على أن “بعض تبغ البقاع، وخصوصًا في مزرعة بيت مشيك وشليفا، يضاهي تبغ الجنوب من حيث الجودة، بل يتفوّق عليه أحيانًا، خصوصًا لأنه يُزرع بعلاً، ما يمنحه طابعًا مميزًا”.

النساء عماد زراعة التبغ

لطالما كان للنساء دورٌ أساسي في زراعة التبغ في البقاع، خصوصًا في مرحلتي قطاف الأوراق وشكّها بالخيوط. هذه الزراعة، وعلى مدى سنوات طويلة، قامت بجهود المرأة البقاعية، التي وفّرت لنفسها وبيتها مصدر دخل جيّد، وشاركت بفعالية في دورة الإنتاج الزراعي.

شكّلت النساء العمود الفقري للعمل في الحقول، وكان المزارعون يعتمدون بشكل كبير على أفراد عائلاتهم، خاصة النساء، لإنجاز مراحل أساسية من الزراعة. إلا أن هذا المشهد بدأ يتغيّر مع توسّع المساحات المزروعة، ودخول اليد العاملة السورية، لا سيما في الحقول الكبرى ما خفّف تدريجيًا من الاعتماد على العمل العائلي.

تحديات مستمرة: رخص محدودة ودعم غير كافٍ

لا تخلو زراعة التبغ من التحديات التي تُعرقل تطوّر هذا القطاع في البقاع، سواء على مستوى الزراعة نفسها أو على مستوى المزارع. ويعتبر المزارع حسين شمص أن أبرز هذه التحديات هو العدد المحدود من الرخص المعطاة للمنطقة، رغم أن المساحات الزراعية الشاسعة في البقاع قادرة على استيعاب عدد أكبر من الرخص، ما من شأنه توسيع رقعة الإنتاج وزيادة العائدات.

إلى جانب ذلك، يواجه المزارع البقاعي واقعًا اقتصاديًا صعبًا، إذ أن غالبيتهم يفتقرون لرأس المال الكافي. فزراعة 10 دونمات مثلًا تتطلب ما لا يقل عن 2000 دولار، وهو مبلغ يفوق قدرة صغار المزارعين. من هنا، تبرز الحاجة الملحّة لدور فاعل من وزارة الزراعة وإدارة الريجي، من خلال تقديم التسهيلات، ودعم المزارعين بالأسمدة والمبيدات اللازمة للاستمرار في الإنتاج.

من جهته، يطالب المزارع أبو حمزة شمص برفع أسعار شراء التبغ، مشيرًا إلى أنه في السابق، عندما كان التسعير وفقًا لسعر صرف 1500 ليرة، كانت مداخيل الرخصة تصل إلى 2000 أو 3000 دولار. أما اليوم، فلا تتجاوز 1800 دولار في أفضل الحالات. كما يلفت إلى أن الإدارة تقدّم أحيانًا مغذّيات وأدوية، لكن بكميات محدودة لا تكفي لتغطية حاجة المزارعين، داعيًا إلى زيادة الدعم الزراعي بشكل فعلي.

المزارع المغلوب على أمره

يبقى المزارع، رغم كل ما يقدّمه، الحلقة الأضعف في معادلة الإنتاج. فكثيرون لا يمتلكون رخصًا رسمية، ويلجأون إلى استئجارها لتسليم إنتاجهم. قد يبدو هذا التصرف مخالفًا للقانون، لكنه في جوهره يعكس حجم معاناة المزارعين الذين حُرموا من حقّ الحصول على رخص من إدارة “الريجي”، بسبب المحسوبيات والتفاوت في التوزيع.

هذا الواقع يضع علامات استفهام حول عدالة النظام الحالي، ويدفع للتساؤل: كيف يمكن لزراعة تُعدّ من ركائز الاقتصاد الزراعي في البقاع أن تستمر، إذا كان من يُفترض أن يكون في قلبها، أي المزارع، يُدفع تدريجيًا إلى الهامش ويبقى مغلوبًا على أمره!؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى