لأول مرّة منكون سوا… ممنونك يا فيروز

رحلة مباشرة من الجنوب إلى بيروت، للمشاركة في تشييع زياد. في ساحة الشهداء، كنت أنتظر وفؤاد صديقتنا زينب، التي جاءت وهي تحمل ثلاث صور أرشيفيّة لزياد، ووردة من النبطية. تأخّرنا قليلاً، فلم نلحق توديعه في الحمرا ولا في أنطلياس. علّقنا صورة كبيرة لزياد على واجهة السيارة، لعلّ الناس تستوعب أنّ زياد لم يعد بيننا.

السيّدة فيروز وصلت إلى تشييع نجلها. كنت أشاهد الفيديو على الهاتف، تزامن مع التراتيل والموسيقى الحزينة. ظهرت فيروز تمشي بسرعة نحو النعش، جلست هناك، وبجانبها ريما، المفجوعة أيضًا. رفعت رأسها للحظة، أقلّ من ثانية، شعرت بغصّة وانهمرت دموعي. كانت تلك اللحظة الأولى التي نراها فيها منذ سنوات طويلة. لا أستطيع أن أصفها، ولن أستطيع.

وصلنا إلى كنيسة رقاد السيّدة في بكفيّا. هناك، وقف رجل يدلّ الناس نحو جهة التعزية. على الخطّ الأوّل، كان الياس بوصعب وجوليا بطرس. وفي طرف عيني اليسار، لاحظت شيئًا. التفتّ، فكانت فيروز وريما، تجلسان وتنتظران المعزّين.

فيروز بيننا. كانت كأنّها الحلقة الأخيرة من مسلسل الحزن اللبنانيّ. تردّد كثيرًا أنّ زياد كان يدفعها إلى الجلوس بين الناس، لأنّها “لهم”، لأنّهم يحبّونها. وها هي تجلس، تكتفي بهزّ رأسها، تفيض في حضورها، وتفيض في وجعها. لا يمكن وصف المشهد، لكن يمكن القول إنّ حزن العالم كلّه كان هناك.

داخل الكنيسة وجهًا لوجه أمام فيروز
حزن لبنان، حزننا، حزنها

إنّها حلقة جديدة من التعب الطويل. ذاك التعب المتوارث منذ أن وُلدت فيروز، وتزوّجت، وفقدت ابنتها ليال، وزوجها عاصي، ومرّت بخلافات الرحابنة، وبقطيعة زياد، وبرعاية ابنها هلِي. لا نملك القدرة على توصيف كلّ هذا، ولا يُطلب منّا. لكنّنا نعلم أن قرارًا ما اتُّخذ: أن نرى فيروز، في هذه الفاجعة بالذات.

أن نرى أيقونتنا، لا، لا أعرف ما يمكن أن أسمّيها؟ حزينة. أن نشعر بقهرها وعصرة قلبها. أن نذرف معها دموعنا على زياد، وعلى ما خسره الوطن.

ولعلّ هذا الموت، الذي خطف زياد، منحنا لحظة حياةٍ أخرى: أن نلتقي بفيروز، وجهاً لوجه، في حزنها النبيل الرّاقي. حزننا لم يكتفِ بزياد، بل انكمش إلى فيروز. قرّرنا أن نحزن معها، وعليها. فيروز حزينة. فيروز، التي لكلّ منّا سدريّته في كيفيّة ظهورها. كنت أتخيّل أنّ لقاءنا بفيروز، لربّما سيكون بحفلة موسيقيّة تحمل اسم فيروز، تجلس فيها لتلقي محبّينها، ويعزف زياد عبقريّاته، ويضحكنا قليلاً، ونعود إلى ديارنا بما نختزنه من نشوة.

كنت أتخيّله حفلًا يمكن أن يشبه حفلة فيروز في ساحة الشّهداء، التي جمعت اللبنانيّين في بيروت، في العام 1994. كلّ ذلك ذهب، وكان لقاؤنا بها حزينًا، على الرّغم من أنّنا اقتربنا منها، وجمعتنا في صالون واحد أمامها. يمكن لأيّ كان أن يُحدّث فيروز بكلمات تعزية. ربّما نريد في فيروز فرحنا الوحيد في بؤسنا الدائم: أن تغنّي، أن ترتّل، أن تتحدّث، أو حتّى أن نرتشف القهوة معها. كلّنا نغوص في تفاصيلها، شخصيّتها، دمعتها، ونسأل عنها.

كنت أظنّ، كما كثيرين، أنّ لقائي بها سيكون في احتفال، في مهرجان موسيقيّ كبير، حيث يجلس الناسُ على مقاعدهم بانتظام، وتنطلق الأضواء وتُعزف موسيقى زياد

يقول البعض في تسريباتهم إنّ فيروز “مهضومة”، وتحبّ المزاح، وآخر ما سمعته أنّها كانت “تعتل همّ” زياد عندما يزورها، إن أحبّ الطعام أم لا. فيروز حبيبتنا استقبلتنا وتفاعلت معنا على قدر استطاعتها، وأتعبناها كثيراً. لكنّ هذا القرب كان هديّتها لزياد… ويا محلى هالهديّة الحزينة.

في اليوم التالي من التعزية، اقتربت من فيروز وأنا أحمل ظرفًا أسمر، وفي داخله ظرف أسود يحوي رسالة منّي. سلّمتها لمحاميها الخلوق، فوزي مطران. وبعد عودتي، رصدت في كاميرات البثّ المباشر أنّ المغلّف وُضع في ملفّ يعود لها أو للمحامي مطران.

لم أكن أتخيّل يومًا أنّني سأكتب هذه الكلمات. لم يخطر في بالي أن يكون هذا المقال هو الذي يفرض نفسه عليّ، ليس من باب الحرفة أو الرغبة، بل من باب العجز. عجزُ مَن وجد نفسه وجهًا لوجه أمام فيروز، لا على خشبة مسرح، بل في عزاء زياد.

كنت أظنّ، كما كثيرين، أنّ لقائي بها سيكون في احتفال، في مهرجان موسيقيّ كبير، حيث يجلس الناسُ على مقاعدهم بانتظام، وتنطلق الأضواء وتُعزف موسيقى زياد، فتطلّ هي كأنّها الحلم الأخير لهذا الوطن. لكنّ اللقاء جاء على نحوٍ مختلف. بسيطًا، حقيقيًّا، وموجِعًا.

فيروز كبرت. كبرت، وأصبح حضورها نادرًا، عظيماً وهشّاً، كما الورق القديم الذي نخاف أن نطويه فيتكسّر

جلسنا في صالون واحد، بلا حواجز ولا مسافات. العزاء لم يكن حدثًا نخبويّاً ولا خاصًّا بالعائلة فقط، بل كان أشبه بعزاء في ضيعة، حيث لا أحد يسأل من أنت، بل يُفتح لك الباب، وتُمدّ لك يد المشاركة، ويُفسَح لك في الحزن.

لم يشعر أحدّ بأنّه دخيل. لا بروتوكول، لا كلمات كبيرة، فقط حزن نقيّ، ومحبّة شفّافة، وصمت يشبه الصلاة. كانت فيروز هناك، كما لم نرها من قبل: هادئة، منكفئة إلى الداخل، لكنّها بيننا.

وفي لحظة ما، بدأنا نستوعب الحقيقة التي لطالما تجاهلناها: فيروز كبرت. كبرت، وأصبح حضورها نادرًا، عظيماً وهشّاً، كما الورق القديم الذي نخاف أن نطويه فيتكسّر. لكنّها لامعة، جبّارة، بيننا على رغم حزنها.

كبرت، ولا نملك اليوم سوى أن نتمسّك بها أكثر، أن نراها ونقول: “الحمد لله، لا تزال بيننا”. فنحن لم يبقَ لنا إلّا قليل. وهي كلّ ما تبقّى من حزننا وحلمنا وقهرنا. كانت فيروز بيننا بحزنها، سيّدة الحزن، اختارت أن تكون هنا، أن تشاركنا وجعنا، على رغم أنّها كان باستطاعتها اختيار الجلوس في صمتها، بعزلة تختارها. لكنّها آثرت أن تكون بيننا، أن تشارك العزاء، حاضرة في خفوت، تُعانق الحزن بصمت، وتسمح لنا أن نكون قريبين منها، ولو للحظة. “ممنونك يا فيروز”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى