تين قرى بنت جبيل بين البسطات وقبضة الاحتلال

في مثل هذا الوقت من كلّ عام، يقصد الناس “بسطات” بيع التين المنتشرة على جوانب الطرقات وفي الأسواق الجنوبيّة، لشراء أكواز التين البيضاء والحمراء، التي عادة ما يتمّ عرضها في سلّات قشّ أو علب بلاستيكيّة صغيرة.
في الجنوب وبخاصّة قضاء بنت جبيل، تشتهر قرى كثيرة، مثل كفرا وياطر وبيت ليف وحاريص، بأنواع التين المختلفة، كالـ “بقراتي” والـ”شمّوطي” والـ”عسلانيّ”، يبدأ موسم قطافها في أواخر شهر تمّوز (يوليو) وينتهي منتصف أيلول (سبتمبر) وبعضها في أواخره، لكنّ بعض أصحاب كروم التين حُرموا من قطفها بسبب الاستهدافات الإسرائيليّة شبه اليوميّة هناك.
ورثناها من آبائنا وأجدادنا
هاني عباس (63 عامًا) ابن بلدة كفرا الجنوبيّة، واحد من المزارعين الذين ورثوا زراعة وقطاف التين عن أهله، يقول لـ “مناطق نت”: “تشتهر كفرا كما ياطر بفاكهة التين الموسميّة، وتُعدّ هذه الفاكهة الألذّ على الإطلاق مقارنة بالفواكه الأخرى، بالنسبة لأبناء القرى وكذلك الذين يقطنون في المدن” إذ ينتظر الناس هذا الموسم في أماكن كثيرة.

ويضيف: “لديّ بحدود الـ 30 شجرة تين، أحرص يوميًا ومنذ أكثر من 30 سنة، عند ساعات الصباح الأولى على قطف ثمارها”، بعد أن تتبلّل بالندى ويضعها في أقفاص بلاستيكيّة ليحملها معه إلى مدينة صور. يقول: إنّ الناس في صور تنتظره يوميًّا بالقرب من دوّار أبو ديب، حيث اعتاد أن يركن سيّارته من نوع “بيك أب” لتشتري منه أنواع التين المختلفة والشهيّة في آن.
ويتابع “أحمل معي يوميًّا إلى صور ما يقارب الـ 75 كيلوغرامًا من التين، أقطف محصولي من الأشجار المزروعة في أرضي وكذلك أشتري من أخوتي ما يقطفونه من هذه الثمرة”.
موسم ضعيف نسبيًّا
وحتّى كتابة هذه المقالة، يقول عبّاس إنّ الموسم ضعيف نسبيًّا لكنّه مقبول، وقد شهد تراجعًا ملحوظًا هذا العام، ربّما بسبب التبدّل الحاصل في أحوال الطقس والمناخ. عن الأسعار يوضح عباس أنّ سعر مبيع الكيلوغرام للتجّار (التسليم) وأصحاب العربات منخفض بحدود الـ 300 ألف ليرة لبنانيّة فقط، فيما أبيعها وكذلك التجّار (بالمفرّق) بحدود 700 ألف ليرة في الوقت الراهن.
عباس: باع التجّار كيلوغرام التين بداية هذا الموسم بأكثر من مليون ليرة، وخلال أسبوع انخفض السعر ليراوح بين 650 ألفاً و700 ألف ليرة لبنانيّة
ويضيف: “باع التجّار كيلوغرام التين بداية هذا الموسم بأكثر من مليون ليرة، وخلال أسبوع انخفض السعر ليراوح بين 650 ألفاً و700 ألف ليرة لبنانيّة”. ويعتمد أهالي القرية بشكل كبير جدًّا على بيع هذه الفاكهة، وبحسب عباس: “ينتظرها الناس من عام لآخر، كونها تؤمّن لهم مدخولًا جيّدًا”، ويختم: “أبيع خلال هذا الموسم، نحو طنّين اثنين ( 2 طن) من التين، تؤمّن لي ربحًا يبلغ نحو 2000 دولار”.
زراعة تقليديّة
وعن هذه الزراعة، يقول رئيس تجمّع المزارعين في الجنوب محمّد الحسيني لـ “مناطق نت”: “هي زراعة تقليديّة قديمة، نوع من الزراعات البعليّة التي لا تعتمد على الريّ، يزرعها الناس بكثرة، حتّى في القرى التي تفتقر إلى المياه”.
ويضيف: “تنتشر في كفرا وحاريص وياطر، وكذلك في منطقة حاصبيّا والشوف، لكن كلّ منطقة لها أنواعها من التين ومواسم تختلف بين المرتفعات والساحل”. ووفق الحسيني فإنّ الموسم مقبول نوعًا ما هذا العام، لكنّ درجات الحرارة المرتفعة أثرت سلبًا في فترة حياة التين التي تُعدّ قصيرة في الأصل، إضافة إلى تبدّل الطقس خلال الشتاء، إذ لم ترتفع درجات الحرارة على النحو المطلوب، وهذا ما كانت له تداعياته على الفواكه ونوعيّتها.
في بيت ليف أيضًا
وفي بيت ليف أيضًا، المحاذية لكفرا وياطر، تنتشر أشجار التين في مساحات شاسعة من القرية، زرعها أبناء البلدة بجوار منازلهم وعلى امتداد الكروم، مثلما تتواجد أشجار الزيتون وشتلة التبغ وكروم العنب.

يقول مختار بلدة بيت ليف محمّد اسماعيل إنّ هذه الشجرة هي الأكثر تواجدًا في القرية، فهو شخصيًّا لديه 13 شجرة أمام منزله، ويضيف لـ “مناطق نت”: “بدأت زوجتي بقطاف ما نضج من هذه الثمرة، منذ نحو 20 يومًا، وهي حتّى اليوم تمكّنت من قطاف 40 كيلوغرامًا”.
ويتابع: “يمتدّ موسم التين من 15 تمّوز وحتّى أواخر أيلول” ولدى المختار أنواع مختلفة من التين يدخل بعضها الموسم باكرًا فيما يتأخّر بعضها الآخر.
إلى زمن الأجداد
يُعيدنا المختار بذكرياته إلى زمن أجداده، ويُخبرنا كيف كانوا يشرّحون نحو 150 كيلوغرامًا من فاكهة التين ويبيعونها. ولم تتخلَّ الأجيال الجديدة، عن هذه الزراعة، التي تشكّل مصدر رزق كثير من هؤلاء، إذ يبيعونه أخضر ويابسًا ويصنعون مؤونتهم السنويّة على شكل دبس التين والمربّى والتين المعقود والممزوج بأنواع المكسّرات مثل الجوز واللوز، والتين المجفّف واليابس تحت أشعة الشمس، وغيرها كثير.
وينتظر الناس انخفاض أسعار التين قليلًا كي يباشروا بصناعة المؤونة المتعلّقة بثمره، التي تكفيهم خلال فصل الشتاء، ويقدّمون منها الهدايا إلى العائلة والأصدقاء، وتشكّل هذه المصنوعات مدخولًا جيّدًا تعتمد عليه كثير من العائلات في الجنوب، لا سيّما أنّه ذات كلفة منخفضة ولا يحتاج إلى ريّ أو عناية مستمرّة.
حميّد: النزول إلى الوادي خطر جدًّا، والإسرائيليّ متأهّب دائمًا لقصفنا، والمسيّرات تتبعنا دائمًا، وأيّ حركة هناك كفيلة باستهدافنا
لكنه يلفت في الوقت نفسه، إلى أزمة كبيرة يعاني منها أصحاب الكروم ممّن لم يتمكّنوا للعام الثالث على التوالي من قطف محصولهم لتواجد هذه الكروم عند أطراف القرية، وفي هذا الشأن يشرح المختار “كلّ الكروم التي تبعد عن المنازل بحدود 300 متر، لم يجرؤ أصحابها على زيارتها والبدء بقطاف الموسم خوفًا من المسيّرات الإسرائيليّة الموجودة بشكل شبه يوميّ في سماء الجنوب، وخوفهم من الاستهدافات، وهذه الكروم تُقدّر بأكثر من 50 دونمًا”.
وقد كانت بيت ليف من البلدات الجنوبيّة التي استهدفتها إسرائيل خلال الحرب الأخيرة على لبنان، وهي حتّى اليوم لا تتوانى عن ضرب أيّ هدف ومتى أرادت ذلك من دون أيّ رادع يردعها.
موسمان منذ آخر زيارة
“أملك كرمًا فيه تين وزيتون، يقع عند أطراف القرية، ليس في منطقة بعيدة، ولكنّه في الوادي، مرّ موسمان ولم أتمكّن من الوصول إليه” بحسب محمّد حميّد، أحد أصحاب الكروم في بيت ليف ويضيف لـ “مناطق نت”: “إنّ النزول إلى الوادي خطر جدًّا، والإسرائيليّ متأهّب دائمًا لقصفنا، والمسيّرات تتبعنا دائمًا، وأيّ حركة هناك كفيلة باستهدافنا” وهذا ما حصل بالفعل إذ تمّ التعرّض مرّات كثيرة، لأشخاص بقنابل صوتيّة من المسيّرات لمجرّد تواجدهم في المكان.
وحميّد من سكّان بيروت، اعتاد وعائلته زيارة قريته بيت ليف أسبوعيًّا، لكنّ إسرائيل قصفت منزله، وحرمته من ولوج أرضه، وقطاف رزقه الذي عادة ما كانت العائلة تُعدّه كمؤونة لفصل الشتاء، كالزيتون المكبوس وزيت الزيتون البكر ومربّى التين وكذلك المجفّف منه.
أضمنها بالنصف
ويعمل في هذا الموسم، بعض المزارعين ممّن لا يملكون أرضًا مزروعة تينًا، لكنّهم اختاروا ضمان أراض من مالكيها، باتفاق الحصول على نصف المنتوج. تقول الحاجة مريم، من بلدة كفرا، إنّها مثل كلّ عام تقطف ثمار التين، وتبيعها، وتتقاسم عائداتها مع مالكي الأرض.

وتضيف لـ “مناطق نت”: “مذ كنت صغيرة، وأنا أعمل في قطاف التين، كانت لدينا أراض كثيرة مزروعة بأشجار التين، وبعد بيعها أصبحت أضمن أراضٍ مزروعة لجني مواسمها”.
وعن مدى إقبال الناس على شراء هذه الثمرة، تقول: “الإقبال كثيف، لكنّ المنتوج لا يزال ضئيلًا. فوفق أنواع التين المختلفة، تنضج أنواع وتتأخّر أخرى”. وتختم: “فوائده كثيرة، وسكّره طبيعي، لذلك يطلبه الناس، لا سيّما أولئك الذين يحرصون على تناول طعام لذيذ وصحّيّ”.
أحملها معي إلى بيروت
إلى العاصمة بيروت، يحمل علي حمدان، فاكهة التين “الكفراويّة” لمرّتين أسبوعيًّا، يوضّبها داخل سيّارته كي تصل إلى زبائنه على أفضل حال.
يقول حمدان لـ “مناطق نت” إنّه اعتاد ممارسة هذا الأمر منذ نحو أربع سنوات، بسبب طلب الناس الكثيف على تين بلدته كفرا، ويضيف: “منذ بدأ الموسم قبل نحو 10 أيّام، أبيع محصولي من التين قبل أن أضعه على عربة الخضار، فلا داعي لذلك أصلًا، إذ إنّ الإقبال على شرائه كثيف، خصوصًا وأنّ الموسم ما زال في أوّله وهو في الأصل تأخر هذا العام”.
وعن الأسعار يوضح “كنت أبيع كيلوغرام التين بمليون ونصف مليون ليرة، أما الآن فأضحى سعره 800 ألف ليرة” علمًا أنه لم يتمكّن بعد من تلبيّة جميع الطلبات، وهو يتواجد في منطقة طريق المطار.
وبرأي علي، فقد تسبّب التهجير في ارتفاع الطلب على ثمار التين في بيروت، خصوصًا من أبناء قرى الحافّة الأماميّة الذين لم تتمكّن غالبيّتهم من العودة إلى قراهم علة نحو عيتا الشعب، وهم بالتالي ما زالوا في أماكن النزوح.
وينشط علي على الـ “سوشيال ميديا” من خلال صفحاته المخصّصة لبيع الفاكهة والخضار الموسميّة والمؤونة البلديّة تحت اسم “بسطة الموسم”. يقول: “هناك طلبات تصلني من خارج بيروت، مثل حمّانا وجبيل بسبب الشهرة التي يتمتّع بها تين كفرا”.