النازحون في مهب المجهول ومراكز الإيواء تنذرهم بإغلاق أبوابها

لا أخبار عن النازحين، لا في وسائل الإعلام، ولا في الاجتماعات الرسميّة المختلفة التي تُعقد أو غير الرسميّة. هكذا بكلّ بساطة لم يعد أحد يسمع بقضيّتهم وكأنّها حُلّت وعادوا إلى منازلهم وأعمالهم في بلداتهم وقراهم التي نزحوا عنها وينعمون بالأمن والسلام والطمأنينة. لكنّ الواقع في مكان آخر، حيث يقبع هؤلاء في النسيان في المناطق التي نزحوا إليها، وبعضهم ما زال نازحًا إلى المدارس يعاني من مرارة النزوح والمصير المجهول.
منذ عودة النازحين إلى قراهم بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) العام الماضي، ثمّة نازحون يقدرون بعشرات الآلاف لم يسرِ عليهم ذلك، ولم ينعموا بالعودة، جلّهم من أبناء البلدات والقرى الحدوديّة التي تمتدّ من الناقورة غربًا وحتّى أعالي كفرشوبا شرقًا. هؤلاء انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، من معايش آمنة مستقرّة إلى ظروف اقتصاديّة صعبة بعد أن فقدوا كلّ شيء.
وما يزيد الأمور تعقيدًا، هو غياب أيّ أفق لعمليّة إعادة التعمير من جهة، ومحدوديّة المساعدات من جهة أخرى. فعلى الرغم من أنّ حزب الله دفع مبلغ أربعة آلاف دولار لكلّ عائلة كبدل إيواء و12 ألف دولار بدل أثاث منزل، إلّا أنّ ذلك لم يخفّف من وطأة المعاناة التي يعيشها النازحون، وما يفاقم ذلك صعوبة هو عدم توقّع وصول مزيد من المساعدات، في ظلّ الموقف الدوليّ المشروط ومحدوديّة قدرات الدولة، وعدم قدرة حزب الله على دفع مزيد من الأموال.
هناك فئة تُعتبر الأكثر ضعفًا بين النازحين، وهي تلك التي ما زالت حتّى الآن تقطن في مراكز إيواء في المدارس. يبلغ عديد هؤلاء حوالي 60 عائلة
قضيّة النزوح
تختلف قضيّة نازحي القرى الحدوديّة القريبة من الحافّة الأماميّة عن غيرها في تبعات النزوح، فهؤلاء خاضوا غمار التهجير أكثر من مرّة، وعلى فترات زمنيّة امتدّ معظمها على ثلاث مراحل، الأولى بدأت لحظة انطلاق حرب الإسناد وما تبعها من تهجير، حتّى تاريخ توسّع الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) المنصرم، وخلال حرب الشهرين وبعد انتهائها، وصولًا إلى ما عُرف بهدنة الـ 60 يومًا، والتي حصل خلالها التدمير الأكبر للقرى، وهو ما تكشّف لنازحي القرى الحدوديّة الذين هبّوا لتفقّد منازلهم وأرزاقهم فوجدوها وقد سوّيت بالأرض، ولم يعد أمامهم سوى خيار العودة إلى الأماكن التي نزحوا إليها مع بداية الحرب، في القرى والبلدات الخلفيّة.
أمام صعوبة الواقع وانسداد أفق العودة، لم يجد النازحون في مواجهة الظروف الحاليّة سوى البحث عن خيار بديل. بعضهم قرّر الاستقرار حيث تهجّر مفتتحًا متجرًا أو دكّاناً، أو باحثًا عن عمل يقيه شرّ العوز. وبعضهم الآخر قرّر الهجرة إلى خارج البلاد.
لكن ما يزيد من معاناة النازحين هو عدم قدرتهم على تلبية متطلّباتهم اليوميّة، بعد أن فقدوا منازلهم ومصادر رزقهم. وبطبيعة الحال فإنّ أولى تداعيات النزوح على المناطق التي انتقل إليها النازحون تمثّلت بارتفاع بدلات إيجار المنازل بشكل غير مسبوق، وهو ما أرهق كاهل النازحين على الرغم من أنّهم تلقّوا بدلات إيجار، لكن ماذا عن المصاريف المعيشيّة الأخرى؟
إيواء تلو إيواء
وعلى الرغم من أن النازحين يتساوون في المعاناة، لكن يمكن القول إنّ هناك فئة تُعتبر الأكثر ضعفًا بين النازحين، وهي تلك التي ما زالت حتّى الآن تقطن في مراكز إيواء في المدارس. يبلغ عديد هؤلاء حوالي 60 عائلة تتوزّع بين ثلاث مدارس في مدينة صور. يروي النازح نادر أبوساري، وهو ربّ أسرة مكوّنة من زوجة وأربعة أولاد، قصّته مع النزوح المتكرّر بأنّها “بدأت يوم الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 من بلدته الظهيرة، إذ انتقل إلى مدرسة صور الرسميّة ليستأجر بعدها منزلًا صغيرًا في منطقة جبل عامل”.

يتابع أبوساري لـ “مناطق نت”: مع توسّع الحرب في أيلول 2024 انتقل إلى مدرسة القنايا في صيدا، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى المدرسة الألمانيّة في برج الشمالي، لينتقل أخيرًا إلى تكميليّة صور الرسميّة التي ما زال ماكثًا فيها”.
يشكو أبوساري من إهمال الدولة والمنظّمات الدوليّة والمحلّيّة لهم فـ “لا أحد يسأل عنّا، ولا تصلنا المياة ولا الكهرباء”. يروي أبو ساري أنّه كان مزارعًا للتبغ، ولديه مواشٍ ويملك جرّارًا زراعيًّا (تراكتور)، “وكنت أجني نحو 1500 إلى 2000 دولار شهريًّا، أمّا اليوم فأتقاضى 15 دولارًا يوميًّا مقابل عملي في اتّحاد بلديّات صور”.
تشاؤم تجاه العودة
يصف أبوساري علاقته بالمحيط الذي نزح إليه بأنّها “غير جيّدة، فهناك نوع من استغلال نتعرّض له، كذلك لا يمكنني العمل على الجرّار الزراعيّ الذي أملكه، لأنذ ذلك سيُعتبر بمثابة تعدٍّ على مصالح أصحاب المهنة عينها في صور والجوار”. ويؤكّد أبوساري أنّه يتردّد إلى بلدته الظهيرة أسبوعيًّا، “فأنا أشتاق إلى قريتي على رغم دمارها، وزيارتي لها بمثابة أوكسيجين أتنفّسه”.
أبوساري: اتحاد البلديات أرسل كتابًا إلى وزارة التربية يخبرها بأنّ الاتّحاد رفع المسؤوليّة عن هذه المراكز، ولا نعلم في أيّ وقت تأتي القوى الأمنيّة لإخراجنا
ويجزم أبوساري أنّ “العودة إلى بلدته الضهيرة ليست قريبة، فقبل خمس سنوات لن نتمكّن من العودة بسبب الظروف القائمة”. لم يستطع أبوساري الاستقرار في مكان نزوحه إذ “لا نملك الموارد الماليّة للقيام بذلك، ولو أنّ هناك استقرارًا لكنّا نصبنا خيامًا فورًا وعدنا إلى بلدتنا”. ويشكو الرجل الخمسينيّ من غياب المساعدات “إذ إنّها باتت تأتي إلى أناس مُعيّنين، فمثلًا جرى توزيع حصصًا غذائيّة من قبل إحدى الجمعيّات لصالح بعض أهالي المنطقة تحت عنوان أنّهم أكثر فقرًا، في حين أنّنا كنازحين لم نحصل على شيء”.
خشية إخلاء قسريّ
يُعرب أبوساري عن قلقه “من محاولة إخراجنا من مراكز الإيواء، فاتحاد البلديات أرسل كتابًا إلى وزارة التربية يخبرها بأنّ الاتّحاد رفع المسؤوليّة عن هذه المراكز، ولا نعلم في أيّ وقت تأتي القوى الأمنيّة لإخراجنا”. وأضاف “وصلتنا رسائل غير مباشرة بضرورة إخلاء المدارس، إلّا أنّنا لن نقبل بذلك، فلا يوجد مكان كي ننتقل إليه”.
حصل أبوساري على أربعة آلاف دولار بدل إيواء من قبل حزب الله “إلّا أنّني في حال استخدمتها في استئجار منزل، سأنفقها بسرعة قصوى، ولن تبقى معي أيّ أموال”. ويلفت إلى أنّ لديه شقيقين لم يحصلا لغاية اليوم على أيّ مساعدة على رغم أنّهما كانا يملكان منزلين وجرى تدميرهما، “وبالتالي أستبعد جدًّا أن يتمّ إعادة دفع بدل الإيواء مرّة أخرى”.
في المدرسة عينها، تروي النازحة هيّام سويد، التي تتّخذ من إحدى غرف المدرسة منزلًا لها ولزوجها، أنّ “النازحين لم يحصلوا على أيّ إعاشة منذ خمسة أشهر”، وتتابع في حديث لـ “مناطق نت”: “نقوم بتجميع 400 ألف ليرة من كلّ أسرة أسبوعيًّا، كي نشتري مادّة مازوت بغية تشغيل المولّد الكهربائيّ، إلّا أنّه لا يتمّ السماح لنا باستخدامه أكثر من ثلاث ساعات، أيّ من الساعة الثامنة مساءً ولغاية الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل”. وتلفت سويد إلى أنّ “هذا النظام يؤدّي إلى تلف جميع الأغراض التي نضعها في البرّاد”.
وتُشير سويد، التي كانت تقطن في بلدة يارين (صور) قبل الحرب، إلى أنّ “الوجبة الغذائيّة التي كانوا يحضرونها لنا توقّفت منذ نحو شهرين”. وتوضح أنّ “المصدر الماليّ الوحيد الذي نعيش منه هو ما حصلنا عليه من مساعدة بدل إيواء وبدل أثاث منزليّ، لكنّنا لم نزل مهجّرين منذ سنة وثمانية أشهر، وحجم المصاريف الذي يقع على عاتقنا كبير جدًّا”.
تستذكر سويد أنّ “أهالي يارين تهجّروا أكثر من مرّة، كان أوّلها العام 1977، وكذلك الأمر في حرب تمّوز (يوليو) 2006 والحرب الأخيرة التي لم تزل مستمرّة”. وتقول “كنّا مبسوطين قبل الحرب، كنا عايشين أحلى حياة”.
خمس إنذارات إخلاء
يشرح رئيس وحدة الكوارث في اتّحاد بلديات صور، مرتضى مهنا، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّه “في الوقت الحالي يوجد ثلاثة مراكز إيواء، تضمّ نحو 300 نازح، وهم عبارة عن 60 عائلة”. ويلفت إلى أنّ “الوحدة لم تعد تقوم بأيّ تقديمات إلى النازحين، سواء على مستوى المياه أو الكهرباء أو غيرها، لأنّه لا توجد أيّ جمعيّة تقوم بتقديم أدنى مساعدة، فضلًا عن أنّ الوجبة اليوميّة توقّفت منذ شهرين”.
يوضح مرتضى أنّ “الوحدة أرسلت كتاب إنذار بإخلاء المدارس، فـ “هذه العائلات حصلت على بدل إيواء وبدل أثاث منزل مقابل أن تترك المدارس وتستأجر منازل، وكانت هناك حوالي ألف عائلة بقيت منها 60 عائلة لا تريد الخروج من أجل توفير الأموال. ولفت إلى أنّ “هناك بعض الجمعيّات مستعدّة لكي تقدّم الدعم لإعادة تأهيل المدارس ولكنّها تشترط أن يتمّ إخلاؤها”.
مرتضى: بعض الجمعيّات مستعدّة لكي تقدّم الدعم لإعادة تأهيل المدارس ولكنّها تشترط أن يتمّ إخلاؤها
ويُشير مرتضى إلى أنّ “هذا الإنذار ليس الأوّل وإنّما الخامس، وأرسلنا كتابًا إلى القوى الأمنيّة بأنّا ليس لدينا علاقة بالنازحين، وسبق أن تلقّينا طلبًا من مديري المدارس والمنطقة التربويّة بضرورة الإخلاء، والآن باتت العلاقة بين القوى الأمنيّة ووزارة التربية والنازحين”. لا ينكر مرتضى التضييق الذي يتعرّض له النازحون “فلم يعد لدينا مادّة مازوت لتشغيل المولّدات، فضلًا عن أنّ جميع المولّدات ومضخّات المياه تحتاج إلى صيانة”.
معايشة الوضع الجديد
هذا على مستوى النازحين في مراكز الإيواء، أمّا النازحون القاطنون في منازل مستأجرة أو مستعارة فيبلغ عددهم نحو 95 ألف شخص، وفقًا للباحث في الدوليّة للمعلومات محمّد شمس الدين الذي يؤكّد أنّ هذا العدد يُغطّي الأشخاص الذين فقدوا منازلهم التي كانوا يقطنون فيها وليس في منازل ثانويّة.
أحد هؤلاء النازحين هو محمّد علي سعيد، الذي انتقل من بلدته راميا (بنت جبيل) إلى البازوريّة (صور). كان يملك متجرًا للخرضوات وللأدوات الصحّيّة والكهربائيّة في بلدته. ويُشير في حديث لـ “مناطق نت” إلى أنّه “فور انتهاء الحرب قرّرت أن افتتح متجرًا في بلدة كفرا القريبة من بلدتي راميا، على اعتبار أنّه عندما تسمح الظروف سأقوم بإعادة بناء محلّاتي في بلدتي وأنقل مصلحتي إليها، إلّا أنّ الوضع لم يتحسّن وما زالت بلدتنا محتلّة ولم يعد إليها أيّ أحد”.
يوضح سعيد أنّ منزله ومحلّاته في البلدة قصفت، مضيفًا “قمت باستدانة 70 ألف دولار من أجل افتتاح المتجر الجديد”. ويعتمد سعيد في الوقت الحالي على الزبائن الذين يعرفونه ويقصدونه من مختلف القرى المحيطة، مؤكدًا أنّ “الحركة التجاريّة كانت جيّدة، إلّا أنّها منذ نحو شهرين تراجعت كثيرًا بسبب الوضع الأمنيّ”.
يأمل سعيد أن “يسمحوا لنا في إعادة التعمير وتوقّف الاعتداءات الإسرائيليّة، عندها سأقوم بإعادة بناء محلّاتي خلال شهرين كحدّ أقصى، وحاولت التواصل مع المعنيّين من أجل إدخال جرّافة إلى راميا بغية إزالة الردم إلّا أنّ الوضع الأمنيّ لم يسمح بعد”.
فرص عمل بديلة
قصّة سعيد ليست يتيمة، فكثر من أبناء القرى الحدوديّة النازحين باتوا مقتنعين بضرورة التأقلم مع الواقع الجديد. من هؤلاء النازح حسين (آثر عدم ذكر اسمه الكامل) الذي قرّر افتتاح متجر خضار في مدينة صور بعد أن نزح من بلدته بليدا (مرجعيون).
يوضح حسين في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “الوضع في القرى الحدوديّة يبدو أنّه معقّد وشائك، وهذا ما يعني أنّ عودتنا لن تكون في المدى المنظور”، مضيفًا “لذا، كان لا بدّ من إيجاد مصدر دخل، فقّررت نقل المهنة التي كنت أعمل بها إلى صور حيث أقطن اليوم، ويساعدني ابني الكبير في العمل”.
بالنسبة إلى الرجل الخمسينيّ فإنّ التأقلم وافتتاح محلّ ليس خيارًا بل أمر فرضته الظروف “فلا يمكن الاستمرار على هذه الحال في بلداتنا، منذ أن ولدنا ونحن نُعاني من الاعتداءات الإسرائيليّة، ولكلّ بلدة حكايتها مع التهجير منذ احتلال فلسطين”.
لا يجد حسين أيّ مشكلة في التعامل مع محيطه الجديد، بل على العكس “يُعاملني الجميع على أنّني واحد منهم، أصلًا نحن ننتمي إلى المجتمع نفسه”. وحول الحركة التجاريّة، يُجيب حسين “في الوقت الحالي لا نطمح إلى جني أكثر من قوت يومنا”.
نزوح وضيق مادّيّ
وفي السياق عينه، يروي النازح من بلدة بيت ليف (بنت جبيل) حسين ملك، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّه بعد عمليّة طوفان الأقصى نزح إلى مدينة صور، وبعد توسّع الحرب في أيلول الماضي انتقل مع عائلته إلى الشمال، ليعود بعد أن انتهت الحرب إلى بلدة ياطر (بنت جبيل).
يعيش ملك، وهو ربّ أسرة مكوّنة من زوجة وستّة أولاد، مع عائلته وابنيه المتزوجين في المنزل نفسه. ويُشير إلى أنّه “قبل الحرب، كنت أعمل مزارعًا وكان وضعي المادّيّ جيّدًا”. ويردف ملك أنّه بعد انتهاء الحرب استأجر منزلًا في مدينة صور، إلّا أنّه حينما حصل على بدل إيواء قرّر صاحب المنزل رفع الإيجار الشهريّ من 300 دولار إلى 600 دولار “وهذا ما دفعنا للانتقال إلى ياطر”، بحسب قوله.
ملك: وصلت إلى حدّ صعوبة تأمين الأكل والشرب، فنحن كمزارعين وجدنا أنفسنا فجأة من دون أيّ عمل
يُعاني ملك من ضيق مادّيّ كبير “وصل إلى حدّ صعوبة تأمين الأكل والشرب، فنحن كمزارعين وجدنا أنفسنا فجأة من دون أيّ عمل”. ويلفت إلى أنّه “منذ شهرين لم أزر بلدتي بسبب استمرار الاعتداءات الإسرائيليّة عليها”. ويُشير ملك إلى أنّه “في البلدة حيث نقطن لا يوجد أيّ عمل، وفي حال عملنا في مدينة صور فإنّنا ندفع الراتب كبدل انتقال يوميّ”.
غياب الاستقرار والأمن
وعلى الرغم من عدم وجود سياق واحد للنزوح، أيّ إنّ النازحين انتقلوا إلى أماكن اختارها كلٌ بحسب ظروفه، إلّا أنّ معظمهم تمركز في قرى وبلدات قريبة من بلدته الأصليّة، وهذا هو حال أهالي بلدة بيت ليف. يُشير رئيس بلديّتها عزّت حمّود، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “أهالي البلدة النازحين تمركزوا في صور وحاريص وبعض البلدات القريبة مثل صدّيقين، وثمّة جزء منهم لديهم في الأساس منازل في بيروت”.
ويتحدّث حمّود عن أنّه “كان يوجد في البلدة قبل الحرب حوالي 1500 عائلة، عاد منها نحو 400 عائلة، وعدد المنازل المُدمّرة فيها كلّيًّا يبلغ قرابة 400 منزل، ويمكن القول إنّ الدمار الجزئيّ طال جميع منازل البلدة من دون استثناء”. ويؤكّد أنّ “البلدة تفتقر في الوقت الحاليّ إلى الحياة الطبيعيّة، فلا يوجد محلّات كافية ولا عدد كبير من السكّان، وهناك خوف سببه القصف المستمرّ، فضلًا عن ذلك فإنّ ثمة غيابًا لترميم المنازل إذ إنّ جزءًا كبيرًا من المواطنين ممّن حصلوا على بدل ترميم لم يقوموا بالتصليحات المطلوبة نتيجة عدم الاستقرار وغياب الشعور بالأمن”.
ويلفت حمّود إلى أنّ “الإصابات التي تحدث نتيجة الاعتداءات المتكرّرة كبيرة جدًّا، فمنذ شهرين نشهد اعتداء بشكل شبه يومي على البلدة وأهلها، حتّى إنّ إحداها حدثت منذ نحو أربعة أسابيع وطالت ساحة البلدة حيث يتجمّع الأهالي”.
ويتابع حمود “من خلال احتكاكي بالنازحين لم ألمس لديهم نيّة للاستقرار في البلدات التي نزحوا إليها، فهم يشعرون أنّهم ضيوف في مناطق النزوح، خصوصًا أنّ جزءًا كبيرًا منهم أفنى عمره في الزراعة والجلوس في الحقول وهو متحمّس جدًّا إلى العودة”.
عيتا الشعب وعيترون
يشرح الرئيس السابق لبلديّة عيتا الشعب، محمّد سرور، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “معظم أهالي البلدة ما زالوا نازحين ويتمركزون في قضاء صور، تحديدًا البازوريّة ومعركة وطير دبّا والحوش وعيتيت وباريش”. ويلفت إلى أنّ “البلدة ما زالت تُعاني من غياب الكهرباء والمياه، وعلى رغم ذلك قامت نحو ثماني عائلات باستصلاح غرفة واحدة في منازلها وهي غير مستقرّة بشكل دائم، كذلك فإنّ بعض العائلات قرّرت السكن في محال تقع بين عيتا الشعب ورميش”، مشيرًا إلى أنّ “معظم أهالي البلدة يعملون في مجال الزراعة ويُعانون في الوقت الحالي من البطالة”.
وفي السياق عينه، يلفت رئيس بلديّة عيترون، سليم مراد، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “أهالي البلدة النازحين يتوزعون في الوقت الحالي في البلدات القريبة من عيترون لا سيّما قرى قضاء بنت جبيل، وهناك جزء منهم اضطرّوا إلى الانخراط في سوق العمل بهذه القرى”، مشيرًا إلى أنّ “معظم أهالي البلدة يعملون في الزراعة ويحاول جزء منهم العودة إليها وساعدتهم البلديّة بتأمين شتول التبغ لزراعة حقولهم”.
ويؤكّد مراد إلى أنّ “البلدة تعرّضت لدمار شامل وكبير خصوصًا في الأحياء القديمة، وهي بلدة يبلغ عدد سكّانها 23 ألفًا ويسكنها بشكل دائم حوالي ثمانية آلاف نسمة، بما يُقارب 1600 عائلة”. ويوضح أنّه “بعد انتهاء الحرب عادت اليها بشكل دائم 823 عائلة”، مشيرًا إلى أنّ “إحدى النقاط الخمس التي ما زالت محتلة من قبل الجيش الاسرائيلي تسمح له بالسيطرة الناريّة على نحو ثلاثة آلاف دونم من الأراضي الزراعيّة”.
ويوضح مراد أنّ “حركة الأهالي محدودة، وتُحاول البلديّة إحياء البلدة من خلال التعاون مع أبنائها المقيمين والمغتربين، فتمّت إعادة التيّار الكهربائيّ، وتتولّى البلديّة كلفة اشتراك المولّد الكهربائيّ وقامت بتركيب إنارة عامّة على الطاقة الشمسيّة، وتأمين سيّارتي إسعاف وإصلاح محطّة تكرير المياه”.
كفرشوبا والنزوح المُتجدّد
لقرى الجنوب حكايات طويلة مع النزوح، فمعظم أهالي تلك القرى اعتاد النزوح نتيجة الاعتداءات الإسرائيليّة. يوضح رئيس بلديّة كفرشوبا ورئيس اتّحاد بلديات العرقوب، الدكتور قاسم القادري، في حديث لـ “مناطق”، “أنّ ثمّة علاقة تاريخيّة بين كفرشوبا والنزوح، إذ إنّها بدأت العام 1958 على أثر الثورة التي حدثت في تلك الفترة، فقد استُهدفت البلدة بنحو 400 قذيفة من مرجعيون، ما دفعنا إلى النزوح نحو جنوب البلدة مدّة شهرين”.

ويضيف: “إنّ النزوح تجدّد العام 1970، وقبلها بعامين أخلت القوّات الأمنيّة السوريّة مخفر مزارع شبعا، وحلّت مكانها المقاومة الفلسطينيّة، وبدأت المناوشات بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، واندلع القصف التدريجيّ في مزارع شبعا وكفرشوبا، وجرى احتلال مزارع شبعا وأراضي كفرشوبا العام 1972، أيّ بعد خمس سنوات على احتلال الجولان السوريّ”. أمّا النزوح الثالث “فحدث العام 1975 عندما دمّرت البلدة بالكامل ولم يبقَ أيّ منزل”. كذلك ذاقت البلدة طعم النزوح خلال حربيّ تمّوز 2006 وحرب الإسناد العام 2023.
يُشير القادري إلى أنّ “البلدة عادت إليها حوالي 260 عائلة من أصل 350 عائلة كانت متواجدة قبل الحرب، وفي وادي خنسا عاد أصحاب جميع المنازل البالغ عددهم 25 منزلًا، وكذلك الأمر في حلتا التي يوجد فيها نحو 200 منزل”، مع الإشارة إلى أنّ وادي خنسا وحلتا هما منطقتان تابعتان لكفرشوبا.
يشرح القادري أنّ “الأهالي الذين ما زالوا نازحين متمركزين في البلدات المحيطة وبخاصّة حاصبيا والهبّاريّة، إذ إنّ منازلهم مدمّرة بالكامل، فعدد المنازل المدمّرة يبلغ نحو 180 منزلًا من أصل 800 منزل، فضلًا عن المنازل المتضرّرة جزئيًّا”. يأسف القادري إلى أنّ “شركة المياه لم تقدّم شيئًا، فهي لم تقم بإصلاح أيّ قسطل (أنبوب) مياه، وحصلنا على مساعدة من الكتيبة الفرنسيّة في اليونيفيل لإصلاح خطوط المياه في جنوب البلدة، وقامت جمعيّة التضامن العالمي بإصلاح الخطوط شمال البلدة، كذلك حصلنا على دفّاع مياه بواسطة الصليب الأحمر الدوليّ”. أمّا على مستوى الكهرباء “فالخطّ الرئيس لم يتم إصلاحه لغاية اليوم”.
آثار النزوح على التجارة
ممّا لا شكّ فيه أنّ النزوح حمل بُعدًا اقتصاديًّا على أكثر من مستوى، سواء في ما يتعلّق بالنازحين أنفسهم أم في الحركة التجاريّة في البلدات التي نزحوا إليها. يُشير نائب رئيس جمعيّة تجّار صور، حسن ضاهر، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “حركة النزوح من القرى الحدوديّة إلى مدينة صور وضواحيها حمل أثرًا إيجابيًّا وآخر سلبيًّا”.
ويضيف ضاهر “على الصعيد السلبيّ، فقد كان تجّار صور والجنوب ينقلون البضائع من بيروت ويبيعونها على مساحة الجنوب كلّه، مثل المنتوجات الزراعيّة أو الملبوسات أو المفروشات أو غيرها، في حين أنّ القدرة الشرائيّة تراجعت كثيرًا، إذ إنّ النازحين باتوا في وضع اقتصاديّ صعب”. وفي المقابل، على الصعيد الإيجابيّ فإنّ “بعض القطاعات مثل المطاعم والمقاهي ومتاجر السمانة استفادوا على اعتبار أنّ أعداد زبائنهم ازدادات”.
ويوضح ضاهر أنّ “النزوح أدّى إلى ارتفاع هائل في بدلات إيجار المنازل، فعلى الصعيد الشخصيّ، أملك منزلًا صغيرًا في بلدة طورا (صور) كان بدلّ إيجاره 150 دولارًا، في حين أنّه يُعرض عليّ تأجيره في الوقت الحالي بـ 600 دولار”. ويلاحظ ضاهر “أنّ المغتربين لم يقدموا على صرف الأموال كما السنوات السابقة، وهذا ما أثّر سلبًا في العجلة الاقتصاديّة، وربّما ذلك يعود إلى الشعور بالخوف وعدم الاطمئنان”.
زيادة الطلب وارتفاع الإيجارات
من جانبها، تشرح الخبيرة في الشؤون الاقتصاديّة والماليّة، ليال منصور، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “وجود النازحين أثّر في قانون العرض والطلب، إذ أدّى إلى زيادة الطلب، وهذا ما سبّب في ارتفاع بدلات الإيجارات في بعض المناطق أكثر من ارتفاعها في مناطق أخرى من لبنان”. وتُشير منصور إلى أنّ “زيادة الطلب طالت قطاعات أخرى وأدّت إلى تحريك العجلة التجاريّة والاقتصاديّة في المناطق المُستضيفة للنازحين، ولكن هذا الطلب لا يمكن ترجمته على المستوى الوطنيّ، إذ إنّه انتقل جغرافيًّا من مكان لآخر، لكنّه لم يغير شيئًا على المستوى الوطنيّ للاقتصاد”.
وتلفت إلى أنّه “من الممكن أن يقوم حزب الله بمنح بدل إيواء مرّة جديدة، لأنّ المبلغ الذي قدّمه قليل جدًّا إذا ما قسناه بارتفاع الإيجارات، كذلك فإنّ هذا الأمر من شأنه أن يمنحه مكاسب سياسيّة، خصوصًا أنّه مبلغ ليس كبير ولو أنّ أعداد النازحين كبيرة”.
النزوح وإعادة التعمير. كلمات رافقت الجنوبيّين منذ عشرات السنين وتنتقل من جيل إلى جيل. لكنها هذه المرّة مختلفة كلّيًّا، وهي على ما يبدو الأصعب، في ظلّ انسداد أفق العودة وأيضًا عملية إعادة التعمير، وهذا ما يزيد ليس الشعور بالإحباط والخيبة لدى النازحين وحسب، بل القلق على المصير والمستقبل في ظلّ خسائر ضخمة دفعها الجنوبيّون بعامّة وأهالي قرى الشريط الحدوديّ بخاصّة، الأمر الذي يجعل من التأقلم مع الوضع الجديد أمرًا لا مفرّ منه. وبانتظار أيّ تطوّرات في هذا الشان يبدو أنّ أبناء الجنوب دفعوا ويدفعون ثمن لعنة الجغرافيا إلى وقت طويل.