مطارات الجنوب مدارج وغرف قيادة وأبراج مراقبة

صغارًا كنّا، نشقّ القصب، ونعمَد إلى ليّه على شكل قوس، لنثبّت فوقه قطعة من النايلون الأزرق، كي نصنع طائرة بذيل طويل وخيط موصول ببكرة. نركض حتى تطير، فترتفع في سماء بلدتي أنصار، في زمن المعتقل. كان الجميع يشهد لطائرة شقيقي علي، إذ هي الأجمل والأمتن، والتي تبتعد في السماء، حتّى تذوب فيها. هكذا كان يشدّ الخيط، ثمّ يضيف إليه بكرة تلو بكرة، ليحرّك الطائرة التي لا يراها!
ظهيرة يوم صيفي من العام 1983، دخلت دوريّة “إسرائيليّة” إلى حارتنا في الضيعة، وراح قائدها يسأل عن ذلك الشخص الذي يصنع الطائرات الورقيّة ويطلقها. لم يتلقَ الضابط إجابة تشفي غليله، فحذّر السامعين قائلًا: “هذه الطائرات تؤثّر في حركة طائراتنا في الجوّ. هذا عمل تخريبيّ، وسوف نحاسبكم عليه”.
كانت تلك الواقعة تجسيدًا لتلك الاغنيّة التي غنّاها مارسيل خليفة ذات يوم:
“كان في مرّة طفل صغير عم يلعب بالحارة… عم بيفتّش عَ خيطان تيطيّر طيّارة. اتطلع بالجوّ وقال: مدري شو عم يلمع؟ شوفوا شوفوا الطيّارة…جايي لعندي الطيّارة. هاي طيّارة كبيرة ما بدّا خيطان …وجوانحها أكبر من بيت الجيران…”.
أجل كان هناك في بلدتنا مطار عسكريّ كبير، “تنغل” (تزدحم) فيه الطائرات وناقلات الجنود والمعتقلون، وصناديق الذخائر.
مطار أنصار
على تلك البقعة الواسعة، شرقيّ بلدة أنصار، أقامت منظّمة التحرير الفلسطينيّة مطارًا، هبطت فيه طائرات، يقال إنّها ليبيّة تحمل أسلحةً وحاويات صغيرة، لم يستطع شهود عيّان تحديد محتواها. بعد مدّة توقّف عمل الفلسطينيّين في المطار، لكنّ الإسرائيليّين تلقّفوا تلك الفكرة وجعلوه مطارًا، بعد شهر فقط من اجتياحهم لبنان مطلع حزيران من العام 1982.
قسّم الاسرائيليّون المكان إلى قسمين: الأوّل حوّلوه إلى معتقل لآلاف الشبّان اللبنانيّين والفلسطينيّين، إذ حشروهم في مئات الخيام المسيّجة بالأسلاك الشائكة. أمّا الجزء الثاني، فكان مدرجًا للطائرات العسكريّة المتوسطة الحجم، التي تنقل الجنود والعتاد، فتشكّل جسرًا جويًّا بين أنصار وفلسطين المحتلّة. أيضًا بالتوازي، كانت طائرات الهليكوبتر (المروحيّة) ترتفع من هناك، لتقوم بمهمّات ضمن الأراضي اللبنانيّة، أو باتّجاه فلسطين.

مع تنامي عمليّات المقاومة، نفّذت القوّات الاسرائيليّة انسحابًا جزئيًّا من منطقة النبطية لتحافظ عل تمركزها في القرى التي سمّيت بقرى الشريط الحدوديّ، لكنّ أهالي أنصار، حتّى يومنا هذا، يطلقون على تلك الناحية من البلدة، تسمية المطار وطريق المطار.
يوم سقطت طائرة بريطانيّة
قبل كلّ هذا، كان سكّان أنصار، يراقبون الطائرات المتصارعة، إبّان الحرب العالميّة الثانية، حيث سقطت طائرة بريطانيّة، بينما الطيّار نجا فقام أهل البلدة بالاهتمام به، وقدّموا له فطورًا. في تلك الفترة كان للبريطانيّين مخيّم في منطقة المرج، عند الناحية الغربيّة من البلدة. وفي مرّة حصلت بلبلة سببها اتّهام البريطانيّين أهالي أنصار بسرقة محروقاتهم! ومن أجل التفاوض ونقل الحوار بين السكّان والضابط البريطاني، جرت الاستعانة بالسيّد خليل داغر الذي كان يتقن الإنكليزيّة لأنّه كان مهاجرًا إلى أميركا.
أمّا مطلع الثمانينيّات وضمن الأحداث المتسارعة، كانت هناك حرب جوّيّة بين الطائرات السوريّة والإسرائيليّة، جرّاء ذلك سقطت طائرة سوريّة في الوادي بين بلدتيّ سيناي وأنصار، يومها ذهب الناس لانتشال جثّة الطيّار السوريّ “الذي كان يحمل راتبه في جيبه، وعلبة تبغ، وقدّاحة” بحسب رواية الأستاذ سعدالله داغر.
مطار “المرج” الخيام
يحدث كلّ يوم، أن يرشّ المزارعون بذارهم، أو يحصدون ثمار زرعهم، بينما يسوق الرعيان مواشيهم باتّجاه تلك البقعة العجيبة التصميم، لتشرب الأغنام والأبقار. ربّما يستظلّ الراعي في ظلّ عمود مراقبة اسمنتيّ، ليشعل لفافة تبغ. مشهد يكاد أن يكون عاديًّا بنظر البعض، وهو قمّة السورياليّة بعين من يعرفون أنّ تلك النعاج، تلوك الحشائش على مدرج “مطار المرج”، أو “المطار الانكليزيّ” كما يسمّيه البعض الآخر.
نعود إلى العام 1942، حيث كانت الحرب العالميّة الثانية في أوج استعارها، وكانت مصر قد سقطت بيد الألمان، فما كان من الإنكليز، إلّا أن شيّدوا مطارًا عسكريًّا، في تلك النقطة الاستراتيجيّة في سهل الخيام، حيث تحتشد الجغرافيا بين ثلاثة بلدان هي: لبنان وسوريّا وفلسطين. هناك تمّ بناء غرفة قيادة وتسعة هنغارات، وخنادق وتحصينات وأبراج مراقبة ومدرج كبير.

أنجز المطار بتصميم ضابط ألمانيّ منشقّ، وتنفيذ أهالي الخيام ومرجعيون والقرى المجاورة وصولاً إلى النبطية، الذين أنهوا مهمّاتهم بعد شقاء ثلاث سنوات، قبل أن يبدأ المطار في تحقيق مهمّاته، إقلاعًا وهبوطًا نقلًا للجنود والعتاد وصناديق التموين. يستمرّ ذلك مدة خمس سنوات، ثمّ يتوقّف العمل في ذلك المطار الذي راح العشب يتسلّل على تحصيناته، والصدأ يأكل أسواره، والماء يغمر خنادقه والمرائب، فصار يذوي شيئًا فشيئًا، حتّى لم تعد ذكراه تخطر في بال أحد، سوى كبار السن، ممّن يتذكّرون نتفًا من مشهديّات تلك الأيّام الأسطوريّة. كيف لا، ونحن في مطلع الأربعينيّات، في قرى لم تألف بعد مشاهدة السيارات.
طائرات الطوارئ
مع دخول قوّات الطوارئ الدوليّة إلى جنوب لبنان، منتصف السبعينيات تنفيذًا للقرار الأمميّ رقم 425، بنيت مقرّات عسكريّة كبرى، اقتطعت بعضها مساحات مهيّئة للمروحيّات، فكانت وسيلة تنقّل بين المراكز، وفي أحيان كثيرة، كانت تتوجّه ناحية فلسطين المحتلّة، حيث كانت مقرًا لكثير من الشخصيّات المدنيّة العاملة في صفوف الطوارئ، كذلك كانت تُنَظَّم رحلات للصحافيّين – إبّان الاحتلال الإسرائيليّ- من بلدة جويّا الجنوبيّة باتّجاه مقرّ الطوارئ في الناقورة؛ إلى مهمات تتعلق بعمليات الإسعاف ونقل الجرحى والمصابين من عناصر الطوارئ.
تمتلك قوّات “يونيفيل” نقاط انطلاق للطائرات المروحية، في كل مراكزه الرئيسة في الجنوب، وهي: الناقورة، شمع، بلاط، شبعا، تبنين، الطيري، ميس الجبل، حاريص، معركة، طير دبّا، إبل السقي، راشيّا وكفرشوبا…
أيضًا للجيش اللبناني نقاط لانطلاق الطائرات المروحيّة في الجنوب، وهي قليلة نسبيًّا: صور، مرجعيون، كفردونين…
الدرون للتصوير
منذ بضع سنوات، صارت طائرات “الدرون” المزوّدة بكاميرات في متناول المهتمّين، وحدث أن صُوِّرَت بضعة أفلام ومسلسلات وأعمال دعائيّة، بتلك العدسة الطائرة، التي تتحرّك من خلال آلة التحكّم من بعد، فتقدّم لقطات “عين الصقر” بشكل مبهر؛ بالطبع لا يمكن القيام بهذا الأمر من دون الاستحصال على أذونات تصوير من السلطات لأسباب أمنيّة، ولو أنّ بعض الهواة ممّن يملكون تلك الكاميرات، يطلقونها غير آبهين بتلك الإجراءات، وغالبًا ما يتعرّضون للمسائلة.
اليوم، تنتهك الطائرات الإسرائيليّة سماء الجنوب بشكل يوميّ، تقصف حينًا وتراقب في حين آخر، وتقتل وتدمّر، وتفرض هيمنتها الجوّيّة وكأنّها تملك الفضاء وتحتكر المشهد من الأعلى. مشهد مهين، نتمنّى حياله أن نعود إلى زمننا القديم، حيث كانت طائراتنا مسالمة من ورق تزيّن الأجواء.