“أبلح عبر التاريخ” كتاب يؤرّخ للذاكرة التاريخيّة والاجتماعيّة

في كتابه “أبلح عبر التاريخ” يعرض ابن البلدة البقاعيّة أمين سماحة لأحوال بلدته وتاريخها القديم والحديث الممتدّ من العام 1600 وحتّى العام 2025 مع أبرز المحطّات والأحداث التي مرّت بها وجرت عليها دون أن يُغفل ذكر تراثها الثقافيّ والاجتماعيّ وتطوّر المجتمع المدنيّ فيها، وأهمّيّة موقعها الجغرافيّ الفاصل بين منطقة شرق بعلبك وغربها.

تاريخ بلدة أبلح

يبدأ سماحة كتابه في الحديث عن تاريخ أبلح الجغرافيّ والتاريخيّ مستعرضًا لموقعها الاستراتيجيّ ودوره الفاعل في تلاقي شعوب ودول على أرضها، إذ شكّلت مركزًا تجاريًّا لتبادل منتوجاتها الزراعيّة، ممّا جعلها موقعًا مميّزًا ومسكنًا لعائلاتٍ كثيرةٍ تسعى إلى العمل فيها والأمان على أرضها بوجود كبرى ثكنات الجيش اللبنانيّ ضمن أراضيها، وهذا ما وفّر عيشًا آمنًا لأكثر من 355 عائلةً لبنانيّة توافدت إليها من مختلف مناطق لبنان وطوائفه سكنتها خلال مُدَدٍ زمنيّةٍ متقطّعة.

ثم يعرّج على المعارك التي جرت على أرضها بدءًا من معركة سنة 1790 التي وقعت بين الأمير الحرفوشيّ والأمير جهجاه والأمراء الشهابيّين ودامت نحو 70 عامًا حتّى بداية ثورة الفلّاحين سنة 1860. مرورًا بالأحداث اللبنانيّة، من ثورة العام 1958 والحركة الانقلابيّة سنة 1961 التي قادتها إحدى التنظيمات اللبنانيّة وصولًا إلى أحداث العام 1975 حيث كان لأبلح نصيب من مخلّفاتها وضحاياها ممّن سقطوا بسبب تلك الأحداث.

كتاب “أبلح عبر التاريخ” لأمين سماحة

ولم ينسَ المؤلّف ذكر الويلات الصحّيّة التي تعرّض لها أهالي بلدته من قبل الطبيعة وما جرّته من أوبئةٍ وأمراضٍ كان آخرها وباء كورونا الذي قضى على 78 شخصًا من أبناء أبلح.

أبلح الاجتماعيّة

يغوص أمين سماحة في كتابه ويستفيض في استعراض صورة بلدته أبلح من الناحية الاجتماعيّة وعلاقة المجتمع “الأبلحيّ” بعضه مع بعض فيشكّل لوحةً لبنانيةً جامعةً لمختلف طوائف لبنان ومذاهبه. فأبلح تجتمع فيها أديان وطوائف ومذاهب لبنان كلّها في بقعةٍ جغرافيّةٍ صغيرة المساحة، إذ تضمّ جميع الطوائف المسيحيّة من دون استثناء، من روم كاثوليك وأرثودوكس وموارنة وأرمن وبروتستانت وسريان وكلدان ولاتين وإنجيليّين وأشوريّين، بالإضافة إلى جميع الطوائف الإسلاميّة من شيعة وسنّة ودروز .

وهؤلاء جميعهم إمّا سكنوا أبلح قديمًا أو منهم ممّن لا يزالون يسكنون فيها حتّى اليوم، في ظلّ جوٍ من التآلف وتبادل العلاقات الاجتماعيّة الودّيّة في ما بينهم.

ويتناول سماحة العادات والتقاليد في بلدته مستعرضًا للأدوات المستخدمة قديمًا فيها وبعض أسماء أصحاب المهن والمصالح والآلات والمعدّات التي تمثّل تراثًا شعبيًّا في ذاكرة أبنائها كالطنبر واليوك والمسموك والمزلوف والشاعوب والماعوص والبردعة والزعبورة والدست والمعّاز والناطور والطنبرجي والمكاري والمعمرجي وسواها مع صورٍ فوتوغرافيّةٍ قديمةٍ موثّقةٍ لها.

ربّما تكون أبلح نموذجًا فريدًا في المنطقة من حيث تعدّد الطوائف فيها وتوحّد النظرة إلى العبادة والإيمان

وقد حرص أن يطلّ على طقوس الخطوبة والزواج والولادة والطلاق والوفاة وطرائق اعتمادها وكيفيّة إقامتها في بلدةٍ جامعةٍ للأديان مانعةٍ للانقسام والاختلاف.

أبلح “العباديّة”

ويُفرد المؤلّف فصلًا مفصّلًا لشرح أنواع العبادات الدينيّة في بلدة أبلح التي تضمّ الجامع كما الكنيسة والمدافن الترابيّة كما المدافن الأرضيّة والأراضي الوقفيّة لكلّ طائفةٍ ومذهبٍ مع خصوصيّة كلّ طائفةٍ في كيفيّة إقامة عبادتها والشعائر المتّبعة في الموت والدفن وإقامة العزاء وسواها من الصور العباديّة التي يختلف فيها كلّ فريقٍ عن الآخر لكن الجامع هو الاحترام والحرّيّة الدينيّة في عمليّة التواصل مع الله.

من توقيع كتاب “أبلح عبر التاريخ” لأمين سماحة

ربّما تكون أبلح نموذجًا فريدًا في المنطقة من حيث تعدّد الطوائف فيها وتوحّد النظرة إلى العبادة والإيمان المرتكزة على المحبّة والاحترام والعدالة والحقّ. كذلك ويعرض سماحة للصورة الحضاريّة والعمرانيّة والخدماتيّة والاقتصاديّة لبلدته وفق واقعها الحاليّ إذ ذكر المؤسّسات والأندية والصيدليّات والجمعيّات والحركات الرسوليّة والكشّاف والبريد والهاتف وغيرها إلى جانب الزراعة والصناعة والتجارة فيها.

أهمّيّة “أبلح عبر التاريخ”

لعلّ كتاب “أبلح عبر التاريخ” لمؤلّفه أمين سماحة جاء بمثابة تجربةٍ أولى في المنطقة، تسلّط الضوء على تاريخ البلدات في البقاع خلال حقباتٍ تاريخيّةٍ متواليةٍ، تتناول فيها المراحل الزمنيّة بما تتضمّنه من شخصيّاتٍ وأحداثٍ ومحطّاتٍ على مختلف الصعد، مستخدمةً التأريخ الكاشف خصوصيّات البلدات من تراثٍ عاشه أبناؤها وبقي عالقًا في الذاكرة الشعبيّة، إن لدى من كانوا في ذاك الزمن أو لدى من وصله بالتناقل والتواتر، فأعاد إحياءه على هيئة تاريخٍ موثّق. ولقد استطاع المؤلّف أن ينقل، ومن خلال العودة إلى الزمن الماضي، تاريخ بلدته التي هي صورة متماثلة مع بلدات المنطقة والجوار، من دائرة العتمة والنسيان إلى دائرة الضوء والإحياء ليُبقي بذلك تاريخها حيًّا تتوارثه الأجيال.

أراد صاحب كتاب “أبلح عبر التاريخ” لتجربته الخاصّة أن تكون فرديّةً وفريدةً من نوعها، وهو الذي أمضى 20 عامًا في البحث والكشف والدراسة والمقابلات والقراءات التي شملت مراجع ومصادر متعدّدةً، بشريّةً ومكتوبة ومنشورة، ولم يترك فيها كبيرةً ولا صغيرةً إلّا ووظّفها في خدمة معلوماته ليَخرُج مؤلَّفه هذا كاملًا إلى حدٍّ ما، وإن شابته نواقص فهي ليست بفعل الإهمال أو التقصير، وإنّما لعدم وجود ما يدلّ عليها مقدِّمًا اعتذاره إن أخفق بذلك في ختام كتابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى