أزمة نفايات زرعون بين فشل النظام وصمود المبادرات

على رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على تدفّق الدعم الدوليّ لقطاع إدارة النفايات في لبنان، لا تزال بلدات وقرى المتن الشماليّ ومنها بلدة زرعون تختنق بين أكياس القمامة وروائح الإهمال. المعضلة لم تعد بيئيّة وحسب، بل تحوّلت إلى مرآة لنظام عاجز ومفكّك، تعرّيه شهادات الخبراء والناشطين والمسؤولين المحلّيّين.
مطامر صحّيّة مموّلة ومجمّدة
طُرحت حلول عدّة من نشطاء في بلدة زرعون لحلّ مشكلة النفايات المنتشرة على الطرقات وفي المحميّات، منها المطامر البيئيّة، لكنّ هذه الحلول ووجهت إمّا بالرفض، أو بعدم الردّ بحجّة غياب التمويل.
تؤكّد الدكتورة سالي جابر، الأستاذة الجامعيّة والخبيرة البيئيّة، أنّ مشكلة النفايات في قضاء المتن “ليست نتيجة غياب التمويل، بل لغياب التخطيط البيئيّ المتكامل والشفافيّة في اختيار المواقع”. وتشير لـ “مناطق نت” إلى أنّ المطامر الصحّيّة ليست ترفًا بيئيًّا “بل ضرورة وطنيّة لحماية التربة والمياه الجوفيّة والحدّ من الانبعاثات، ولا سيّما في ظلّ تفاقم انتشار المكبّات العشوائيّة”.

تضيف أن “المبادرات السابقة لإنشاء مطامر أو مراكز فرز في المتن اصطدمت باعتراضات محلّيّة غير علميّة، ومزايدات سياسيّة، وتضارب مصالح، ما حرم القضاء من حلول علميّة مستدامة”. وترى جابر أنّ “الأزمة أعمق من موقع مطمر أو عقد مع شركة، إنّما هي نتاج غياب الدولة وتهميش الخطط المركزيّة، مقابل هيمنة التسييس والارتهان إلى المحاصصة”.
الأحراج مكبّات عشوائيّة
في زرعون، تحوّلت منطقة “الشنداية” الحرجيّة إلى مكبّ عشوائيّ، في ظلّ تقاعس الشركة المشغّلة “رامكو” بعد عودتها إلى جمع النفايات، وعقب تعديل العقد مع بلديّة بيروت ودفع كامل مستحقّاتها، إلّا أنّها لا تزال غائبة عن بلدة زرعون وسط استمرار تكدّس النفايات في الأحراج والمحميّات الطبيعيّة.
وما يفاقم المشكلة كذلك، أنّ النفايات وفي معظم الأحيان تُرمى من نوافذ السيّارات نحو المستوعبات ولا تصل إليها بل تستقرّ حولها، أو تُرسل مع الأطفال الذين لا يمكنهم الوصول إلى المستوعب، فيرمونها قريبة. وفي كلا الحالتين النتيجة واحدة وهي انعدام المسؤوليّة وعدم رمي النفايات في مكانها الصحيح.
ضو: اقترح عدد من الناشطين المحلّيّين مشروعًا متكاملًا لإنشاء مركز معالجة بلا أيّ كلفة على البلديّة، مقابل تأمين قطعة أرض فقط. لكنّ المبادرة تعطّلت
مبادرات معطّلة
يروي رفيق ضوّ، وهو ناشط بيئيّ من أبناء البلدة ورئيس جمعيّة “إلى الناس” كيف اقترح عدد من الناشطين المحلّيّين مشروعًا متكاملًا لإنشاء مركز معالجة بلا أيّ كلفة على البلديّة، مقابل تأمين قطعة أرض فقط. لكنّ المبادرة تعطّلت بسبب “عجز البلديّة عن توفير أرض مناسبة، وممانعة من بعض الجهات”.
ويضيف لـ “مناطق نت”: “اليوم، تُرمى النفايات في منطقة مصنّفة بيئيًّا كمحميّة، ما أدّى إلى تلوّث التربة وتهديد التنوّع البيولوجيّ، وسط صمت رسميّ قاتل”. ويتابع “الشنداية دُمّرت، أمّا كوع الشير وكوع الميدان وكوع التون، كلها تحوّلت إلى مكبّات. لم نعد نستطيع الحديث عن بيئة، بل عن كارثة متدحرجة”. ويستدرك “على رغم أنّ المجتمع المحلّيّ بادر عبر اقتراحات وحلول عمليّة منها إعادة توزيع المستوعبات، إنشاء أقفاص حديثة، توزيع أكياس فرز، إلّا أنّ البلديّة لم تبادر، واكتفت بخيارات ترقيعيّة مثل تخفيض وتيرة جمع النفايات من قبل الشركة المتعهّدة”.
البلديّة: لا حلول قريبة
بدوره لا ينكر رئيس بلديّة زرعون رمزي ضوّ وجود أزمة، لكنّه يضعها في سياق معقّد يتجاوز قدرات البلديّة. يقول ضو لـ “مناطق نت”: “إنّ شركة “رامكو” تتقاضى نحو 90 دولارًا أميركيًّا عن كلّ طنّ نفايات، في حين تنتج البلدة ما بين سبعة وثمانية أطنان أسبوعيًّا، أيّ أنّ الكلفة تبلغ 90 دولارًا أميركيًّا كلّ يوم، أيّ بكلفة شهريّة تفوق الـ 2800 دولار. أيّ 32850 دولارًا في السنة”.
بعقليني: أكثر من 250 مليون دولار دخلت إلى القطاع خلال 30 سنة، لكنّ غياب تطبيق الاستراتيجيّة الوطنيّة لإدارة النفايات هو الذي شلّ الحلول
يتابع ضو “وإذا أردنا أن نقسّمها على الأفراد فتبلغ حصّة الفرد في السنة 27.5 دولارًا، أيّ ما يعادل مليونين و461 ألفًا و250 (2.461.250) ليرة لبنانيّة عن كلّ شخص، بالتالي إنّ المنزل المؤلّف من خمسة أفراد يترتّب عليه بدل جمع نفايات سنويّ مقداره 12 مليون و306 آلاف و250 (12.306.250) ليرة لبنانيّة أي ما يوازي 137.5 دولارًا أميركيًّا تقتطع من البلديّة”.
وعلى سبيل الذكر، يشير رئيس البلديّة إلى إنّ “زرعون ما زالت تسدّد مستحقّات شركة ‘سوكلين‘ ولم نبدأ بعد تسديد مستحقّات ‘رامكو‘. وفي السنوات الأخيرة درجت العادة أن تقتطع الدولة من مستحقّات البلديّات من الصندوق البلديّ المستقلّ 50 في المئة لصالح شركات جمع النفايات. وخلال العام المنصرم حوّلت الدولة ما يوازي 4000 دولار أميركي أو أدنى بقليل إلى بلديّة زرعون وهي تمثّل 50 في المئة من مستحقّات البلديّة، واقتطعت ما يعادله لصالح شركات جمع النفايات” بحسب ضوّ.
يفرزون، لا يفرزون
يقول رئيس البلديّة ضوّ: “الدولة لا تدفع مستحقّاتنا، بل تقتطع منها لصالح شركات الجمع. ونحن نُحاسَب على خدمات لا نراقبها، ولا قدرة لنا على تعديلها”، مشيرًا إلى أنّ مشروع “الفرز من المصدر، الذي أطلقته البلديّة في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2022، لم يحظَ بتجاوب سوى من 10 منازل فقط. على رغم أنّ الفرز يمكن أن يُخفّف حجم النفايات بنسبة 60 في المئة، إلّا أنّ غياب التوعية وعدم تعاون الأهالي شكّل عائقًا أمام نجاحه”.
ويعلّق ضوّ على عمليّة فرز النفايات من قبل الشركات قائلًا “بحسب تصريحاتهم فهم يفرزون، وبحسب الوقائع فإنّهم لا يفرزون، والدليل أنّ النفايات في العربات يكبس بعضها بعضًا، ما يصعّب إلى حدٍّ كبير إعادة فرزها. كذلك فإنّ عربات جمع النفايات تفرغ حمولتها فورًا في المطمر”.
يرى ضو أنّ “النفايات مسؤوليّة جماعيّة، تبدأ بمنتج النفايات والفرز من المصدر الذي يقلّل النفايات ويخفّض الكلفة، كون شركات جمع النفايات ستجمع نصف النفايات والنصف الآخر المفروز تأخذه شركة أخرى من دون مقابل. والبلديّة طبعًا مسؤولة عن إدارة النفايات في النطاق البلديّ وعن التوعية والترشيد، الدور الذي نحاول القيام به على رغم محدوديّة الواردات”.
ويعد ضو “أنّنا في المرحلة القريبة المقبلة، سنُطلق حملات توعية وترشيد حول إنتاج وفرز النفايات. أمّا في المرحلة التاليّة، فسيتمّ إزالة جميع الحاويات من النطاق البلديّ لزرعون، بحيث يُصبح جمع النفايات مشروطًا بفرزها من المنازل. كذلك سنوقف التعاقد مع شركات جمع النفايات، على أن تُعالج النفايات العضويّة عبر التسبيخ بطريقة علميّة. وقد سبق أن تعاونّا مع الناشط البيئيّ زياد أبي شاكر، الذي قدّم لنا سلسلة من الاقتراحات في هذا الإطار”.
ليست أزمة ماليّة
من جهته، يؤكّد بيار بعقليني، الخبير في إدارة النفايات وصاحب منصّة “Lebanon Waste Management”، أنّ الأزمة في لبنان ليست ماليّة، بل تنظيميّة وقانونيّة. ويقول إنّ “أكثر من 250 مليون دولار دخلت إلى القطاع خلال 30 سنة، لكنّ غياب تطبيق الاستراتيجيّة الوطنيّة لإدارة النفايات (مرسوم 12526 الصادر العام 2018) هو الذي شلّ الحلول”.
ويشدّد بعقليني على ضرورة تفعيل مبدأ “الملوّث يدفع”، ما يتيح للبلديّات فرض رسوم عادلة على مصادر النفايات وتمكينها من التعاقد مباشرة مع شركات، خارج سطوة المتعهّدين الكبار. ويضيف أنّ “البلديّات كانت حتّى وقت قريب مقيّدة، ومهدّدة إذا تعاقدت خارج الشركات الكبرى”.
ويتمثّل بعقليني ببلديّة بكفيّا، التي نجحت منذ 2016 بتطبيق نموذج مستقل للفرز والمعالجة من دون اللجوء إلى المتعهّدين، ما يثبت أنّ “الحلول ممكنة عند توافر الإرادة. كذلك فإنّ مشروع إعادة تأهيل معمل الكرنتينا بتمويل البنك الدوليّ وبإشراف UNDP، قادر على استيعاب 1200 طنّ يوميًّا، ما ينعكس إيجابًا على بيروت والمتن، شرط استكماله”.
إنّ المشكلة تكمن في مطامر مجمّدة، أو تمويل مهدور، أو بلديّات مكبّلة، أو مواطنين غير ملتزمين. لا تزال النفايات تُرمى عشوائيًّا، بينما البيئة والصحّة العاّمة تدفع الثمن دون تطبيق الاستراتيجيّة الوطنيّة لإدارة النفايات وإقرار قانون استرداد الكلفة وتوسيع صلاحيّات البلديّات مع توزيع عادل للمطامر والمعالجة بين المناطق وتحفيز المجتمعات المحلّيّة على الفرز، عبر توعية ودعم ووضعه بيد الإدارات المحلّيّة ضمن لا مركزيّة بيئيّة موسّعة.