زياد والجنوب وثلاثة أيّام ثقيلة

كأنّها لحظة الحسم، لحظة خروج رؤوسنا من بؤرة الفوضى اللامتناهية، والحزن المستمرّ، والخوف البشع. تلك الحالة، حالة التبلّد، القرف، أيًّا كان وصفها، كانت متفاقمة أساسًا فينا. في هذا القعر المتعب، مات زياد. الجملة بثقلها: “مات زياد”… مات زياد، وناح الحمام.

يُقال، لكلّ منّا قصّته مع زياد، ولو شعرنا بأنّنا نزايد على بعضنا البعض بحبّنا له. وهو ليس فعل الحب بحدّ ذاته، هو الصدمة والوداع. ولو شعرت بنفسي، أنّ لي قصّة مختلفة، وربّما متكرّرة أو غير جديدة مع زياد، فأشعر بثقلها، وثقل كلماتها، أو ركاكة أفكارها. لكنّني أؤمن جيّدًا بأنّني أريد كتابتها، لكي لا تندثر لاحقًا، أو لكي أعيد ذلك الحزن مرّةً أخرى، ربّما في حزن آخر أصعب.

انتصار لا يرمّم

لم أكن أعلم أنّ الأيّام الثلاثة المقبلة ستختصر ما شعرت به طوال حياتي: بين لحظة انتصار، وموت، وانهيار ذاكرة جماعيّة. ثلاثة أيّام، بثلاثة أوجه للحزن.

صباح الـ 25 من تمّوز (يوليو) الجاري، توجّهت من بلدتي شقرا الجنوبيّة، لاستقبال جورج عبدالله في مطار بيروت مع الحشود. كان يومًا استثنائيًّا، أن أستقبل رجل ترعرعت على اسمه وقضيّته، في بيتٍ يُقال إنّه شبه يساريّ. كنت أنا ذاك الولد الذي أحبّ فعل مقاومة إسرائيل، أيًّا كان شكلها. خرج جورج، رفعنا القبضات، وكان لقاءً غير كافٍ لقلّة تنظيمه، لكنّ جورج خرج. في لحظة الفرح تلك، كان داخلي متعبًا. وكأنّ هذا الانتصار لم يعد يكفينا، لم يرمّم شيئًا، لم يشبع الخسارات. كنت أشعر أنّنا ننتصر متأخّرين دائمًا، ونخسر سريعًا.

من تشييع زياد الرحباني في شارع الحمرا (تصوير رمزي حيدر)

توجّهت إلى منزلي في بيروت قبل أن تراسلني صديقتي نهلة، لنلتقي. توفّيت والدة نهلة بعد أن تدهور وضعها الصحّيّ في المستشفى بشكل متسارع ومفاجئ. الموت هبّ، وكان وصولي ونهلة إلى شقرا باهتًا، لا يمكن وصفه ولا اختصار وجعه. في الطريق، بدا الجنوب غريبًا. لم يكن الجنوب الذي كنّا نغنّي له، بل جنوب بلا صوت. كأنّ أمّ نهلة رحلت ومعها جزء من الأرض. لم نكن نعلم أنّ الفقد سيستكمل، وأنّ الصوت نفسه، صوت زياد، سيصمت لاحقًا.

زياد مات من زمان

ربّما ما أسرده هي أحداث غير مترابطة أو متشابهة، لكنّها جزء من تلك القصّة، قصّة ثلاثة أيّام ثقيلة. في اليوم الثاني، ظهرًا، أعلنت وسائل إعلام لبنانيّة “وفاة الفنّان اللبنانيّ الكبير زياد الرّحباني”. اتّصلت بوالدي، لكي يتأكّد من “رفاقه” في الحمرا. وكما أبناء جيلي، انفعلت على “الواتساب”، أجريت اتّصالات متتالية ونشرت صورًا ترثي زياد. “زياد مات من زمان، بس هلّق نعوه. زياد مات من وقت ما كلّ رفقاته ماتوا”، قال زين، والدي.

هو شريط واحد دار في ذهني، كأنّ زمنًا أخذ قسطًا هنا ليسعيد كلّ شيء من الذاكرة. تذكّرت حين سمعت أغنية “بما إنّو” لزياد، كنت أسمعها من خلال أسطوانة مدمّجة “سي دي” السيّارة، حين قال: “قلت بنزّل مرتي وبنزل وإبني بيفلت عالرصيف”. كنت دائمًا أنتقد في داخلي الأغنية أو أشعر بغرابتها، بمعنى “قدّيش زياد صايع ومش منيح ليرمي ابنه عالرصيف”.

في جانبين مختلفين من الأغنية التي كنّا نسمعها، أغاني فيروز الرّحابنة، وأغاني زياد التي منها أدّاها جوزيف صقر وفيروز ولم تحتوِ على أغنية فقط. أغنية زياد كانت عالمًا آخر. كانت أولى أنواع الموسيقى التي لا تشعر بمللها مهما طالت. لأنّها تحتوي على كلّ شيء، على كلّ ما يدور في ذهنك من جنون، وربما عبقريّة، أو عدم القدرة على ضبط الأفكار وتلاحمها، تمامًا كما أشعر. وربّما يومًا ما شعرت أنّ زياد عندما لحّن كان يشعر بالشّعور نفسه الذي يراود أصحاب الحركة المفرطة وقليلي التنظيم والمرتبكين، وعلى نحو ما ينادونني دائمًا الـ “Clumsy” (الأخرق).

يا له من حزن كبير لا متناهي. لم تنتهِ الحرب، وتبدّلت معالم الجنوب، ومات زياد. زياد الذي لم يكن يومًا رماديًا، وأبدى رأيه بكل صراحة وبطريقة فجّة أحيانًا.

كان زياد حالة فريدة في لحظة اكتشافي لغنى لبنان الفنّي. يعني أن أرى كل ما أحبّه في لحن، أو في شخص. زياد ألّف “خلّصوا الأغاني هني ويغنّوا للجنوب” وغنّتها فيروز. تُحفة التحف. نشوتي الأزلية أن أجد هذا المزيج في تحفة فنية واحدة: فيروز، وزياد، والجنوب، ولو بدا الحديث مبالغًا فيه. لكنّني لطالما كنت هذا الشخص العاطفي الذي يركّز في التفاصيل، في موسيقى أسمعها جانبًا.

مات زياد، وتفكّكت أفكارنا، وتوضّح وجعنا. رثينا ورثينا ورثينا. حلمت أن أعود إلى شقرا فور انتهاء الحرب. عُدت إليها على أنغام فيروز وألحان زياد، ولم تنتهِ الحرب في الجنوب. شعرت فعليًا بأنّني بتّ شيخًا كبيرًا “ختيار” بأفكاري ومشاعري. لم أبح ولم أظهر ذلك لعائلتي، لكنّني شعرت به. يا له من حزن كبير لا متناهٍ. لم تنتهِ الحرب، وتبدّلت معالم الجنوب، ومات زياد. زياد الذي لم يكن يومًا رماديًا، وأبدى رأيه بكل صراحة وبطريقة فجّة أحيانًا.

نرثي قلوبنا التي ذبلت

ليس لأنّه العبقري زياد الذي نبّهنا وحدّثنا مرارًا عن فساد سلطتنا السياسيّة والطائفيّة والأبويّة، وليس لأنّه زياد الذي أحببته، الذي كره إسرائيل “للعظم” حتّى آخر رمق. يمكنني القول إنّ هذا ما أريد أن أراه من زياد. مزيجًا بين فنّه ورأيه، وهو ما لا يمكن تفرقته، باعتقادي. خلال حرب إسرائيل اللامتناهية على قرانا وناسنا وتاريخنا، كرهت كلّ الآراء الفجّة الرماديّة. شعرت أنّها المعركة الكبرى بيننا وبين إسرائيل، ووبيننا وبين العالم الآخر بأنظمته المتواطئة الأخرى. كلّ تلك المشاهد، من الجنوب إلى المطار، ومن بيروت إلى الجنوب، كانت مجرّد ظلال لفقدٍ أكبر. زياد لم يكن آخر من غاب، لكنّه كان الأوضح. حين مات، بدا وكأنّنا متنا جميعًا.

ذبل الجنوب، وذبلت معه. حدّثنا زياد كثيرًا، وجسّد بيئتنا، كبيئة سائر اللبنانيّين. لأهل الجنوب ارتباط آخر بفيروز وزياد. هم الذين يحبّون الحياة بـ “الدفاع عن أرضهم”، فقط. وبأغاني فيروز وزياد التي جسّدت واقعهم في كثيرٍ من الأحيان. وهنا، وضوح زياد، وعدم رماديّته، كانت سببًا في عدم تبريري لأيّ شخص، لم يبدِ موقفًا صارمًا وواضحًا، أو حتّى لم يبدِ رأيًا منطقيًّا وعملياتيًّا في مواجهة الوحش إسرائيل.

وفي رثاء زياد، يذوب كلّ شيء. رثاء زياد يعني فعليًّا أنّنا نرثي أنفسنا، وأفكارنا، ولبناننا. لبنان الذي فقد كلّ شيء وشاخ. رثاء نجل فيروز، أمّنا الحزينة، يعني أنّنا نرثي قلوبنا التي ذبلت. نرثي شبابنا الذي لم نعشه أبدًا، نرثي عمر الشيخوخة الشابّة الذي حلم، وصُعق، وقُصف، ومات، ولم يعِش الزمن الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى