دور الأيتام في لبنان للرعاية أم للتحرُّش؟

حين تشتدّ الأزمات على العائلات الأكثر ضعفًا، تصبح الطفولة أوّل ما يُضحّى بها. في بلدٍ تتراجع فيه شبكة الأمان الاجتماعيّ، تتحوّل دور الرعاية إلى ملاذٍ لكثير من الأطفال، لكنّ هذا الملاذ ليس آمنًا دائمًا. خلف تلك الأبواب المغلقة، تُروى حكايات عن ألمٍ مختلف، ألم لا يشبه الجوع ولا الفقر.
فرضت قسوة الحياة الاقتصاديّة والمعيشيّة على عائلة محمّد (22 عامًا) إرساله إلى أحد دور الأيتام طلبًا للرعاية. في حينه، لم يكن عمر محمّد يتجاوز الـ 11 سنة. لكنّ إقامته في الدار لم تستمرّ أكثر من ثلاث سنوات، بعدما لم يعد قادرًا على تحمّل الإيذاء الجسديّ والنفسيّ، ولا سيل الشتائم الذي كان يتعرّض له يوميًّا.
يروي محمّد لـ “مناطق نت” أنّ الواقع القاسي داخل الدار طوال تلك السنوات دفعه إلى الهروب والعودة إلى منزل عائلته في عكّار. يتحدّث بحزنٍ وغضبٍ عن تلك التجربة التي دخلها مُجبرًا، مشيرًا إلى أنّها لا تزال تترك أثرها عليه حتّى اليوم، بعدما دمّرت نفسيّته وسرقت مستقبله.
جدران تخفي العنف والتحرّش
يقول محمّد، بحزنٍ وغضب، إنّه ما زال يتألّم من دخوله الدار، الذي لم يكن بمحض إرادته. تجربةٌ تركت جراحًا نفسيّة عميقة، وسبّبت ضياع مستقبله. كلّ الشعارات والإعلانات التي تروّج لها الدار، من تعاونٍ وأمان، ليست سوى “كذبة” بحسب محمّد، “كذبة لإخفاء الواقع والحقيقة”.
العنف والتحرّش الجسديّ واللفظيّ، لا تقتصر على دارٍ واحدة فقط. خلف الجدران المغلقة، تتكرّر هذه الحكايات. أطفال كُثُر عاشوا التجربة نفسها، لكنهم يؤثرون السكوت عنها، إمّا خوفًا من الفضيحة، أو تحت وطأة العادات الاجتماعيّة التي تفرض عليهم الصمت، أو لغياب التوعية.
العنف والتحرّش الجسديّ واللفظيّ، لا تقتصر على دارٍ واحدة فقط. خلف الجدران المغلقة، تتكرّر هذه الحكايات. أطفال كُثُر عاشوا التجربة نفسها، لكنهم يؤثرون السكوت عنها
تقول سميرة (30 عامًا)، التي مكثت سنوات عدة في أحد دور الرعاية في الجنوب، إنّها تعرّضت أثناء وجودها في الدار رفقة شقيقها الأكبر، للتحرّش من جانب أحد العاملين هناك، وتروي الحادثة حين ضمّها ذلك العامل إلى صدره بحجة العطف عليها. آنذاك لم تكن تعرف سميرة أنّ هذا الامر يُعدّ تحرّشًا جنسيًّا، وهي لم تتجاوز الـ 11 عامًا.
غياب الرقابة الرسميّة
من جهتها، عبّرت الناشطة في مجال حقوق الإنسان المحاميّة مريانا برّو، في حديثٍ إلى “مناطق نت”، عن حزنها العميق لرؤية أطفال أيتام غدر بهم الزمن، وكانوا بأمسّ الحاجة إلى الأمان والعاطفة والاستقرار النفسيّ، لكنّهم وجدوا في المكان الذي لجأوا إليه واقعًا مختلفًا تمامًا لا يمتّ إلى الرعاية بصلة.
وتضيف برو: “المربّيات، بدلًا من أن يكنّ مؤهّلات ثقافيًّا وقادرات على تقديم الدعم النفسيّ للأطفال، يعانين من نقص واضح في التأهيل، فعديد منهنّ بحاجة إلى علاج نفسيّ وتأهيل”.
جريمة يحاسب عليها القانون
في ما يتعلق بفيديو تعنيف الطفلة من قبل مربّية في أحد دور الأيتام، والذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعيّ منذ مدّة، تتساءل المحاميّة والناشطة مريانا برّو: “كيف يمكن لمربّية أن تشدّ شعر طفلة وهي تعرف أنّ هذا التصرّف ربّما يؤدّي إلى وفاتها؟ ماذا لو توقّف قلبها فجأة، أو ارتطم رأسها بشيء؟ هذه الأفعال تُعتبر محاولة قتل وفق القانون”.
تؤكّد برّو المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق وزارة الشؤون الاجتماعيّة في مراقبة عمل دور الرعاية ومنح التراخيص، والقيام بالتفتيش الدوريّ في جميع هذه المؤسّسات، سواء كانت دورًا للمسنّين، ذوي الاحتياجات الخاصّة أو الفئات المهمّشة.
وتضيف برّو: “لقد تقدّمنا بإخبار رسميّ حول ما جرى، ومن المفترض أن تقوم الوزيرة المعنيّة بإجراء تحقيقات سرّيّة. واجبنا الأخلاقيّ هو السعي إلى إحقاق الحقّ والعدالة للأطفال”. مشددةً على أنّها لا تحكم على أيّ طرف دون أدلّة ثابتة، ولا تستمع إلى طرف دون آخر.
وتوضح برّو أنّنا أمام جريمة موثّقة وواضحة لا شكّ فيها، “في هذه القضيّة، لا نُهاجم دور الأيتام بحدّ ذاتها، بل نسعى إلى إصلاح الوضع، لمنع تفاقم عدد الوفيّات الناتجة عن التعنيف”. وتردف “تحدّث إلي كثر، سواء من العاملين في الدار أو من الأطفال، حول أحداث تعنيف مشابهة وحصلت على تفاصيل كثيرة من الأفعال والانتهاكات التي حدثت في دور مسنّين”.
تقول: “نحن انطلقنا من فيديوهات صدرت عن الرأي العام، سواء كانت قديمة أو حديثة”، وتتابع: “يجب أن يكون هناك تعاون بين الجهات الحقوقيّة والمجتمع المدنيّ والأطبّاء النفسيّين للقيام بزيارات ميدانيّة، وإنشاء صندوق شكاوى، وتوجيه الجهات المتخصّصة نحو القضاء”.

الحماية القانونيّة المفقودة
لا تقتصر قضيّة العنف والتحرّش في دور الرعاية على الجانب القانونيّ أو الإداريّ وحسب، بل تمتدّ إلى أبعاد نفسيّة عميقة تترك آثارًا طويلة الأمد على الأطفال. من هنا، يصبح دور المتخصّصين في الصحّة النفسيّة ضروريًّا لفهم جذور المشكلة وآثارها، ولطرح سبل الوقاية والحماية والعلاج.
عن انتشار حالات التحرّش والعنف في دور الرعاية، يوضح د مرام حكيم وهو عالم نفسي عيادي في حديث إلى “مناطق نت”، أنّ السبب الأساسيّ وراء هذه الممارسات هو غياب الحماية الفعليّة للأطفال، “إذ يصبحون تحت رحمة المؤسّسة والقائمين عليها، حيث تظهر في بعض الحالات ميولًا غير طبيعيّة لدى المسؤولين عن هذه الدور، إلى جانب غياب الجرأة لدى الطفل، للكشف عمّا يتعرّض له بسبب ‘الهرمية‘ داخل المؤسّسة، وسعي الأخيرة للتستّر على هذه القضايا خشية الفضائح أو التبعات القانونيّة”.
ويضيف حكيم: “إنّ ضعف الدولة وغياب المحاسبة خارج هذه المؤسّسات يعمّق الأزمة”. أمّا في ما يتعلّق بكيفية مواجهة المتحرّش فيشدّد حكيم على “أهمّيّة التوعية المسبقة، من خلال التوجيه وتعليم الأطفال كيفيّة التعرّف على التحرّش والدفاع عن أنفسهم، إلى جانب تثقيف الأهالي والمجتمع عمومًا”.
التحرّش والميل الجنسيّ
كذلك يدعو حكيم إلى كسر “الهرميّة” داخل هذه المؤسّسات، “بحيث يمتلك الطفل الشجاعة الكافية للإفصاح عمّا تعرّض له، مع ضرورة تقديم الشكاوى الرسميّة”.
وعند سؤاله عن تأثير التحرّش على ميول الضحيّة الجنسيّة يوضح حكيم أنّ “السنّ الذي يتعرّض فيه الطفل للتحرّش يلعب دورًا أساسيًّا. هناك احتمالات تأثير التجربة على ميول الطفل لاحقًا، وفق نوعيّة التحرّش والعوامل الوراثيّة، إضافة إلى تكوين الجهاز العصبيّ للطفل وتجربته النفسيّة السابقة”.
ويؤكّد أنّ الطفل الضحيّة “بحاجة إلى علاج نفسيّ معمّق، يشمل علاج الصدمات، والعلاج الجماعيّ (Group Therapy)، لمساعدته على تجاوز آثار التجربة”.
نظام مؤسّسيّ فاشل
حين نتحدّث عن قضايا العنف والتحرّش في دور الرعاية، لا يمكن حصر المشكلة بحالات فرديّة أو حوادث معزولة. فالمشكلة، كما يراها بعض الخبراء، أعمق من ذلك بكثير، ترتبط بجذور نظام الرعاية نفسه، وبآثار طويلة الأمد تلاحق الأطفال مدى الحياة.
كان للمديرة التنفيذيّة في جمعيّة “بدائل” والخبيرة الدوليّة زينة علوش رأيٌ حاسم في ما يجري داخل دور الأيتام والرعاية. تقول في حديثها لـ “مناطق نت”، “إنّ المشكلة لا تتعلّق بدار محدّدة، بل ترتبط بنظام كامل للرعاية المؤسّسيّة أثبت فشله في لبنان، كما في عديد من دول العالم”.
وتتابع: “النماذج الدوليّة تُظهر بوضوح أنّ الأطفال ممّن ينشأون داخل المؤسّسات يعانون من تداعيات خطيرة تمتدّ طوال حياتهم، فيعانون من معدّلات متدنيّة في التحصيل العلميّ، ضغوط نفسيّة حادّة في مرحلة البلوغ، تجارب سابقة مؤلمة (ACEs)، صعوبات في إيجاد وظائف، نسب مرتفعة من الإدمان على الكحول والمخدّرات، ومشكلات متكرّرة مع القانون”.
وتحذّر علوش من أنّ هؤلاء الأطفال غالبًا ما يصبحون أكثر عرضة لإعادة إنتاج التجربة ذاتها مع أبنائهم، الذين ربّما يُودَعون بدورهم في النظام نفسه.
حين يصبح الأطفال “أيتامًا اجتماعيّين”
وتضيف: “في لبنان، عدد الأطفال داخل المؤسّسات هو الأعلى عالميًّا، وقد دُعي مرارًا إلى تطبيق مبدأ “التحكّم بالدخول” (Gatekeeping)، لضمان ألّا يُودَع في هذه المؤسّسات سوى الأطفال الذين يحتاجون فعلًا إلى رعاية بديلة، وليس فقط لأسباب الفقر أو الظروف الاجتماعيّة”.
لكنّ الواقع، كما تقول، “يُظهر أنّ النظام يحوّل عديدًا من الأطفال الذين لديهم أسر إلى أيتام اجتماعيّين”. وتؤكد علوش أن “التحرّش وسوء المعاملة منتشران في مختلف المؤسّسات، إلا أن الغالبية العظمى من الضحايا يُجبرون على الصمت، وغالبًا لا يجدون من يصدّق رواياتهم”.
علّوش: النظام يحوّل عديدًا من الأطفال الذين لديهم أسر إلى أيتام اجتماعيّين
أزمة أعمق من المؤسّسات
وتعليقًا على قضية الناشط طارق م. الذي اتّهم ثلاثة شبّان باغتصابه داخل دار رعاية، تؤكد زينة علوش أنّ “شجاعة طارق في كشف ما تعرّض له تُعدّ استثنائيّة وملهمة”، لكنّها تشدّد في الوقت عينه على أنّه “لا يزال يواجه المنظومة وحده”. وتضيف: “وزارة الشؤون الاجتماعيّة، على مرّ السنوات، وقفت إلى جانب المؤسّسات على حساب مصلحة الأطفال، ما عمّق الخلل البنيويّ في هذا النظام”.
المشكلة بالنسبة إلى علّوش لا تقتصر على إدخال “الصحّة الإنجابيّة” أو برامج مشابهة في دور الرعاية، بل تكمن في أزمة أعمق، لا يمكن إصلاحها إلّا من خلال تغيير جذريّ.
وتختم علوش: “المطلوب هو إعادة توجيه هذه المؤسّسات لدعم الأطفال داخل أسرهم بدلًا من فصلهم عنها بسبب ‘خطر محتمل‘، خصوصًا وأنّ نتائج الإقامة داخل هذه المؤسّسات أظهرت، بحسب الدراسات، أنّها أكثر ضررًا على الأطفال من ذلك ‘الخطر المحتمل‘ نفسه”.
العدالة للأطفال بكسر الصمت
لا يمكن النظر إلى ما يجري داخل دور الرعاية على أنّه مجرّد حوادث فرديّة أو أخطاء عابرة. ما كشفه الضحايا وما وثّقته الشهادات والوقائع، تؤكّد أنّنا أمام أزمة عميقة، تتطلّب تحرّكًا جدّيًّا يتجاوز المعالجات الظرفيّة والخطابات الموسميّة.
السكوت عن هذه الانتهاكات هو مشاركة فيها، والتغاضي عنها هو ترسيخ لها. ما هو على المحكّ اليوم ليس مستقبل أطفال وحسب، بل صورة مجتمعٍ بأكمله. فإمّا أن ينحاز لحماية أضعف أفراده، أو يبقى غارقًا في دوّامة الإهمال والخذلان.