محمود سويد: هذه سيرتي وهكذا أسّسنا لبنان الاشتراكي (1)

“الوقوف في محلّة ‘البيادر‘ في كفرحمام (حاصبيّا) حيث سهل الحولة كان ينبسط أمامنا، وفي وسطه بحيرة طبريّا تتلألأ تحت أشعّة الشمس، فتُشكّل منظرًا رائعًا. هذا ما لا أنساه أبدًا راسخًا منذ طفولتي لا يغادر”. في مكتبه المتواضع يجلس ابن الـ 89 عامًا فيحدثنا في ما يشبه حوار العمر، امتدّ لساعات واستغرق أكثر من جلسة، عن حصاد السنين وسيرتها الشاقّة والمشوّقة، بدءًا من كفرحمام حيث أبصرت عيناه النور، مرورًا بصيدا، ومنها إلى بيروت وما بينها من محطّات عديدة، تستحقّ أن تروى، لأنّها لا تحكي سيرة رجل وحسب، بل حكاية بلد ومعاناة شعب عاشهما محمود سويد بكل تفاصيلهما. وهو لم يكن شاهدًا على الحدث وحده، إنّما في أحيانٍ كثيرة كان صانعه والمايسترو الذي يضبط إيقاعه.

من أين نبدأ الحوار مع الأستاذ محمود سويد؟ من كفرحمام حيث أبصرت عيناه النور، أم من صيدا التي انتقل إليها لمتابعة دراسته، أم من بيروت التي استقرّ فيها وشكّلت القسم الأكبر من حصاد العمر؟ هل نبدأ من السياسة وقضيّة فلسطين وانخراطه المبكر في النضال السياسيّ والعقائديّ؟ أم نبدأ من رحلته في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة حيث أمضى جلّ عمره عاملًا ومديرًا فيها؟ كلّ ما فعلناه أنّنا ضغطنا على مفتاح التسجيل والبقيّة تكفلّ بها الأستاذ محمود.

“وُلدتُ في كفرحمام، وهي قرية صغيرة من قرى منطقة العرقوب، تقع عند سفح جبل الشيخ”. يقول سويد الذي يتمتّع بذاكرة وقّادة تستطيع أن تروي بهدوء وبأدقّ التفاصيل ما مضى عليه عشرات السنين.

الطفولة والحرب العالميّة الثانية

في العام 1936 وُلِد محمود سويد في كفرحمام، تلك القرية الرابضة في قلب “العرقوب” والتي كانت ولمّا تزل نائية مُتنائية، هناك حيث الطبيعة البكر، أرض التين والزيتون، ملعب الريح والسنونو، والفضاء الأزرق المفتوح على المدى.

وصولًا إلى العام 1948، لم يكن محمود سويد قد غادر كفرحمام، لكنّه يتذكّر طفلًا وخلال الحرب العالميّة الثانية، أنّ المنطقة عاشت أجواء حرب ودارت فيها معركة ضخمة، بين الجيش الإنكليزيّ القادم من فلسطين، والجيش الفرنسيّ الذي كان متواجدًا في المنطقة ويتبع حكومة “فيشي” التي بدورها كانت متعاونة مع الألمان. يروي سويد أنّ القذائف في حينه سقطت في راشيّا الفخّار، فلجأ أهلها إلى كفرحمام، هربًا من الخطر، وربّما لأنّ القصف على كفرحمام كانّ أقلّ. ويتذكّر أنّ “كلّ عائلة أو عائلتين من راشيّا الجارة، حلّت أو حلّتا في أحد بيوت كفرحمام، فالعلاقات بين البلدتين كانت علاقة وحدة حال حقيقيّة”.

ما يتذكّره سويد لا تزال آثاره ماثلة في سهل الخيام، وهي عبارة عن مطار ومستشفى أنشأهما الجيش الإنكليزيّ عندما احتلّ المنطقة، إضافة إلى تحصينات كانت حتّى الأمس القريب قائمة، ويمكن مشاهدتها أثناء عبور الطريق الممتدّة من نهر الخردلي صعودًا باتّجاه تلّ النحاس، وكانت عبارة عن خرسانات حجريّة ضخمة (ترانشيّات) وضعها الفرنسيّون بين المعابر لصدّ تقدّم الدبّابات الإنكليزيّة.

أسعد سويد الإمام والمعلّم

لم يكن الشيخ أسعد سويد، والد محمود مجرّد عالم دين أو مربٍّ، بل كان يمثّل الطمأنينة لأهالي بلدته كفرحمام. وثق به أبناء القرية، وأرسلوا أبناءهم ليتعلّموا على يديه. وكانت مدرسة الشيخ أسعد شأنها شأن مدارس ذاك الزمان تحت الشجرة، قبل أن تتحوّل إلى غرفة، وقبل أن يقرّر أبناء كفرحمام إقامة نصب تذكاريّ للشيخ أسعد، تقديرًا للدور الذي أدّاه في نشر العلم في المنطقة.

بكثير من الحبّ يستذكر الأستاذ محمود والده “كان إمام قرية كفرحمام، وكان أيضًا المعلّم الوحيد في مدرستها الوحيدة. كانت المدرسة عبارة عن غرفة في بيتنا، بعد أن انتقلت من تحت الشجرة. تتّسع إلى ما بين 20 و25 تلميذًا”. يستعيد سويد سيرة والده الشيخ أسعد فيقول “وُلد والدي لأسرة فقيرة جدًّا في كفرحمام، وكانت له أختان، وهو الابن الوحيد”.

في باحة منزل مختار راشيا الفخار مسعود مراد العام 1958 اثناء عقد راية المصالحة بين ألثوار وأنصار السلطة، وتضم من اليمين امام بلدة الهبارية، كاهن راشيا الفخار حبيب الخوري، مندوب الرئيس اللواء فؤاد شهاب العقيد جميل الحسامي وإمام كفرحمام الشيخ اسعد سويد. (الصورة للأديب الراحل سلام الراسي)
يوم هاجر جدّي إلى البرازيل

ليست سيرة والده ما يتذكّره محمود سويد بأدقّ تفاصيلها، بل كذلك سيرة والد والده. عن تلك السيرة يقول سويد: “عندما وُلد أبي وأصبح لجدّي ثلاثة أطفال، أدرك أنّه لن يستطيع إعالتهم في كفرحمام، فقرّر الهجرة إلى البرازيل، كما فعل كثرٌ من أبناء القرية في تلك الحقبة. كانت الهجرة إلى البرازيل أمرًا شائعًا، وعندما كان يهاجر أحد ما، يجتمع أهل القرية في بيته أيّامًا قبل سفره، قبل أن يخرجوا لوداعه في فجر يوم المغادرة، فيقفون على الطريق الترابيّ خارج كفرحمام، يودّعونه فردًا فردًا، إذ لا أحد منهم يعلم إن كان سيعود يومًا أم لا”.

بعد مدّة من وصول جدّي إلى البرازيل، وصلت إلى جدّتي رسالة من أحد أبناء كفرحمام في “ساوباولو”، تفيد بأنّ زوجها وصل إلى البرازيل وبدأ يبحث عن عمل، لكن بعد أسبوعين من وصوله، صدمته سيارة ومات. وورد في الرسالة أنّ جدّي دُفن وفق الشعائر الدينيّة الإسلاميّة وبشكل لائق، وأنّ ما وُجد في جيبه من عملة “الريال” البرازيلية سيتمّ إرساله إذا صادف سفر أحد اللبنانيّين من هناك إلى المنطقة”.

عندما غادر جدّ سويد كفرحمام، كان والده ما يزال رضيعًا، ضعيف البنية، حتّى إنّ من رآه قال لجدّته: “هذا الولد ربّما يعيش، وربّما لا، لا يبدو أنّه ابن حياة”.

الجدّة ربّة الكفاح والتعليم

يروي سويد سيرة جدّته بكثير من الفخر، فيقول إنّها أصبحت بعد وفاة زوجها مسؤولة عن إعالة ثلاثة أطفال. عملت في الأرض إلى جانب الفلّاحين مقابل أجر معيّن، وكانت تسعى إلى تعليم أبنائها. وعندما كبُر والد محمود، أرسلته إلى إرساليّة تعليميّة في راشيّا الفخار، قبل أن ينتقل إلى مدرسة في كفرشوبا، بعدها أرسلته إلى دمشق كي يتتلمذ على يد أحد كبار المشايخ هناك.

كانت الأمّ ترسل إليه المال كي يتمكّن من العيش. وعندما أنهى دراسته، عاد إلى كفرحمام، وأصبح أوّل إمام للقرية، وأوّل متعلّم فيها. أمّا المدرسة التي أسّسها فكانت جزءًا من سلسلة “مدارس فقراء المسلمين” التي أنشأتها جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت، في القرى السنّيّة النائية.

من كفرحمام إلى صيدا مسيرة التعليم والكفاح

من هدوء القرية إلى ضوضاء المدينة وصل محمود في أواسط أربعينيّات القرن الماضي إلى صيدا، لم يكن هناك مجال لدخوله إلى مدرسة “المقاصد”، لأنّ أُخوته كانوا قد سبقوه إليها. فدخل مدرسة “فيصل الأوّل”، وهي مدرسة تتبع جمعيّة المقاصد، ولكنّها كانت مخصّصة لمن لا يستطيع دفع الأقساط. تعلّم فيها كثيرون، من بينهم لاحقًا رئيس الحكومة الأسبق الراحل رفيق الحريري، لكنّه لم يلتقِ به، لأنّ محمود كان أكبر منه.

يتحدّث سويد عن رحلته التعليميّة فيشير إلى أنّه تلقّى تعليمه بدايةً في مدرسة والده في القرية حتّى سنّ الحادية عشرة. وعنها يروي “كانت مدرسة تُعدّ الأفضل بين الكتاتيب، فيها مقاعد ودفاتر، وكان التعليم يشمل القرآن، الإملاء، الخطّ، والقراءة، وبعض مبادئ الجغرافيا والتاريخ. كان الخطّ الجميل يُعلّم بعناية، ولا يزال البعض ممّن تعلمّوا عند والدي يحتفظون بخطّ يشبه خطّه”. يتابع “ذات مرّة، التقيت بشخص من شبعا، قال لي إنّه كان يأتي ماشيًا كلّ يوم إلى كفرحمام كي يتعلّم على يدّ والدي، وكان عمره آنذاك 15 عامًا، ولا يزال يتذكّر تلك الأيّام”.

يتحدّث سويد عن رحلته التعليميّة في مدرسة والده في القرية فيقول “كانت تُعدّ الأفضل بين الكتاتيب، فيها مقاعد ودفاتر، وكان التعليم يشمل القرآن، الإملاء، الخطّ، والقراءة، وبعض مبادئ الجغرافيا والتاريخ.

كان محمود سويد أصغر أخوته الستّة: خمسة ذكور وابنة وحيدة. أخواه الكبيران، محمّد وأحمد، غادرا إلى بلدة حاصبيا، حيث كان يقيم قاضي شرع من آل الخماش من فلسطين، وقد أصبح صديقًا لوالده. وكنوع من التقدير، عرض القاضي أن يستضيف محمّد وأحمد في منزله كي يتعلّما مع أبنائه، فوافق والده على الفور وأرسلهما. لاحقًا، انتقلا إلى مدرسة المقاصد في صيدا. ولحق بهما طه وياسين، شقيقاه الآخران، ليكملا تعليمهما هناك.

الأهالي يعارضون استكمال التعليم

بكثير من التقدير يروي محمود سويد شغف والده بالعلم وإصراره على أن يتلقّى أبناؤه تعليمهم مهما كلّف ذلك من تضحيات. عن ذلك يروي سويد، فيقول: “كان والدي الشيخ أسعد الوحيد في منطقة العرقوب آنذاك الذي أرسل أبناءه للتعلّم خارج القرية. كان يُنتقَد بشدّة من أهل البلدة، فكانوا يقولون له: يا شيخ أسعد، أنظر إلى حالك، كيف تترك أبناءك؟ دعهم يعملون إلى جانبك في الأرض حتّى تعيشوا. ماذا سيُنتج هذا التعليم؟”.

لم تلقَ كلّ دعوات أبناء بلدته آذانًا صاغية لدى الشيخ أسعد. ووفق ما يروي سويد الابن أنّ والده أصرّ كما أصرّت والدته عليه سابقًا أن يتعلّم، أصرّ هو أن يُعلِّم أولاده. لكنّ الحملة على والده تضاعفت عندما أرسل ابنته وكانت تكبر محمود بسنتين، أيضًا إلى صيدا كي تتابع تعليمها، فبدأت الحملة تزاد على الشيخ أسعد فيردّدون: “تبعث بنت لتتعلم؟! ما هذا؟”. لكنّ الشيخ أسعد لم يأبه إلى كل ما قيل، والتحقت ابنته بمدرسة البنات التابعة للمقاصد.

علّمنا والدي بعشرين ليرة

يروي محمود “كان بيتنا في كفرحمام وحده الذي أرسل أولاده إلى خارج العرقوب من أجل الدراسة. كان أخوتي يعانون في صيدا؛ فوالدي كان يرسل إليهم راتبه من عمله في مدرسة المقاصد، وكان هذا الراتب زهيدًا لا يتجاوز الـ 20 ليرة. كان يستكمله بما يقدّمه له ذوو تلامذته في القرية من القمح وغيره خلال موسم الحصاد”.

يتابع محمود حديثه عن الظروف الصعبة التي مرّ بها أخوته أثناء تلقّيهم تعليمهم في صيدا “ظروف معيشيّة كانت قاسية، كان والدي يُرسل إلى أخوتي في صيدا الخبز من كفرحمام، يحمله على ظهره ماشيًا حتّى يصل إلى نقطة يمكن منها إرساله في باص أو سيّارة نحو صيدا. لكن خلال الحرب العالميّة الثانية، انقطعت هذه الإمدادات، فاضطرّ أخوتي الثلاثة – محمّد، أحمد، وطه – إلى شراء تمر من أسوأ أنواعه كي يعيشوا عليه”.

يضيف: “ذات يوم، جلس أخي محمّد يتأمل رغيف خبز مقسوم على ثلاثة، وذرفت عيناه دمعًا. كتب رسالة إلى مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة آنذاك، محمد توفيق خالد، يصف فيها الوضع المزري الذي يعيشه هو وأخوته. فتمّ قبوله فورًا في الكلّيّة الشرعيّة، وكان شاعرًا أيضًا، وكتب في المدرسة أشعارًا كثيرة”.

مسؤولية طفل قبل النكبة

عندما التحق شقيقه ياسين بالمدرسة الحربيّة، أصبح محمود سويد مسؤولًا عن والدته وأخته في صيدا، وذلك بحسب التقاليد، وكان في عمر صغير، نحو 13 سنة. لا يتذكّر في أيّ عام تمامًا نال شهادة “البروفيه”، لكنّه يقدّر ذلك في أواخر الأربعينيّات.

لم يكن العام 1948 عاديًّا في حياة سويد كما في سائر لبنان، ففي ذلك العام الذي سمي بعام النكبة، أصبحت لمحمود مهمّتان: الأولى دراسيّة والثانية التطوّع لمساعدة اللاجئين الفلسطينيّين ممّن بدأوا يتوافدون بالآلاف من فلسطين إلى لبنان ومنها صيدا، حيث كان محمود ورفاقه يجمعون داخل أكياس كبيرة مساعدات للاجئين الفلسطينيّين الذين لجأوا إلى مخيّمات أُعدّت لهم في صيدا.

يقول “كنّا نجمع ما يُمنح لنا من معلّبات وبطّانيّات وأغطية وغير ذلك، ثم ننقلها إلى المسجد القريب من المقاصد – حيث كنا نصلّي – وهناك كانت جمعيّة المقاصد تتولّى جمع وتوزيع التبرّعات على اللاجئين”.

حسّن دخول ياسين إلى المدرسة الحربيّة من أوضاع أخوته، فاستأجروا شقّة صغيرة في بيروت، وقرّروا أن ينضمّ إليهم بقيّة أفراد العائلة: محمود ووالدته وشقيقته، بينما بقي والده في كفرحمام، لأنّ المدرسة هناك كانت بحاجة إليه. من الأمور التي يذكرها محمود أنّ المقاصد كانت تُلزمهم بالصلاة يوميًّا في المسجد المجاور، وقد أثقله هذا التكليف، فطلب من شقيقه أحمد – عندما زارهم– أن يكتب رسالة للإدارة يطلب فيها إعفاء محمود بحكم مسؤوليّته العائليّة؛ وقد استجابوا للطلب وأعفوه.

الكتابة الأولى والانتماء المبكر

عن رحلته مع الكتابة يقول سويد “بدأت الكتابة مذ كنت طالبًا في مدرسة “فيصل الأوّل”، وتابعت ذلك حتّى المرحلة التكميليّة، إذ كنت أكتب أحيانًا مقالات في مجلّة “وحي الكلّيّة” التابعة للمقاصد. ومع الشعر كتبت قصيدة واحدة في حياتي وكانت بعنوان: “أكرِمْ شعوبك، أكرِمْ ضيوفك يا لبنان مكرّمة وكفى”. تألّفت القصيدة من عشرة أبيات، ونُشرت في مجلّة “وحي الكلّيّة”.

عن تشكّل وعيه السياسيّ والقوميّ يقول سويد: “في تلك الفترة، كنت قريبًا من الحركات الفكريّة والسياسيّة العربيّة، خصوصًا حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وحركة القوميّين العرب. لم أنتمِ رسميًّا إلى أيّ من هذه الأحزاب، ولكنّني كنت متأثّرًا في الأجواء والأفكار القوميّة التي بدأت بالانتشار في تلك الفترة، أواخر الأربعينيّات”.

قبل انتقاله إلى صيدا، تأثّر محمود بقريته كفرحمام ثقافيًّا بالأفكار التي يبثّها جبل عامل. كان أحيانًا يمزح مع أصدقائه قائلًا: “أنا شيعيّ من خصري إلى الأعلى، وسنّيّ من خصري إلى الأسفل”، في إشارة إلى اختلاط التأثيرات الثقافيّة والدينيّة في تكوينه الشخصيّ.

العرفان والتأثيرات الشيعيّة الثقافيّة

عن قراءاته الأولى يقول سويد إنّ جريدة “العرفان” التي كان يُصدرها الشيخ أحمد عارف الزين في صيدا، كانت تصل إلى منزلهم ويطّلع عليها، وكانت تُعتبر مصدرًا فكريًّا مهمًّا. إضافة إلى ذلك كان لبعض علماء جبل عامل ممّن درسوا في النجف ثمّ عادوا إلى لبنان وأسّسوا مدارس علميّة وفقهيّة في الجنوب، تأثير كبير في المنطقة.

لم ينقطع محمود سويد عن كفرحمام، فبقيت حاضرة في الإجازات الصيفيّة، وهو يروي أنّهم كانوا عندما يصلون إلى مفرق سوق الخان (حاصبيّا)، يُكملون سيرًا على الأقدام إلى كفرحمام. كانت الرحلة تستغرق قرابة الساعة وتُقدّر بنحو ستة كيلومترات، وفق ما يروي سويد.

كفرحمام سبعينيات القرن الماضي
نهاية تدريجيّة للمرحلة الصيداويّة

عن رحلة العودة إلى صيدا، يروي محمود أنّهم كانوا يغادرون القرية عند الفجر، فيبدأون السير في العتمة، وعند الوصول إلى راشيّا الفخّار يبدأ الفجر بشقّ خيوطه الأولى، وصولًا إلى طريق مرجعيون– حاصبيّا، كي ينتظروا مرور إحدى السيّارات (القليلة جدًّا) التي تنقل الركّاب إلى صيدا، وغالبًا ما يكونون محظوظين إذا صعدوا في أوّل سيارة تعبر.

“بقيت في صيدا حتّى نهاية العام 1948″، يقول سويد، “ثمّ انتقلت إلى بيروت. ذهبت صيفًا إلى كفرحمام، ثمّ التحقت بعد ذلك مباشرة ببيروت. نعم، كنت لا أزال في صيدا خلال نكبة فلسطين، ولكنّني قضيت صيف ذلك العام في كفرحمام”.

بيروت.. الدراسة والتحوّلات السياسيّة

فتح الانتقال إلى بيروت مرحلة جديدة في حياة محمود سويد، وفي مختلف النواحي التعليميّة والمهنيّة والسياسيّة. بداية التحق بثانويّة الطريق الجديدة الرسميّة في بيروت، وذلك في أوائل الخمسينيّات (1952–1953). ترافق ذلك مع نشاطه السياسيّ حيث كانت بيروت تزدحم بالأفكار والنضال وتشكُّل الأحزاب، وصعود الوعي القوميّ واليساريّ وقضيّة فلسطين ومشاريع الوحدة والأحلاف وغيرها من القضايا التي ألهبت الشارع العربيّ وأدّت إلى كثير من الأحداث الكبرى، أبرزها صعود التيّار الناصريّ والفكر القوميّ وغيره.

كان سويد قد انخرط مبكّرًا في “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ” العام 1958، خلال ما عُرف بـ “ثورة الـ 58″، حيث وجد في هذا الانتماء امتدادًا لقناعته العروبيّة. تولّى مسؤوليّة نشرة الأخبار في إذاعة الحزب. ووفق قوله إنّه في تلك المرحلة، لم يكن على الساحة سوى خيارين: البعث أو حركة القوميّين العرب، فاختار الأوّل.

“تركنا حزب البعث بعد انقلاب العام 1961 العسكريّ في سورية، وذلك مع انكشاف تآمر قيادة الحزب في دمشق على الوحدة مع مصر وانضمامها إلى الحركة الانفصاليّة، عقدنا مؤتمرًا لحزب البعث اللبنانيّ وقرّرنا الانفصال. كنتُ آنذاك عضو قيادة منطقة بيروت، وغادر الحزب أكثرُ الأعضاء، منهم فوّاز طرابلسي وبقي قلّة قليلة”. يتابع سويد ” بدأ ضبّاط البعث يسيطرون على الحزب هناك، ثم تولَّوا الحكم رسميًّا سنة 1963؛ وفي العراق تكرّر المشهد بعد ثورةٍ مماثلة. عندها تيقّنتُ أنّ الحزب يسير إلى حتفه، فانسحبتُ وبقيتُ بلا تنظيم؛ لم أنضمّ فورًا إلى أيّ حركة”.

يتذكّر سويد تلك المرحلة فيقول “كان الحزب (حزب البعث) ما يزال واحدًا؛ لم يكن قد انشقّ إلى فرعين سوريّ وعراقيّ. في لبنان كان جبران مجدلاني, ابن المزرعة المسيحيّ من أبرز قادته. لم نكن نلتفت إلى مسألة الطائفة داخل الحزب. كنتُ أعرف جبران معرفة طيّبة، ومعه عبد الوهّاب شميطلي ورافقتهما فترةً طويلة، ثم انقطعت الصلة معهما”.

صورة جامعه لرجالات كفرحمام أوائل الستينيات في ذكرى الاستقلال في دار الجامع (من أرشيف الاستاذ غسان علاء الدين).
من البعث فندوة العمل الوطنيّ

عن مرحلة ما بعد خروجه من حزب البعث يقول سويد: “سمعت نحو العام 1963، أنّ الرئيس الراحل سليم الحصّ أطلق مبادرة أسماها ‘ندوة العمل الوطنيّ‘. التحقتُ بـ ‘الندوة‘ التي غلب عليها الطابع الإسلاميّ، وإنْ كان الحصّ نفسه علمانيًّا. تسرّب إلينا شبّان من طرابلس بقيادة أحمد فتفت، كذلك جاء آخرون من المنطقة ‘الشرقيّة‘. تصوّرتُ أنّ الحصّ قد يكون الغطاء الملائم لإعادة لُحمة الشباب المسلم والمسيحيّ. أمضيت نحو ثلاث سنوات في الندوة، وبلغتُ موقعًا قياديًّا، لكنّني وجدتُ أنّ الحصّ يريد عملًا ثقافيًّا وحسب، بتوجّه كلاسيكيّ لا يُجاري زخَم المرحلة، فأدركتُ أنّ الاستمرار بلا جدوى، فانسحبت”.

ويتابع “في ما بعد، بدأتُ العمل مع نوّاف سلام؛ لا أذكر على وجه التحديد متى تعرّفتُ إليه، لعلّ ذلك كان بعد مغادرتي ‘ندوة العمل الوطنيّ‘، لكنّني كنتُ مسؤولًا عنه في حلقةٍ تثقيفيّة قبل أن ينخرط في ‘لبنان الاشتراكيّ‘”. ويردف “هكذا بقيتُ متنقّلًا بين محطّاتٍ عدّة: من البعث إلى النأي، ثمّ إلى ندوة العمل الوطنيّ، فإلى تجربةٍ بحثيّة فلسطينيّة، وصولًا إلى العمل التثقيفيّ مع نوّاف سلام، من دون أن أتخلّى عن قناعتي الأساس: لا بدّ من مشروعٍ وطنيّ عابر للطوائف، يجمع اللبنانيّين حول رؤيةٍ تقدّميّة وقوميّةٍ عربيّة”.

بعد انسحابه من ندوة العمل الوطنيّ، يروي سويد أنّ نوّاف سلام وآخرون تواصلوا معه قائلين: “علينا أن نتحرّك، لا يمكن أن نبقى في هذا الفراغ”. عن تلك المرحلة يقول سويد “بدأنا آنذاك بتنظيم حلقات تثقيف سياسيّ، مجموعات صغيرة من أربعة أو خمسة أفراد، وأحيانًا نكبر إلى عشرة أو 12 شخصًا. ثمّ تتوزّع المجموعات إلى أكثر من حلقة. لم تكن النتائج واضحة أو مؤثّرة، لكنّها كانت محاولة لتكوين نواة سياسيّة، والتعارف بين الشباب، وإن كانت لا تؤدّي إلى تنظيم فعليّ”.

حكاية تأسيس “لبنان الاشتراكيّ”

“كنّا ثلاثة، أنا ووضّاح شرارة وفوّاز طرابلسي”، يقول سويد، مستعيدًا جذور ما سيصبح لاحقًا نواة تنظيم “لبنان الاشتراكيّ”. بدأت علاقته بوضّاح في أواخر الخمسينيّات، بينما تعرّف إلى فوّاز طرابلسي قبل ذلك حين كان طالبًا في الجامعة الأميركيّة ببيروت”.

في أواسط الستينيّات، “عاد فوّاز من لندن، تواصل معي وقال إنّه التقى وَضّاح أيضًا، واجتمعنا ثلاثتنا، وتحدّثنا كثيرًا عن إمكانيّة تأسيس حركة جديدة، كانت تلك النواة الأولى”.

من الأسماء التي انخرطت معنا لاحقًا يتذكّر سويد “محمد كشلي وكان سابقًا في حركة القوميين العرب، التي شكّلت الإطار الأمّ لعديد من التنظيمات التي تأسّست لاحقًا منها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش”. في تلك المرحلة، يذكر سويد أن الشعارات كانت عنيفة نوعًا مثل “حديد ونار”، في حين كنّا في حزب البعث ننتقد تلك النزعة، ونسخر منها أحيانًا بقولنا إنّها “شاورما” لا “ثورة”، نظرًا إلى خطابها الحاد”.

 “كنّا ثلاثة، أنا ووضّاح شرارة وفوّاز طرابلسي”، يقول سويد، مستعيدًا جذور ما سيصبح لاحقًا نواة تنظيم “لبنان الاشتراكيّ”.

في النواة الأولى لـ “لبنان الاشتراكيّ”، يقول سويد “كان معنا أربعة: من بينهم كريستيان غازي، المخرج السينمائيّ المعروف، وكانت معه شريكته التي أصبحت زوجته لاحقًا مادونا غازي، وتوفّيت في حادث في الأردن. يتذكّر سويد “ذات مرّة، جاء وَضّاح إلى الاجتماع وهو في غاية الحماسة، وقال: أحمل خبرًا مهمًّا! ثلاثة من أبرز أساتذة الجامعة اللبنانيّة يريدون الانضمام إلينا. من بين الأسماء تلك كانت مادونا غازي، وكذلك وداد شختورة، كما تحدّث عن رغبة آخرين في الانضمام، من بينهم أحمد بيضون وحسن قبيسي”.

يتابع سويد: “بدأنا بالتحرّك في مناطق الضاحية الجنوبيّة والنبعة وبرج حمّود، إذ كان لدينا توجّه نحو جذب الشباب الشيعيّ الذين تركوا حزب البعث. أنشأنا حلقات تثقيفيّة عدّة، وكنّا نعقد اجتماعات دوريّة في منازلنا: منزل “عبد الوهاب”، أو منزلي، أو منزل فوّاز”.

آلية التنظيم

في أحد الاجتماعات اللاحقة، يروي سويد “انضمّ إلينا ثلاثة جدد. كنّا قد بدأنا التشكيل دون أن نسمّي أنفسنا “قيادة” أو “حركة” أو “مكتبًا سياسيًّا”. اكتفينا بتسمية بسيطة: “لجنة التنسيق”. نحن من أطلق التنظيم، وكنّا نرى أنفسنا حلقة التأسيس الأولى”.

يتابع سويد “إلى هذه اللجنة انضمّ في ما بعد مجموعة من المثقّفين الذين لم يمرّوا على الحلقات التثقيفيّة؛ كانوا قد تجاوزوا تلك المراحل، وانضمّوا مباشرة إلى النواة. من هؤلاء: حسن أبو عيسى، وأحمد بيضون، ومروان مروّة. من بين الذين كانوا ملازمين لنا طوال الوقت، أنطوان حدّاد، وكُنّا مجموعة من أربعة أو خمسة دائمين معًا. كنّا نعقد الحلقات الثقافيّة، نُضيف بعض الأسماء، ونواصل الجلسات، ولكن في النهاية، لم يُكتب لهذا التشكيل الاستمرار. انتهى دون أن يتطوّر إلى تنظيم حقيقيّ. إلى أن جاء اللقاء الأهمّ مع فوّاز، وهناك بدأنا فعليًا تأسيس “لبنان الاشتراكيّ”.

يضيف سويد “في مرحلة لاحقة، بدأنا بإصدار نشرة دوريّة. في البداية، كانت تصدر شهريًّا، ثمّ صارت نصف شهريّة. وللأسف، خلال الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت، كنتُ قد نقلتُ أرشيف النشرات والوثائق إلى منزل أهل زوجتي، حيث اعتقدتُ أنّه سيكون آمنًا. لكن عندما عدتُ لأسترجع الأرشيف، تبيّن أنّه وُضع في سقيفة رطبة. تسرّبت المياه إليه وأتلفته بالكامل. تعفّن الورق، وضاع بذلك أرشيف “لبنان الاشتراكيّ” الكامل، هكذا كانت الحكاية الحقيقية لتأسيس “لبنان الاشتراكيّ””.

الاندماج

عن مرحلة الاندماج بين “لبنان الاشتراكيّ” و” منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين” يحكي سويد: “تواصل معنا محسن إبراهيم من منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين، وكانت لهم مقاربة مختلفة. لم يكن الأمر سهلًا؛ فقد رفضنا في البداية، ثمّ بعد نحو عامٍ من الإلحاح المتواصل قبلنا بالفكرة. فأُقيم لقاءٌ مع محسن إبراهيم ورفاقه، وكان نصير الأسعد حاضرًا”.

يتابع سويد “قالوا لنا ما تريدونه نحن مُستعدّون له. أوّلًا، نُنشئ لجنةً تشرف على مجلّة الحرّيّة، فتكون بمنزلة هيئة تحرير تابعة لكم، وبذلك نُمسك بالمجلّة. كانت الحرّيّة في الأصل لِـ “حركة القوميّين العرب”، ثم آلت إلى محسن إبراهيم وصارت لِـ “منظمة الاشتراكيّين اللبنانيّين”. فوافقوا على أن نتولّى نحن تحريرها، فتكوّنت هيئة التحرير منّي ووَضّاح وفوّاز وأحمد بيضون وحسن قبيسي. أمّا نوّاف سلام فلم يُكمل معنا؛ إذ التحق بحركة فتح”.

ثم اتُفق على الشروع في الاندماج: شُكّلت لجانٌ مشتركة، فيها اثنان من “لبنان الاشتراكيّ” وواحد أو اثنان من “المنظّمة”. وُزِّعت الموضوعات، وصاغت اللجان تقاريرها لتُدمج في تقريرٍ نهائيّ، يعلن توحيد “لبنان الاشتراكيّ” و”منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين” في تنظيم جديد. تولّيتُ وفوّاز محور “السياسة العربيّة”، وكان سمير فرنجيّة ممثّل “منظّمة الاشتراكيّين”، وكان اجتماع اللجان عادةً في بيت فوّاز أو غالبًا في منزل سمير فرنجيّة.

عُقد مؤتمر الاندماج في أواخر العام 1971، ومنه أعلن قيام منظّمة العمل الشيوعيّ، التي تضمّ لبنان الاشتراكيّ ومنظّمة الاشتراكيّين.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى