من يوميّات مواطن لبنانيّ والهروب المستحيل

يشكّل الواقع اليوميّ الذي نعيشه مادّة خصبة للمعاينة على مختلف أشكالها. إنّ تتبّع مجريات هذا الواقع، والتعبير عن أحواله، ليست مهمّة صعبة في ذاتها، إذ ترتسم الحقيقة الموضوعيّة أمام أنظارنا يوميًّا، وتزوّدنا صورًا ذات طبيعة متناقضة تعكس مزايا وتصرّفات، وأنواعًا من سِلك لا يجمعها منطق متوازن، ولا تخضع لنواميس واضحة. الصور التي نصطدم بها، لا تعبّر عن سلوك جماعيّ، لكنّ ثقل وقعها يجعلها أكثر بروزًا للعين. بعض الوقائع والمشاهدات في هذا المقال ذات طابع شخصيّ، بيد أنّها تتماثل بلا ريب مع حالات أخرى تشبهها، فهي ليست منعزلة عن طبيعة المجتمع والناس.

نزعة إلى الهروب المستحيل

لم يغب عن بالنا حتّى اللحظة حال ذاك الشاب اللبنانيّ الذي تعلّق بإطارات طائرة، منذ عقد ونيّف من السنين، في سبيل الهروب من البلد نحو مصير آخر مجهول. الحدث، الذي  حفظته ذاكرتنا، ونسيه الآخرون ربّما، فريد من نوعه، والطريقة التي تمّ على أساسها لا توحي بالوضوح، بقدر ما تثير مختلف أشكال التأويل. سمعنا مرارًا عن قصص أشخاص اختبأوا في حاويات سفن، أو في دواخل صهاريج مغلقة (كما في رواية غسّان كنفاني “رجال في الشمس”)، وأناس اعتلوا متن زوارق غير آمنة (كما في حال اللاجئين من مختلف الجنسيّات)، لكن لم يرد إلى مسامعنا أخبار عن فتى يختبىء في مقصورة إطارات طائرة.

يبقى أنّ العنوان العريض لمحاولة الشاب اليائسة، التي انتهت بموته، هو الهروب من البلد، الذي غدا، في الحالة المذكورة، انعتاقًا في اتّجاه نهاية مأسويّة. الانعتاق أو الهروب، صار يشبه الحلم بالنسبة إلى فئات شبابيّة، وغير شبابيّة، تتضخّم أعدادها يوميًّا، وفي كلّ ساعة. فكلّ لحظة آتية ربّما توفّر مناخات اليأس، وتبرهن لمجموعات جديدة من المشكّكين، ألّا مكانَ لهم في هذا البلد. هذا الافتراض، الذي ينمّ عن تشاؤم ويأس واضحين، له ما يبرره، وليس هناك من شكّ في صحّته، كما ليس في الأفق ما يشير إلى عكس هذا الحكم المبرم ويدحضه.

فاتك المتسلّط، الذي كان في المسرحيّة فردًا يحكم مملكة، لم يعد في زمننا شخصًا واحدًا، بل طبقة حاكمة مدججة بصلاحيات تؤمّنها انتخابات يسيّرها نظام العصبيّات

يفترض أحد الأصدقاء “البعلبكيّين”، تفكّهًا أو من قبيل السخرية، أنّ فتح باب الهجرة إلى الدول الأميركيّة أو أوستراليا، على مصراعيه وبلا قيود، قد يُفرغ البلد من سكّانه، ولن يبقى فيه سوى حكّامه “المنتخبين ديموقراطيًّا”، والمستفيدين من حكّامه، والمستفيدين من المستفيدين، وأصحاب المصالح الكبرى، وتجّار العقارات والمرابين، والشطّار القادرين على جني المال من دون جهد أو تعب.

فاتك المتسلّط

في أوبّريت “ناطورة المفاتيح” الرحبانيّة (عُرضت ضمن مهرجانات بعلبك الدوليّة في العام 1972) غادر الجميع قراهم تاركين فاتك المتسلّط (لعب دوره الممثل الراحل أنطوان كرباج) حاكمًا، منفردًا ووحيدًا، على جدران وبيوت فارغة من سكّانها، ما جعله يشعر بالفراغ والملل وبعدم جدوى مركزه.

فاتك المتسلّط، الذي كان في المسرحيّة فردًا يحكم مملكة، لم يعد في زمننا شخصًا واحدًا، بل طبقة حاكمة مدججة بصلاحيات تؤمّنها انتخابات يسيّرها نظام العصبيّات والنعرات الطائفية، وهي لن تشعر بالحيف وبالملل، أو بالحزن، لو رحل 80 في المئة من الشعب اللبناني، كما يقول صاحبنا البعلبكيّ، فهذه الأنواع من الشعور بحاجة، من أجل حدوثها، إلى قليل من الحياء… غير متوافر لدى “زعماء” البلد.

في زحمة السير وأسبابها

لا تخلو منطقة لبنانيّة من أزمة السير، أو بشكل أدقّ من زحمة سير خانقة، وإن كانت هذه المعضلة تتفاوت من منطقة إلى أخرى. تشكّل مدينة بعلبك مثالًا في هذه المعضلة. مدينة ليست كبيرة، لكنّ السيّارات التي تجتاح طرقاتها أكثر من أن تستوعبه شوارع المدينة وطرقاتها الضيّقة. البحث عن حلّ لهذه الأزمة لن يكون، للأسف، مجديًا. فالبحث عن حلّ لمشكلة ما، يستوجب العودة إلى أسبابها، ويكون هذا الحلّ أسهل وأبسط حين يكون السبب، أو الأسباب، قليلة في عددها، محصورة في تشابكها.

نعالج شجرة بعد أن نكتشف نوع الدودة التي تنخرها، وهي دودة وحيدة في غالب الأحيان، وتنتمي إلى فصيلة محدّدة. وتعالج إنسانًا مريضًا بعد التوصّل إلى كشف طبيعة مرضه، وعوارض سقمه. لكنّنا نقف عاجزين، أحيانًا، لدى اكتشافنا أنّ ذاك الفرد يعني “اشتراكات”، كما درجت العادة في استعمال التسمية، حين تهاجم الجسم علل عدّة، يتعامل مع إحداها فتغدر به زميلة لها، ثم زميلات، إلى أن يستسلم الجسد، حين يفتقر إلى إمكانات المقاومة.

تشبه أزمة السير في بلدنا الجسد العليل الذي يعاني من أمراض عدّة، معظمها عصيّ على الفهم، وغير قابل للعلاج. ففي هذا البلد الصغير، و”الجميل”، تختال ما تزيد على مليون سيارة، ويقال إنّ العدد يقارب المليون ونصف المليون، كذلك، فإّنّ الرقم مرشح للإزدياد بإضطراد وتسارع. إن مجرّد التفكير في العدد، وفي ارتفاعه الحاصل لا محالة، يثير الرعب في النفوس ويثبط العزائم، ويدفع إلى اليأس قبل التفكير في الحلول. أكثر من مليون سيارة تتحرّك على مساحة صغيرة، ونصف هذا العدد موجود، ربّما، في العاصمة بيروت وجوارها.

هذه الكمّيّة الهائلة من السيّارات بحاجة إلى شوارع وطرقات غير موجودة كي تتّسع لها، وإلى جهاز كمبيوتر، لم يُخترع بعد، من أجل تنظيم سيرها، وتلافي عرقلته. لكنّ “اشتراكات” السير، من حيث هو جسم مريض، تتخطّى مسألة العدد والمساحة، لتمتد وتتوسّع وتشمل نواحٍ أخرى تقع في صلبها الذهنيّة اللبنانيّة الفريدة، وطريقة تعامل البعض مع وسيلة النقل التي من شأنها تسهيل حياة الفرد وتيسير أموره.

لا يجب أن ننسى الـ “ڤانات”، التي تسنّ لنفسها قوانين سير خاصّة، والويل لمن يتجرّأ على منافستها، أو التعرّض لها حين تخرق القانون الضبابيّ

من بعدي الطوفان

يتعامل سائقون كثر مع آليّاتهم على أساس: أسلك طريقي كما أشاء، وبالطريقة التي أراها مناسبة، مستندًا إلى شطارة وحنكة، على الطريقة اللبنانيّة، ووقاحة لا حدود لها. لسنا، هنا، بعيدين من عبارة لويس السادس عشر: “من بعدي الطوفان”، أو تبعًا للمثل القائل: “بيحرق حارة ليولّع سيكارة”، فيقع الطوفان الذي نراه فعلًا أرتالًا من السيّارات في بحر الدخان، وتحترق أعصاب الخليقة عن آخرها في ساعات الحشر المتكرّرة يوميًّا، وكأنّها تتغذّى من آتون لا تنضب ناره.

علينا أن نضيف إلى تلك الاشتراكات عوامل أخرى: تصرّف سائقيّ المسؤولين القبضايات، وتصرّف القبضايات ممّن ليسوا سائقين لدى مسؤولين، وما أكثرهم في مدينة كبعلبك. إلى ذلك، فإنّ قوانين السير، في بلادنا، موجودة فقط في الكتب، ومن الواضح أنّه جرى الاستغناء عنها بعد محاولات فاشلة لوضعها قيد الممارسة وتنفيذها. كذلك، يتمّ استعمال السيّارة لمجرد النزهة في شارع طوله كيلومتر واحد على الأكثر، والذهاب على متنها لشراء علبة سجائر من دكّان الحيّ، الذي يبعد خمس دقائق مشيًا على الأقدام، وربّما أقلّ من ذلك.

إليه، لا يجب أن ننسى الـ “ڤانات”، التي تسنّ لنفسها قوانين سير خاصّة، والويل لمن يتجرّأ على منافستها، أو التعرّض لها حين تخرق القانون الضبابيّ، والدرّاجات الناريّة المتسلّلة بين السيّارات كالأفاعي، والسيّارات المركونة في أمكنة تعطّل السير، وأصحابها جاهزون لأيّ “مشكل”، ويتمنّون حدوثه، وحوادث السير الواقعة عند كلّ زاوية، وتسجن خلفها أرتالًا من العربات، وكميون (شاحنة) عملاق يقوم بالمهمّة ذاتها لصعوبة تجاوزه، وورش إصلاح طرق، أو ورش بناء، أو حفريّات و.. و…

حين تجتمع بعض هذه العوامل، وربّما كلّها معًا، نصل إلى “الاشتراكات” الحتميّة: عجقة سير خانقة وازدحام لا مثيل له، ووقت ضائع تذهب دقائقه الكثيرة، أو ساعاته، سدىً، ضمن صندوقة معدنيّة، في آتون يؤدّي مجرّد التفكير في الوقوع بلهبه إلى رهاب صار يصيبنا لدى فتح باب السيّارة للإنطلاق بها إلى “الزحمة”. صار الحديث ممكنًا عن فوبيا من طراز جديد، ستقع على الأطبّاء والمحلّلين النفسانيّين مهمّة صوغ أعراضها ومؤثّراتها في زمن قريب، فالازدحام المروريّ لم يعد أمرًا طارئًا، بل صار قدرًا حتميًّا علينا أن نتعايش معه صاغرين، كمن لا حول لهم ولا قوّة، ونتحمّل ورمه المتضخّم كسرطان خبيث، لا علاج له، ينمو في طرقنا وشوارعنا.

حول سعاداتنا الصغيرة

مركّب مفهوم السعادة وشائك، وفيه ما يكفي من تعقيدات. التعريف الكلاسيكيّ يصف السعادة كحالة من الاكتفاء التامّ، والشعور بالكمال المؤدّي إلى فرح أو لذّة. وككلّ شعور بشريّ، يمكن تناول السعادة من وجهات نظر مختلفة تتداخل فيها الفلسفة، ولا تغيب عنها نظريّات النسبيّة.

نحن بعيدون هنا، بالقوّة، من فكرة مارك أوريل، الذي قال: “عندما تستيقظ صباحًا، تذكّر كم هو ثمين ذاك الامتياز بكونك حيًّا، تتنفس، وتكون سعيدًا”. ثمّة أمور تثقل كاهلنا في هذا الوطن ربّما يبدو الحديث عنها عسيرًا، وأمرًا مبهمًا لدى شعوب أخرى، أو كما يسمّيه الفرنسيّون Absurde. هكذا تكون الحال حين نتطرّق إلى موضوع الكهرباء، التي صار حضورها في بلادنا ترفًا. أمّا استمرار هذا الحضور على مدار الساعة فأقرب إلى حلم لن يتحقّق في زمننا، وسنترك التمتّع به إلى أجيال قادمة، قد تؤاتيها القوّة والاقتناع والقدرة على المحاسبة، وتوريط القائمين على البلد في مهمّة الاهتمام الجدّيّ بقضايا الناس.

تجلس والدتي في مكان غير بعيد من “فيش” الكهرباء الذي يغذّي المضخّة بالتيّار، مخافة أن يقوم أحد بنزعه من مكانه، وتلقي نظرة بين فينة وأخرى إلى الأسفل كي تطمئنّ

ما يُقال عن الكهرباء، يُقال أيضًا عن الماء، الذي صار انقطاعها المتمادي، وخصوصاَ في زمن الجفاف الحاليّ، يؤهّلنا للإنضمام إلى صفوف شعوب أفريقيا، في معاناتنا المشتركة من الجفاف المذكور. الفرق الوحيد بيننا وبين تلك الشعوب أنّ الجفاف في القارّة السوداء سببه الموقع الجغرافيّ المؤدّي إلى بخل الطبيعة، وهو عندنا نتيجة سوء تنظيم وهدر وتقصير.

هذا، وقد بلغت علاقة والدتي بموضوع الماء حدّ الوسواس القهريّ. إذ حين تتكرّم علينا مصلحة المياه بهذا السائل الحيويّ الذي من دونه تنتفي إمكانيّة الحياة، تسرع والدتي إلى “تدوير الموتور”، الذي من شأنه أن يدفع الماء من المستوى السفليّ إلى الخزّان المسترخي فوق سطح منزلنا. تسبق ذلك ضجّة في الحيّ، ونداءات من منزل إلى آخر تبشّر بقدوم المياه، فيعمّ نوع من الهستيريا الجماعيّة، ويتراكض الجميع إلى مولّداتهم ومضخّاتهم، في حين تجلس والدتي في مكان غير بعيد من “فيش” الكهرباء الذي يغذّي المضخّة بالتيّار، مخافة أن يقوم أحد بنزعه من مكانه، وتلقي نظرة بين فينة وأخرى إلى الأسفل كي تطمئنّ إلى أنّ مصدر المياه في أمان.

حديقتنا تذوي ببطء

وبما أنّ هذا المصدر ليس آمنًا من حيث الأساس، ولا يمكن الإتّكال عليه، فإنّنا نشتري الماء من أحد أصحاب الصهاريج، الذي يجد صعوبة في إيقاف آليّته، الكبيرة الحجم، قرب منزلنا. إيقاف الصهريج خلال المدّة التي تستوجبها تعبئة الخزّان، يؤدّي كلّ مرّة إلى شجار مع أصحاب السيّارات العابرة بصعوبة، أو غير القادرة على المرور لضيق الطريق. سيّارات قديمة مزمجرة وسائقوها أكثر زمجرة، نتجنّب التلاسن أو الشجار معهم لجهلنا انتماءهم العائليّ أو العشائريّ، وما هم قادرون على فعله من تصرّفات لأتفه الأسباب.

نعود إلى موضوع الماء لنقول إنّ حديقتنا تذوي ببطء، وقد بدأت مفاصل نباتاتها ترتخي، والمرجة الخضراء، التي يبدو أنّ زراعتها كانت خطأ لا يغتفر، صارت صفراء. علينا أن نمتنع عن الاغتسال، وجلي الصحون، ومسح الأرض، كي نوفّر لها بعض الماء. هذه الأمور كلّها تؤدّي بوالدتي إلى حال من التجهّم والنكد والحزن. ولكن حين يزورنا الماء مرّة كلّ ثلاثة أيّام، ترتفع معنويات والدتي وأراها سعيدة، وتدبّ في جسدها الذي أتعبته السنون حيويّة غير عاديّة بالنسبة إلى سنّها، وتزداد سعادتها في حال تجاوز كرم مصلحة المياه مدّة الساعة التي تتحنّن بها علينا كلّ ثلاثة أيام.

أمّا إذا ترافق السخاء الفائض عن الساعة الواحدة مع عدم انقطاع الكهرباء، فسترى سعادة والدتي أكثر جلاء، وأكبر من المعتاد. على هذا الأساس، يصبح مفهوم السعادة وأسبابها عندنا أبسط من كلّ النظريّات الفلسفيّة والمقولات الذكيّة. إنّه الإنكفاء الظرفيّ للوجع. لقد نجحت دولتنا في إبتسار معنى السعادة، وخفض معاييرها إلى حدود قياسيّة، وهذا إنجاز لا بدّ من أن تُحسد عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى