الدولة في إجازة.. إضراب الموظّفين يكشف ترهّل الإدارة

منذ مطلع الأسبوع الجاري، دخل موظّفو الإدارة العامّة في لبنان في إضراب جديد، لكنّه هذه المرة لا يشبه ما سبقه. ليس احتجاجًا عابرًا، ولا مجرّد ضغط نقابيّ روتينيّ، بل هو صرخة تعب طويلة في وجه دولة تعامل موظّفيها كأنّهم عبء فائض، تُهمّشهم حين يتعلّق الأمر بتحسين أوضاعهم، وتُذكّرهم بواجباتهم حين يرفضون الانهيار بصمت.

تمييز في الرواتب

في الوقت الذي أُقرّت فيه زيادات مجزية وحوافز بالدولار لبعض القطاعات الرسميّة، من دون عدالة أو معيار موحّد، تُرك عشرات الآلاف من موظّفي الإدارات العامّة في مهبّ الانهيار، يتقاضون رواتب لم تعد تكفي بدل نقل، ولا حتّى فواتير كهرباء المولّد. المفارقة أنّ الدولة، بدلًا من أن تبحث عن خطّة شاملة لإصلاح هيكليّ وإنقاذ ما تبقّى من الجهاز الإداريّ، تمضي في سياسة الترقيع والتمييز، مكرّسة الانقسام داخل القطاع العام نفسه.

لكنّ المتضرّر الأوّل من هذا الإضراب، ليس الموظّف وحده، بل المواطن الذي يُجبر كلّ مرّة على دفع فاتورة الفوضى. معاملات معلّقة، إخراجات قيد متوقّفة، ملفّات طبّيّة غير مستكملة، وأبواب مغلقة أمام كبار السنّ وأصحاب الاحتياجات، سواء في البقاع، أو في سائر المناطق اللبنانيّة، ترتدّ أزمة الإدارة المنهكة على الفئات الأكثر هشاشة.

إضراب موظفي الإدارة العامة صرخة تعب في وجه دولة تعتبرهم عبئًا

هكذا تتحوّل الدولة تدريجًا إلى هيكل عاجز، لا يدفع مستحقّات موظّفيه، ولا يُنجز خدمات مواطنيه، بينما تتآكل الثقة يومًا بعد يوم. فهل ما يجري هو تمهيد لانهيار شامل في الإدارة؟

في انتظار التأشيرة.. والدولة

تقول فايزة شومان، وهي سيّدة في الـ 60 من عمرها من بلدة سرعين (البقاع)، إنّها حاولت منذ مطلع الأسبوع الحصول على إخراج قيد عائليّ من دائرة النفوس لاستكمال ملف تأشيرة سفر إلى ألمانيا، حيث تعيش ابنتها منذ سنوات، لكنّ الإضراب المستمرّ في الإدارة العاّمة حال دون ذلك.

“أنا بحاجة لهذا المستند خلال هذا الأسبوع كحدّ أقصى، لأنّ موعدي في السفارة الألمانيّة صار قريبًا، وإذا بقي ملفي ناقصًا، يُرفض الطلب. اتّصلت بالدائرة أكثر من مرّة، وذهبت شخصيًّا، لكن الموظّفين مضربين والدائرة مقفلة” بحسب فايزة.

المقداد: دوافع الإضراب تتجاوز الرواتب المنخفضة، وتشمل غياب الحدّ الأدنى من العدالة بين مكوّنات القطاع العام

تؤكّد شومان أنّ تأجيل الموعد أو إعادة تقديم الملفّ يعني الدخول في دورة إداريّة جديدة، ربّما تمتدّ أسابيع أو أشهرًا، مضيفة: “لا أقول إن الموظّف ليس لديه حقّ، لكن في الوقت نفسه ما ذنبي وذنب كثير من الحالات التي تشبهني؟”. توضح فايزة أنّ “الملف ليس ملف سفر ترفيهيّ، إنّما عاطفيّ، عائليّ، إنسانيّ. الدولة تتفرّج علينا، والحقيقة أنّنا ضحيّة إهمالها”. وتردف فايزة مناشدة “إذا لم يسمعني أحد، سأبقى بدون ابنتي بعد سنين غربة ووجع. عنجد حرام”.

“راتبي مائتا دولار”

من جهته يعمل حسن المقداد من بلدة اللبوة، منذ أكثر من 20 عامًا في دائرة التنظيم المدنيّ في بعلبك، يتنقّل يوميًّا بين بلدته ومركز عمله في السرايا الحكوميّة. يقول حسن لـ “مناطق نت”: “راتبي الشهريّ لا يتجاوز مائتي دولار، لكن بعد البنزين والمولّد والدواء، لن يبقى شيء. حتّى التنقّل على حسابي لم يعد واردًا. لم يعد هناك من كرامة للموظّف في الإدارة العامّة، وليس هناك من نيّة لدى الدولة لمعالجة هذه المأساة”.

يشرح المقداد أنّ “دوافع الإضراب تتجاوز الرواتب المنخفضة، وتشمل غياب الحدّ الأدنى من العدالة بين مكوّنات القطاع العام. تمّت زيادة مخصّصات وحوافز للقضاة والأجهزة الأمنيّة، حتّى الأساتذة بالمدارس الرسميّة نالوا بعض التقديمات. باستثناء الموظّفين في الإدارات العامّة المنسيّين، لم يسأل عنّا أحد! لا زيادات، ولا حوافز، ولا بدل نقل، ولا حتّى وعد بإصلاح قريب”.

ويرى المقداد في استمرار التجاهل الرسميّ لمطالب الموظّفين المضربين، فتحًا للباب أمام تصعيد أكبر، وربّما فقدان ما تبقّى من بنية الدولة.

ماذا يقول النوّاب التغييريّون؟

في تعليقها على الإضراب التحذيري الذي ينفّذه موظّفو القطاع العام، شدّدت النائب نجاة صليبا عون في حديث خاص لـ “مناطق نت” على ضرورة التعامل مع هذه المطالب بجدّيّة، لكن ضمن رؤية إصلاحيّة شاملة لا تقتصر على الترقيع أو الاستجابة الموضعيّة”. وتلفت إلى أنّ “القطاع العام يعاني خللًا هيكليًّا واضحًا يراوح بين تضخّم في بعض الإدارات ونقص في الكفاءات في مواقع أخرى”، معتبرة أنّ “المعالجة لا تكون برفع عشوائيّ للرواتب، بل بإعادة تقييم شاملة للوظائف وفق معايير الحاجة والكفاءة”.

وأشارت عون إلى أنّ “نقاشات عديدة تُجرى حاليًّا في اللجان النيابيّة حول تحسين الأجور والتقديمات”، لكنّها حذّرت من أنّ “غياب الرؤية الإصلاحيّة المتكاملة يُفرّغ هذه المبادرات من مضمونها”. ودعت إلى “ربط أيّ زيادة للأجور بخطّة لإعادة هيكلة القطاع العام، تشمل إعادة توزيع الكوادر ودمج المؤسّسات المتداخلة وإنهاء التوظيف الزبائنيّ”، مشدّدة على أنّ الاستمرار في السياسات القديمة لن يؤدّي سوى إلى تفاقم الأزمات.

وحول إمكانيّة إقرار سلسلة رتب ورواتب جديدة قريبًا، نفت النائب نجاة صليبا عون وجود أيّ بحث جدّيّ داخل البرلمان في هذا الخصوص في الوقت الراهن. واعتبرت أنّ ما يحصل حاليًّا “لا يرقى إلى مستوى معالجة منهجيّة، بل يندرج في إطار “تنفيعات” تُمنح لهذا الطرف أو ذاك بحسب الاصطفافات السياسيّة”. وتوضح أنّ آليّات اتّخاذ القرارات في المجلس غالبًا ما تخضع للمصالح الفئويّة وليس إلى حاجة الدولة أو الموظّفين. مشدّدة على أنّ “ما يُقدّم من مشاريع لا ينبع من رؤية وطنيّة، بل من صفقات وتفاهمات ظرفيّة، وبالتالي من الصعب البناء على هذا النمط لإنتاج عدالة مستدامة”.

العلي: ما نشهده اليوم هو نتيجة تراكم سياسات التجاهل والتهميش، حيث لم تضع الدولة أيّ خطّة إصلاح جدّيّ للقطاع العام

أمّا في ما يتعلق بالفروقات الحاصلة بين فئات القطاع العام، فوصفتها بأنّها نتاج مباشر لمنطق النفوذ السياسيّ لا لمعايير الحاجة أو الأداء. تقول “نحن نكرّس الظلم عندما تُعطى زيادات لفئة فقط لأنّها محسوبة على جهة سياسيّة، ويُهمّش موظّفون آخرون يقومون بمهام أساسيّة”. وترى أنّ “ضمان العدالة يتطلّب مقاربة وطنيّة جذريّة تضع الحوكمة والكفاءة في صلب أيّ إصلاح، لا مجرّد تسويات ظرفيّة”.

دولة تدير الانهيار ولا إصلاح

يرى الدكتور رامي العلي، الباحث في الشؤون الإداريّة والحوكمة، أنّ الإضراب المستجدّ في القطاع العام ليس مجرّد احتجاج ظرفيّ، بل هو “أحد أعراض الانهيار الهيكليّ الذي يضرب الإدارة اللبنانيّة منذ سنوات، وتفاقم بعد الأزمة الماليّة”.

ويقول العلي في حديثه إلى “مناطق نت”: “ما نشهده اليوم هو نتيجة تراكم سياسات التجاهل والتهميش، حيث لم تضع الدولة أيّ خطّة إصلاح جدّيّ للقطاع العام، لا على مستوى إعادة الهيكلة، ولا على مستوى تصحيح الأجور. التعاطي يتمّ عبر المسكّنات والمقاربات المجتزأة”.

ويشير العلي إلى أنّ “التمييز في التقديمات بين مكوّنات القطاع العام فاقم الغضب داخل المؤسسات؛ الزيادات التي أُقرّت لقضاة وأجهزة أمنيّة وبعض القطاعات التعليميّة، دون أن تشمل الموظّفين في الإدارات العامّة، خلقت شعورًا بالغبن واللامساواة. وهذا ما فجّر ردّة فعل طبيعيّة لدى الموظّفين الذين شعروا بأنّهم خارج المعادلة”.

العلي: الحلول لا تنحصر فقط في رفع الرواتب، بل تتطلّب خطّة إصلاحيّة شاملة ترتكز على إعادة هيكلة القطاع العام

لإجل إصلاح القطاع العام

يرى الدكتور رامي العلي أنّ “الحلول لا تنحصر فقط في رفع الرواتب، بل تتطلّب خطّة إصلاحيّة شاملة ترتكز على إعادة هيكلة القطاع العام بشكل يُعيد توزيع المهام ويحدّ من التراكمات الإداريّة غير الفعّالة”. ويضيف: “لا يمكن أن تستمرّ الدولة في إدارة القطاع العام كما لو أنّه عبء ماليّ فقط. يجب أن نعيد تصميم الوظائف بحيث تصبح أكثر إنتاجيّة، مع خلق آليّة عادلة لرفع الأجور تشمل جميع الموظّفين، بعيدًا من التمييز الذي ولّدته السياسات الحاليّة”.

ويؤكّد العلي “أهمّيّة تحسين بيئة العمل من خلال توفير الأدوات اللوجستيّة الضروريّة، وتسهيل حركة الموظّفين”، مبيّنًا أنّ “تحسين ظروف العمل يعزّز من كفاءة تقديم الخدمات ويخفّف من الإحباط الذي يشعر به الموظّفون يوميًّا”.

ويلفت كذلك إلى أهمّيّة التحوّل الرقميّ في الإدارات العامّة، موضحًا أنّ “التكنولوجيا يمكن أن تكون مفتاحًا لخفض البيروقراطيّة والفساد، وتسهيل وصول المواطنين إلى الخدمات من دون انتظار طويل، خصوصًا في ظلّ الأزمات الحاليّة”.

ويشير العلي إلى أنّ “الإصلاح لا يقتصر على الجانب الإداريّ وحسب، بل يجب أن يشمل تعزيز الموارد الماليّة للدولة، إنّ تشجيع الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة، إلى جانب إنشاء صناديق سياديّة لإدارة موارد الدولة بشكل أفضل، يفتحان آفاقًا جديدة لزيادة عائدات الخزينة. وهذا بدوره يسمح بتحسين رواتب الموظّفين وضمان استدامتها”.

ويضيف: “لا بدّ أيضًا من دعم الصناعة المحلّيّة كمصدر رئيس للدخل الوطنيّ، من خلال سياسات تحفيزيّة تشجّع الإنتاج الوطنيّ وتحدّ من الاعتماد على الواردات”.

ويختم العلي بالتأكيد على أهمّيّة إصدار قانون جديد لسلسلة الرتب والرواتب يكون عادلًا وشفّافًا “قانون يضمن الحقوق ويعكس واقع الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ويمنع التمييز بين الموظّفين، هو خطوة أساسيّة لاستعادة الثقة بين الدولة وموظّفيها”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى