محمود سويد: نصف قرن في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة(2)

في القسم الأوّل من الحوار الطويل الذي أجرته معه “مناطق نت”، تحدّث الأستاذ محمود سويد عن البدايات في قريته كفرحمام، وعن مراحل حياته، بدءًا من انتقاله طفلًا إلى صيدا وصولًا إلى استقراره في بيروت، مع كلّ ما رافق ذلك من أحداث وتحوّلات كبرى رواها سويد كما لو أنّها حدثت البارحة، لكنّها في الواقع هي حصيلة قرن كامل من النكبات والانقسامات والرهانات والمشاريع التي لم تكتمل.
على الرغم من أنّه غادرها طفلًا، إلّا أنّها بما تكتنزه من موقع جغرافيّ مميّز على الزاوية الشرقيّة الجنوبيّة للبنان، وأيضًا غناها لناحية التنوّع الدينيّ والثقافيّ، تبقى العرقوب حاضرة في حديث محمود سويد، وهو لا يقدّمها فقط بوصفها منطقة حدوديّة أو ساحة اشتباك فدائيّ، بل باعتبارها إحدى بوّابات العروبة في الجنوب.
الذاكرة تعود به إلى العام 1925، إلى الثورة السوريّة الكبرى، حين تطوّع والده، الشيخ أسعد سويد، وشارك في القتال دفاعًا عن مشروع التحرّر العربيّ. “تخيّلوا شيخًا معمّمًا، بعمامته وهيبته، يخرج ليقاتل!”. يقول سويد ويردف “لكنّه لم يطلق رصاصة واحدة”. “لماذا إذن حملت السلاح؟” يسأل محمود والده. فيجيبه: “لأشجّع شباب العرقوب، كي يقولوا: إذا كان الشيخ قد حمل السلاح ليقاتل في الثورة العربيّة السوريّة تحت إمرة القائد أحمد مربود الذي كان يقود السوريّين في المنطقة المتّصلة بالعرقوب بالإضافة إلى من يتطوّع من شباب العرقوب، فكيف بنا نحن؟”.
يذكر سويد أنّ والده قال لهم ذات يوم “حتّى العام 1920 كنّا نحمل الهويّات السوريّة، وفي هذه السنة قالوا لنا” أتلفوا الهويّات التي تحملونها، وهذه هويّاتكم اللبنانيّة الجديدة”.
خطيب الجوامع والكنائس
يعود سويد إلى والده، فبعد أن سلّط الضوء على سيرته التربويّة في الجزء الأوّل من الحوار، يستعيد في الجزء الثاني دور الشيخ أسعد الاجتماعيّ في منطقة العرقوب. يروي سويد أنّ والده ساهم كثيرًا في ترسيخ التوجّه العروبيّ، ليس دينيًّا أو تربويًّا وحسب، بل اجتماعيّ حتّى. كان يخطب في الجوامع، وحتّى في كنيسة الأرثوذكس في راشيّا الفخّار بطلب من صديقه الخوري بسبب مرضه، ويفكّ النزاعات والخصومات بين العائلات في القرى المختلفة: كفرشوبا راشيّا الفخّار الهبّاريّة شبعا وغيرها.

لم يكن بيت الشيخ أسعد مفتوحًا للجميع وحسب، إنّما حوّله إلى مركز ثقافيّ حقيقيّ، بمكتبة ضخمة شيّدها كتابًا كتابًا، ووصلته من تبرّعات كتّاب من مصر والعراق وسوريا ولبنان بناء على طلبه. كانت المراسلات تجري معهم في استمرار، وكانت هذا المكتبة هي الوحيدة من نوعها في المنطقة، يؤمّها طلّاب الثقافة من شبعا، كفرشوبا، الهبارية، وغيرها، كي يتعلّموا ويقرأوا.
ضياع أرشيف “لبنان الاشتراكيّ”
يعود محمود سويد إلى ما ختم به حديثه في القسم الأوّل من الحوار، إلى “لبنان الاشتراكيّ” وتلك المرحلة الغنيّة من تاريخ لبنان، لكنّه يروي بحسرة عمّا ضاع في لحظة قاسية، وهي لحظة الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت وضياع أرشيفه الخاصّ من أوراق ووثائق “لبنان الاشتراكيّ”. ظنّ سويد أنّه مع تقدّم جيش الاحتلال الإسرائيليّ نحو بيروت العام 1982، أنقذ أرشيفه الخاص بـ “لبنان الاشتراكيّ” حين نقل الوثائق والنشرات إلى منزل أهل زوجته. لكن بعد عودته، اكتشف أنّ الأرشيف خُزن في سقيفة رطبة، فتسرّبت إليه المياه وأتلفته بالكامل. “تعفّن الورق، وضاع بذلك الأرشيف الكامل عن لبنان الاشتراكيّ”، يقول بحسرة، وكأنّه يتحدّث عن فقدان ذاكرة كاملة وليس مجرّد ملفّات. هي جزء من تجربة سياسيّة مهمّة في حياته مع آخرين.
يروي سويد أنّه بدأ يكتب متطوّعًا باكرًا في صحيفة “الصحافة” المقرَّبة من البعث، ثمّ تابع حين أنشأ الحزب في تلك السنة إذاعة خاصّة بالحزب. عن مساهمته في ما سمّي بـ “ثورة 1958″، يقول سويد إنّه تولّى مسؤوليّة نشرة الأخبار والتعليق السياسيّ اليوميّ، وكانت زميلته الطالبة في كلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانيّة (و. م.) هي التي تتولّى قراءة النشرة والتعليق بعدما يُعدّهما لها.
مجلّة الأسبوع العربيّ
من ضمن المحطّات الأساسيّة التي عمل فيها محمود كانت مجلّة “الأسبوع العربيّ”، حيث عمل صحافيًّا فيها، وكانت المجلّة اللبنانيّة الأولى التي توزّع في جميع البلدان العربيّة. كتب فيها سويد عن القضايا العربيّة والفلسطينيّة.
عن تلك المرحلة يقول سويد “ذات مرّة، ظهرت في الجامعة اللبنانيّة حركة جديدة يقودها طلّاب أذكر منهم إلياس خوري وسامي سويدان وآخرين. كانت الكتابة عن هذه الحركة الجديدة مصلحة صحافيّة للمجلّة، ووسيلة اتّصال ببعض رموزها بالنسبة إلى تنظيم “لبنان الاشتراكيّ”. وقد التقى ببعض الطلّاب وكتب تحقيقًا نشر في المجلّة. وفي الوقت نفسه، فتح نافذة على الكلام السياسيّ الجديد للبنان الاشتراكيّ.
في العام 1958 أنشأ حزب البعث إذاعة، تولّى سويد فيها مسؤوليّة نشرة الأخبار والتعليق السياسيّ، فكانت زميلته الطالبة في كلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانيّة (و. م.) هي التي تتولّى قراءة النشرة والتعليق بعدما يُعدّهما لها.
كان يتنقّل في كتاباته للمجلّة بين السياسة والثقافة وعندما طلب إليه رئيس التحرير تولّي رئاسة القسم الثقافيّ في المجلّة، أصبح متابعًا لقضايا الثقافة في مرحلة غنيّة بالسينما والمسرح والندوات والمحاضرات وكلّ ما يتّصل بالشأن الثقافيّ. فدعا الرفاق في التنظيم وضّاح شرارة وكريستيان غازي وفوّاز طرابلسي وحسن قبيسي وآخرين للكتابة كمتطوّعين بأسماء مستعارة. فكتب وضّاح وكريستيان عن المسرح، وكتب الآخرون في مواضيع ثقافيّة مختلفة. “كنت أتلقّى بطاقات الدعوات إلى العروض المسرحيّة، فأحضر مع الرفيق الذي سيكتب عنها”. يقول سويد.
ذات يوم من العام 1968، اتّصل به رئيس مركز الأبحاث الفلسطينيّ الدكتور أنيس صايغ وطلب إليه أن يتولّى الإشراف على ترجمة كتاب عن القضيّة الفلسطينيّة من اختيار فريق الترجمة إلى مراجعة الترجمات. وكانت المجلّة الثقافيّة الفرنسيّة (Les Temps Modernes) قد أصدرت العام 1967 عددًا ضخمًا؛ نصف كتّابه من المفكّرين العرب والنصف الآخر كتّاب يهود، من إسرائيل وخارجها. وقّرر مركز الأبحاث إصدار دراسات المفكّرين اليهود في كتاب بالعربيّة. وقد صدر الكتاب بعنوان “الفكر الصهيونيّ المعاصر” سنة 1968 عن المركز المذكور. “وقد ساهم في ترجمة مادّة الكتاب عدد من الرفاق أذكر من بينهم وضّاح وفوّاز وحسن قبيسي وأحمد بيضون وآخرين” يقول سويد.
بيروت عاصمة الثورة
كانت بيروت في تلك الحقبة مركز الثورة العالميّة. لقد حرّكت المقاومة الفلسطينيّة وعمليّاتها ضدّ العدوّ الإسرائيليّ كلّ ما في المجتمعات العربيّة وبخاصّة لبنان من مياه راكدة. بل شكّلت مركز ثورة ذات بُعد عالميّ في تلك السنوات الملتهبة، فجاء مئات من كلّ أنحاء العالم، شبّان وفتيات، يريدون أو يردن الإنضمام إلى “الثورة”.
ثوّرت الثورة الفلسطينيّة كلّ المجتمع اللبنانيّ في بيروت من الحركة الطالبيّة والحركة العمّاليّة والحركة النسائيّة والمثقّفين اللبنانيّين. وعلى الصعيد العربيّ- العالميّ كان عبدالناصر يقود الجماهير ويدفع بها في طريق الثورة كزعيم بارز من زعماء حركة عدم الإنحياز مع رفاقه ماوتسي تونغ ونهرو وتيتو ونكروما.
كلّ ذلك كان قبل هزيمة الـ 1967 التي ألقت بظلالها الكئيبة على العالم العربيّ، وسكبت ماءً باردًا على الشعلة الثوريّة المنطلقة من لبنان ومن مصر في تلك الحقبة. تنفتح ذاكرة محمود سويد على نشاطات تلك المرحلة، وكان لا بدّ من التوقّف عند اتّصال الدكتور بشير الداعوق صاحب “دار الطليعة” بمحمود سويد. كانت “دار الطليعة” ومقرّها في وسط بيروت الذراع النشريّة لحزب البعث وللشباب القريب من الحزب. كذلك استقطبت دراسات عربيّة كمجلّة فكريّة، المثقّفين الثوريّين العرب في مختلف أقطارهم. فنشروا في المجلّة أبحاثهم وفي دار الطليعة مؤلّفاتهم.
رئيس تحرير “دراسات عربيّة”
يروي سويد عندما قال له بشير الداعوق “غادر صادق جلال العظم رئيس تحرير ‘دراسات عربيّة‘ لبنان، وأنت مدعوّ لاستلام المجلّة في غيابه”. لم يكن بإمكان محمود أن يرفض، وكان لا يزال في مجلّة الأسبوع العربيّ. أبلغ محمود الرفاق، وتقرّر أن يتولّى مهمّة إصدار مجلّة “دراسات عربيّة” الشهريّة متطوّعًا في غياب صديقه رئيس التحرير، صادق جلال العظم.
وكان سبب “هرب” صادق أنّه أصدر العام 1969 كتاب “نقد الفكر الدينيّ” الذي أثار زوبعة في مجتمع المتديّنين، ممّا دفع دار الفتوى إلى رفع دعوى ضدّه، كما صودر كتابه، ولم تتمكّن دار الفتوى من تهدئة المجتمع المشايخيّ، إلّا بسجن صادق، فخرج من لبنان إلى حين تسوية الأمر.
كان استلام “دراسات عربيّة” وكتابة افتتاحيّة أَعدادها مهمّة نضاليّة لا يمكن رفضها. يقول سويد ويتابع “شارك عدد من الرفاق بالكتابة في المجلّة كلّ بحسب اختصاصه، كتب فواز، المعروف جيّدًا من دراسات عربيّة ومنشورات الدار من الكتب اليساريّة المرجعيّة التي ترجمها. إذ كانت دار الطليعة بالنسبة إلينا كبعثيّين سابقين “بيتًا فكريًّا” نكتب وننشر فيها وكان صاحبها بشير الداعوق صديقًا عزيزًا وكان بعثيًّا ومناضلًا ثقافيًّا فتح المجلّة والدار لكلّ الحركات الثوريّة في المنطقة”.

يضيف سويد “استمرّ غياب صادق جلال العظم نحو سنة، كتبت خلالها افتتاحيّات المجلّة، وكتب فوّاز في مواضيع مختلفة ووضّاح وكريستيان عن الحركة المسرحيّة النشيطة وعن السينما، وكتب حسن قبيسي (باسم جميل شعيشع) مقالات متنوّعة. وعندما سوّيت قضيّة صادق عاد إلى بيروت وإلى مهمّاته في دار الطليعة ودراسات عربيّة”.
مجلّة الحرّيّة
عن الاندماج بين “لبنان الاشتراكيّ” و”منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين” يروي سويد أنّ محسن إبراهيم وكان رئيس “منظّمة الاشتراكيّين اللبنانيّين” عرض فكرة الاندماج. يتابع سويد أنّ المنظمة كانت تفتقر إلى مثقّفين يستطيعون تثقيف كوادرها بالماركسيّة اللينينيّة، في حين أنّه كان في “لبنان الاشتراكيّ” من يستطيع ذلك. ويشير سويد إلى أنّ “لبنان الاشتراكيّ” كان يضمّ كوادر ويحتاج إلى جمهور واسع متوافر في المنظّمة.
كان الاتّجاه في البداية يميل إلى رفض العرض، لكنّ المباحثات مع محسن استمرّت إلى أن وافق “لبنان الاشتراكيّ” على فترة الاختبار، واشترط أن يتولّى عدد من قادة التنظيم الاطّلاع على مادّة مجلّة “الحرّيّة” والمشاركة في قبول أو رفض المساهمات فيها. وقد شارك في مراجعة مادّة الحرّيّة الأسبوعيّة وضّاح وفوّاز وأحمد بيضون وقبيسي وسويد.
مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة: نصف قرن من الحضور والمثابرة
في زاوية هادئة من بيروت، وتحديدًا داخل غرفة لم تغادر ذاكرته، أمضى محمود سويد 33 عامًا متواصلة مديرًا لمؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة. كان حضورًا إداريًّا وفكريًّا ثابتًا، استمرّ طيلة عقود، بما فيها أحلك فترات الحرب اللبنانيّة. يقول سويد عن تلك المرحلة: “عملت في هذه المؤسّسة ما يقارب نصف قرن، وفي هذه الغرفة تحديدًا قضيت 33 سنة، عدًّا ونقدًا، من دون انقطاع”.
بدأ سويد العمل في المؤسّسة أوائل العام 1971. تولّى في البداية مسؤوليّة النشرة العبريّة. ثمّ تسلّم الإدارة الكاملة في خريف الـ 1982. وبعد تجارب لاختيار مدير يتولّى المسؤوليّة بعد سويد استغرقت ثلاث سنوات تولّى بعدها الادارة العامّة خالد فرّاج مدير مكتب رام الله وغادر سويد نظريًّا المؤسّسة وكان قد بلغ من العمر ثمانين عامًا.
كانت مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة بالنسبة إليه أكثر من وظيفة؛ كانت بيتًا فكريًّا وسياسيًّا، وأرضًا خصبة للبحث العميق في الشأن الفلسطينيّ والإسرائيليّ
كانت مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة بالنسبة إليه أكثر من وظيفة؛ كانت بيتًا فكريًّا وسياسيًّا، وأرضًا خصبة للبحث العميق في الشأن الفلسطينيّ والإسرائيليّ. يحرص على التمييز الواضح بين هذه المؤسّسة وبين غيرها، خصوصًا “مركز الأبحاث الفلسطينيّ” التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، في بيروت.
لم تكن المؤسّسة في صمودها واستقلالها وحسب، بل في هيكليّتها الفكريّة أيضًا. تولّى قسطنطين زريق، المفكّر البارز، رئاسة مجلس الأمناء، ليعطي المؤسّسة بُعدًا لبنانيًّا وعربيًّا عامًّا. يتألّف مجلس الأمناء من نخبة من المثقّفين اللبنانيّين والفلسطينيّين ومن البلاد العربيّة. وتقديرًا للدور والمسؤوليّات التي تولّاها سويد وافق مجلس الأمناء بكامل أعضائه على ضمّه إلى مجلس أمناء المؤسّسة، وطلب إليه أن يكتب مذكّراته حيث المؤسّسة تحتلّ معظمها. وأجاز له أن يستخدم مكتبًا في المؤسّسة مدى الحياة.
التعرف على مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة
“في العام 1970 علمت بوجود ‘مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة‘ في لبنان” يقول سويد ويردف “قال لي زميلي في ‘الأسبوع العربيّ‘ وصديقي أنطوان بطرس: أنا مدير مؤسّسة صغيرة ناشئة اسمها ‘مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة‘ تُصدر (حتّى الآن) منشورات توثيقيّة، وأتمنّى عليك كتابة ‘نبذة‘ قصيرة أو طويلة، بحسب ما تريد، عن كل كتاب أو تقرير تصدره المؤسّسة لتوزيعه على الإعلام، ومقابل ذلك أهديك نسخة من الكتاب. وقد وافقت فورًا، وزرت أنطوان في مكتبه في شقّة صغيرة استأجرتها المؤسّسة في شارع فردان في بيروت”.
يتابع سويد “في الربع الأخير من العام 1970 قال لي صديقي أنطوان إنّ المؤسّسة تنوي إصدار نشرة تضمّ ترجمات من الصحف الإسرائيليّة (وستكون الأولى من نوعها في البلاد العربيّة). وتسعى المؤسّسة إلى تعيين محرّر للنشرة الجديدة، يكون مؤيّدًا للقضيّة الفلسطينيّة وللقضايا العربيّة ومطّلعًا على هذه القضايا ومتابعًا لها، وقدراته التحريريّة بالعربيّة جيّدة. وقد بحثوا عن المحرّر المطلوب فلم يجدوا أفضل منك، إذ اطّلعوا على ما تنشر وسألوا أصدقاء مطّلعين، فكان اسمك يحضر دائمًا في طليعة الأسماء التي تعرض عليهم”.
يضيف سويد “التقيت المشرف على أعمال المؤسّسة في بيروت، الأستاذ وليد الخالدي، الذي أطلعني على مختلف شؤون المؤسّسة وأهمّها أنها مستقلّة عن أيّ دولة أو حزب وتتلقّى تبرّعات من دول ومؤسّسات وصناديق تمويل عربيّة ومن شخصيّات عربيّة، وبخاصّة فلسطينيّة قادرة على التبرّع غير المشروط”.
الانخراط في العمل
يروي سويد عن لحظات اتّخاذه القرار في العمل فيقول: “وضعني حديث الأستاذ الخالدي أمام لحظة القرار الصعب، والانخراط في العمل الذي يلبّي كلّ ما تربّيت عليه من مشاعر قوميّة عربيّة، والالتزام بقضيّة فلسطين التي رافقتني طفلًا من خلال والدي وأخوتي في كفرحمام. كان عليّ أن أحسم قراري لوحدي، فاخترت أن أنتسب إلى مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة وأن أتخلّى عن أيّ عمل آخر، مهما بدا ذلك صعبًا عليّ”.

نشرة مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة
عن بداياته في العمل يتذكّر سويد “أنّني تعرفت على فريق الترجمة من العبريّة ورئيسه سمير جبّور وبدأنا إصدار الأعداد ‘صفر‘ إلى أن أصدرنا العدد الأوّل وبدأنا في توزيع النشرة على وسائل الإعلام المختلفة وعلى كلّ المهتمّين بالاطّلاع على أحوال دولة العدوّ في مختلف المجالات في 1/4/1971، وأدركت بعدها لماذا يجب اختيار شخص مسيّس يستطيع التمييز بين خبر أو تعليق يخدم سلطة الاحتلال الصهيونيّة، والخبر أو التعليق الذي يقدّم المعلومات التي يفيد القارئ والمسؤول العربيّ أن يطّلع عليها”.
عن مراحل عمله في المؤسّسة يوضح سويد “أنّني عملت رئيسًا لتحرير النشرة التي حملت اسم ‘نشرة مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة‘ (1971- 1988) ومديرًا للمؤسّسة (1982- 2015) ومستشارًا عامًاّ (2017-2016) وكانت مهمّتي في السنتين الأخيرتين أن أكون إلى جانب الإدارة الجديدة كوني أقدَم شخص في المؤسّسة (بعد الأستاذ وليد الخالدي) المقيم في الولايات المتّحدة الأميركيّة الذي استقال كأمين للسرّ لتقدّمه في السنّ وانتخبه المجلس رئيسًا فخريًّا للمؤسّسة في اجتماع المجلس منذ سنوات قليلة”.
وردًا على سؤال حول كيفيّة حصولهم على الصحف العبريّة كي يختاروا منها معلومات تفيد الكاتب والصحافيّ والمثقّف العربيّ عمومًا في متابعة ما يجري في ‘إسرائيل‘ وما يفيد القضيّة التي رفعت شعارَ “أعرف عدوّك”، يجيب سويد: “في العام 1970 زار وفد من المؤسّسة برئاسة رئيس مجلس الأمناء الدكتور قسطنطين زريق وضمّ أمين سرّ المؤسّسة الأستاذ وليد الخالدي وأعضاء من المجلس رئيس الجمهوريّة (الراحل) سليمان فرنجيّة، ورئيس الحكومة (الراحل) تقي الدين الصلح ومكتب لجنة مقاطعة إسرائيل، فعرّف الوفد الرئيسين بالمؤسّسة والدور الذي تضطلع به على الصعيد الفكريّ والتاريخيّ في مواجهة الصهيونيّة ومولودتها إسرائيل. وطلب الوفد من الرئيسين والمكتب السماح للمؤسّسة بالحصول على الصحف العبريّة لأغراض البحث العلميّ. وفي السنة نفسها صدر قرار عن مجلس الوزراء بالسماح للمؤسّسة بالحصول على كتب وصحف من إسرائيل لأغراض البحث العلميّ”.
عن ذلك يروي سويد “كان أعضاء الجانب اللبنانيّ من لجنة الهدنة اللبنانيّة – الإسرائيليّة يحصلون يوميًّا من الأعضاء الإسرائيليّين في اللجنة على نسخ من الصحف الإسرائيليّة يوم صدورها. ووافقت الحكومة على أن تحصل المؤسّسة على نسخة من هذه الصحف في اليوم نفسه، الأمر الذي أتاح لنا إصدار النشرة مدّة 15 سنة بين 1971 و1988. وتوقّف الحصول على هذه الصحف بعد توقّف اجتماعات لجنة الهدنة وصرنا نستورد الصحف من لندن فتصل متأخّرة بسبب اقفال المطار فترات طويلة، فتوقّفت النشرة عن الصدور، وصرنا نصدر كتيّبات للحلول محلّها في تقديم ما ينشر في اسرائيل لقرّائنا”.
من النشرة إلى المجلّة
في العام 1990، بدأت المؤسّسة بإصدار “مجلّة الدراسات الفلسطينيّة” فصليّة (يصدر العدد من المجلّة في أوّل كلّ فصل من فصول السنة الأربعة). وتضمّ المجلّة دراسات ومقالات ورصدًا فصليًّا للحياة تحت الاحتلال: مناطق القدس الشرقيّة والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة. وتألّفت هيئة تحرير المجلّة من أحمد سامح الخالدي، المقيم في لندن، ومحمود سويد رئيس التحرير والراحل أحمد خليفة مديرًا للتحرير. ومنذ العام 1971 توسّعت المؤسّسة في اصدار النشرة الجديدة وانضمام عدد من أساتذة الجامعة الأميركيّة في بيروت (كمتطوّعين غير متفرّغين)، وكذلك انضمّ تباعًا: وليد خدوري وصبري جريس والياس شوفاني.
“لقد حمّلنا لبنان أكثر ممّا يحتمل”، هكذا استعاد محمود سويد عبارة الراحل محسن إبراهيم، وهو يروي انكسار حلم التقدّم الذي بدأ في الستينيّات، وانطفأ
حين ترك سويد الإدارة، بقي في المؤسّسة مستشارًا عامًا لّمدة سنتين (2017-2016)، ليكون إلى جانب المدير الجديد ويعود بعد ذلك إلى مكتبه في الطابق الثامن بقرار من المدير العام خالد فرّاج.
المؤسّسة التي تأسّست العام 1963، انتقلت إلى مبناها الحاليّ في العام 1975، في ظلّ الحرب. يروي سويد تفاصيل الانتقال: “بعد أن توسّع عملنا وتوفّر التمويل، استأجرنا شقّة في طلعة جنبلاط، أنشأنا فيها مكتبة، وغرفًا للجان الأبحاث والإدارة. ثمّ اشترينا المبنى الحاليّ وانتقلنا إليه بين أواخر 1975 وبدايات 1976”.
تجربة نضاليّة
بهذه اللمحة، لا تبدو مؤسّسة الدراسات بالنسبة إلى محمود سويد مجرّد مقرّ عمل، بل تجربة نضاليّة مديدة، خاضها على جبهات الإدارة، والإنتاج المعرفيّ، والبقاء في بيروت، على رغم الحرب والانفجارات والتغيّرات الإقليميّة. تجربة تتقاطع مع نضال فكريّ عميق لحماية الرواية الفلسطينيّة، والدفاع عن المعرفة الحرّة، من داخل العاصمة اللبنانيّة، وإلى العالم.
علاقة محمود سويد مع قيادات “فتح” كانت قويّة: ياسر عرفات، أبو جهاد، أبو إيّاد، خالد الحسن، كذلك مع قيادة الجبهة الشعبيّة والجبهة الديمقراطيّة. وساعد متطوّعًا في نقاشات مركز التخطيط الفلسطينيّ.
عن اللحظات الصعبة والعصيبة التي أمضاها سويد في المؤسّسة يستذكر ما قاله وليد الخالدي قبل أن يغادر إلى الولايات المتّحدة، له ولرئيس مجلس الأمناء هشام نشّابة: “إذا استطعتم المتابعة فتابعوا، وإن لم تستطيعوا فإنّنا نفهم جيّدًا ذلك”.
لكنّ سويد لم يغلقها. قرّر أن يُبقي على الضروريّ فقط. أدار المؤسّسة في زمن الموت والفراغ، حين غادر الآخرون، وبقي وحده يتعامل مع الأزمات، يوظّف التمويل المحدود، ويصون المكتبة والنشرة والاسم.
صداقات سياسيّة وذاكرة ثقافيّة
لم تكن علاقة محمود سويد بالشخصيّات الثقافيّة والسياسيّة مجرّد معرفة عابرة، بل نسيج من اللقاءات اليوميّة، والمشاريع المشتركة، والخيبات المحكيّة بهدوء. في حديثه عن سمير قصير، لا يستعيد لحظة واحدة، بل سلسلة من التفاعلات التي امتدّت من باريس إلى لندن إلى بيروت، ومن المجلّات إلى شوارع التظاهرات.
يقول: “تعرفت إلى سمير كعضو في هيئة تحرير المجلّة الفرنسيّة التي كانت تصدرها المؤسّسة من باريس، إلى جانب فاروق مردم بيه والياس صنبر. كان سمير الشاب بينهم، الأخ الأصغر، لكن الحاضر بقوّة الفكر والموقف”. تعمّقت الصداقة أكثر حين بدأ سويد بالسفر إلى باريس لتنسيق المهام الإداريّة، ثمّ إلى لندن حيث كانت لجنة الأبحاث تعقد اجتماعاتها، فبات اللقاء مع ثلاثيّ المجلّة الفرنسية متكرّرًا وطبيعيًّا.
لكنّ العودة إلى بيروت جعلت العلاقة تأخذ طابعًا أكثر قربًا. يروي سويد تفاصيل لقائهم الأسبوعيّ تقريبًا، وندواتهم المشتركة، من صيدا إلى أنطلياس، حيث كانوا يظهرون أحيانًا كثلاثيّ متماسك، سمير فرنجية وسمير قصير ومحمود سويد.
يتحدّث سويد عن جيزيل خوري، فيقول إنّها لم تكن مهتمّة بالقضيّة الفلسطينيّة أو بالعروبة حين بدأت علاقتها بسمير. لكنّ هذا الارتباط، كما يروي سويد، “أخذها إلى مكان آخر”. يصف مشاركتهم معًا في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، حين زارت المكان للمرّة الأولى، حاملة شمعة. تلك اللحظة كانت بوّابة تحوّل، جعلتها أقرب إلى العالم الذي ينتمي إليه سمير.
يستذكر آخر لقاء له مع سمير، في وسط بيروت “كنت مع زوجتي، وفجأة رأيته إلى جانبي. ناداني ضاحكًا: ‘هلّق، هلّق، بشوفوك تتحدّث معي. إنّهم ورائي دائمًا”. بعد أيام قليلة دوّى الانفجار واستُشهد سمير.
إلياس خوري وآخرون
أمّا إلياس خوري، فالعلاقة به قديمة أيضًا. تعرف إليه أوّل مرّة حين التقى بمجموعة طلّاب في الجامعة اللبنانيّة بدأوا في حراك جديد. ثمّ تكرّست العلاقة أكثر حين أصبح إلياس سكرتير تحرير مجلّة “شؤون فلسطينيّة”، التي كان يديرها محمود درويش. وبحكم وجوده في المؤسّسة، تكرّرت اللقاءات، سواء في العمل الثقافيّ أو في المؤتمرات، وأبرزها مؤتمر اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، حيث مثّلوا مع روجيه عسّاف التيّار الحديث في الأدب والسياسة معًا. وقد نشر أدونيس بحث سويد في مجلّة “مواقف” مع مقدّمة قصيرة كنموذج للكتابة الحديثة.
أمّا كريم مروّة، فقد توطّدت علاقتهما بعد التحوّل الكبير الذي أحدثه في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ مع جورج حاوي وجورج بطل وآخرين. كذلك فإنّ بحثه في اتّحاد الكتاّب اللبنانيّين، كان نقطة التحوّل التي عرّفته إلى مجموعة أنطلياس الثقافيّة السياسيّة، من عصام خليفة إلى أنطوان سيف وآخرين، الذين طلبوا إليه بدورهم إلقاء البحث نفسه في لقاء مع عدد كبير من الطلّاب والمثقّفين الذين ينتمون إلى مجموعة الحركة الثقافيّة في أنطلياس. وكان “تسلّل” هذه المجموعة ممّا كان يسمّى ببيروت الشرقيّة إلى بيروت الغربيّة حدثًا بحدّ ذاته.. ألقاها مرّتين، ونُشرت لاحقًا، وكانت بحسب وصفه “لحظة تفاعل فكريّ أسّست لعلاقات جديدة”.
في استذكار هؤلاء، يتّضح أنّ ذاكرة محمود سويد ليست مجرّد شهادات، بل طيف من الحضور الفكريّ والسياسيّ، شكّل جزءًا حيًّا من المشهد الثقافيّ في بيروت وفلسطين وباريس. بين المجلّات والندوات والأغدية في البيوت، تتشابك العلاقات، وتتحوّل الصداقات إلى تاريخ حيّ.
لبنان ومفترق التحوّلات الإقليميّة
“لقد حمّلنا لبنان أكثر ممّا يحتمل”، هكذا استعاد محمود سويد عبارة الراحل محسن إبراهيم، وهو يروي انكسار حلم التقدّم الذي بدأ في الستينيّات، وانطفأ تحت رماد الحرب والفساد السياسيّ.
يرى سويد أنّ لبنان في تلك اللحظة، ومع حضور الثورة الفلسطينيّة، كان مهيّأً ليكون نموذجًا سياسيًّا وثقافيًّا في المنطقة. لكنّ الزخم الثوريّ اصطدم بواقع هشّ، وبانقسامات داخليّة، جعلت من الطموح الكبير عبئًا على دولة صغيرة ومنقسمة. وبعد الحرب، جاء اتّفاق الطائف ليحوّل الميليشيّات إلى سلطة، وليُنقل البلد من زمن السلاح الطامح إلى زمن الفساد والسلاح في خدمة إيران ونظام “الأسدين” في سوريّة (سلاح حزب الله).
ومع ذلك، حين يُسأل عن العام 2025، يُبدي تفاؤلًا حذرًا. “نعم، لديّ أمل بهذا العهد. الرئيس الحالي يبدو شخصيّة جيّدة، ونواف سلام رئيس الحكومة، هو رفيق نضال قديم. كنّا نحاول إنجاز أشياء كثيرة معًا، واليوم هو في موقع القرار”.