الشوير منبت البنّائين ومقصّبي حجر العمارة اللبنانيّة

في قلب جبل لبنان، بين عناقيد السنديان وشرفات الصنوبر، تتربّع بلدة الشوير التي تستحقّ عن جدارة لقب “السور”. هنا، يلتقي التاريخ بالعراقة والجمال الطبيعيّ، لتصبح الشوير علامة فارقة في العمارة اللبنانيّة التقليديّة على مرّ قرون.
لم تكن الشوير محطّة عابرة في مسيرة الفنّ المعماريّ، بل كانت نواة مدرسة لبنانيّة في العمارة، حملها أبناؤها معهم إلى كلّ زاوية وصلوا إليها؛ من قصر بيت الدين إلى سرايا دمشق، ومن جبيل إلى البترون وبشرّي، وصولًا إلى بيروت.
اليوم، ومع تزايد الاهتمام بالحفاظ على الهويّة العمرانيّة، تتّجه الأنظار إلى الشوير كنموذج حيّ يُحتذى في دمج الجمال مع المتانة والمهارة اليدويّة، لتظلّ معقِل المعماريّين شاهدة على أصالة لبنان وإبداعه.
مدرسة بناء مزمنة
من المحطّات اللافتة في تاريخ الشويريّين، أنّ الأمير بشير الشهابيّ الثاني استعان ببنّائي الشوير لتشييد قصر بيت الدين، بعدما أبهره جمال كنيسة السيّدة في ساحتها، التي تقدّم صورة بهيّة عن مهارة هؤلاء البنّائين.

الشوير ليست مجرّد مسقط رأس البنّائين، بل مرآة لهويّة عمرانيّة لبنانيّة بدأت هنا وسافرت مع أبنائها إلى دول مجاورة، وصولًا إلى دول الخليج العربيّ. ولم يكن تراثهم مجرّد حجارة مقصّبة، بل لغة فنّيّة ناطقة بالمهارة والذوق والروح.
وفي زمن العمارة السريعة التي تفتقد أحيانًا إلى الهويّة، باتت الحاجة ملحّة إلى إعادة الاعتبار لهذا النمط، ليس من خلال التوثيق وحسب، بل بإعادة دمجه في المشهد المعماريّ المعاصر، ومنح المعلّمين البنّائين من أمثال أهل الشوير فرصة ليكونوا جزءًا من فرق التصميم والتنفيذ، كي ينقلوا مهاراتهم إلى الأجيال القادمة.
ولادة الفنّ الشويريّ
“قيل فيهم إنّهم مثلما صاغوا الحديد بدقّة، نحتوا الحجر بإتقان، وبهذا أصبح البنّاء الشويريّ فنانًا لا مجرّد عامل”، بحسب المهندس المعماريّ جميل أبي خير في حديثه إلى “مناطق نت”. ويضيف: “تميّز أهل الشوير منذ نحو خمسة قرون بصناعة الحديد والنحاس، إذ كانوا يستخرجونه من بلدة مرجبا المجاورة. برز تفوّقهم في صناعة أدوات الزراعة والأسلحة، من بينها السيف الشويريّ الشهير، الأمر الذي مهّد الطريق أمام دخولهم مجال البناء بحرفيّة عالية”.
يؤمن أبي خير، وهو أحد أحفاد البنّائين الشويريّين، بأنّ الفنّ المعماريّ الشويريّ يجب ألّا يكون مجرّد إرث من الماضي، بل امتداد للمستقبل”. ويردف “سرعان ما تحوّلت هذه الحرفة الممزوجة بالذوق والمهارة إلى مدرسة عمرانيّة، تنسج تفاصيل البناء بحسّ فنّيّ رفيع. ثمّ ما لبثت أن ازدادت قيمتها في العام 1719، مع انتقال معماريّين حلبيّين إلى الشوير بسبب تفشّي داء الطاعون هناك، وكان أقرباؤهم رهبانًا في دير مار يوحنّا في الشوير آنذاك، وما زالوا إلى اليوم في الخنشارة”.
أبي خير: لم تكن براعة البنّائين الشويريّين حكرًا على الشوير فقط، بل حملوا مهاراتهم معهم إلى أرجاء لبنان وسوريا ودول الخليج العربيّ
وبحسب أبي خير، “أدّى هذا الانتقال إلى إحياء حركة البناء بلمسة دينيّة وفنّيّة، ظهرت جليًّا في كنيسة مار نقولا التي لا تزال شاهدة على هذه النهضة حتّى يومنا الحاضر. بالإضافة إلى أنّ دير مار يوحنّا في الخنشارة يضمّ أقدم مطبعة باللغة العربيّة، ممّا يضفي بعدًا ثقافيًّا مهمًّا إلى تاريخ البلدة”.
تدلّ الوثائق على أنّ عدد البنّائين الشويريّين ممّن ساهموا في بناء قصر بيت الدين نحو العام 1800 بلغ 86 معماريًّا، بينما سجّل العام 1860 وجود أكثر من 600 بنّاء من أصل ألف مكلّف ضريبيّ في الشوير، في مشهد فريد يعكس عمق حضورهم في هذه المهنة- الحرفة.
البنّاؤون نواة العمارة اللبنانيّة
يعرض أبي خير لمسار العمارة الشويريّة وأثرها على المناطق فيقول: “لم تكن براعة البنّائين الشويريّين حكرًا على الشوير فقط، بل حملوا مهاراتهم معهم إلى أرجاء لبنان وسوريا ودول الخليج العربيّ، مؤسّسين جغرافيا معماريّة تحمل توقيعهم ولا تزال”.
ومن أبرز المواقع التي شُيّدت على أيدي البنّائين الشويريّين يعدّد أبي خير: مبنى البلديّة في الشوير وفندق القاصوف وعدد من الكنائس التاريخيّة في البلدة، السرايا اللمعيّة في بكفيّا التي تحوّلت مقرًّا صيفيًّا لرئاسة الجمهوريّة، قصر بيت الدين، قصر المير أمين والمطرانيّة المارونيّة في بيت الدين، سرايا زحلة وسرايا دمشق، الجامعة الأميركيّة في بيروت، البطريركيّة المارونيّة القديمة في الديمان والبطريركيّة المارونيّة في بكركي. بالإضافة إلى عدد كبير من الأديرة والكنائس في تنّورين وشاتين وبشرّي وبجّة والعاقورة، إضافة إلى مشاريع سكنيّة في دير القمر وكسروان وجبيل وشمال لبنان، وقصر آل حمادة في بعقلين، كذلك أعادوا بناء دير القمر بعد أحداث العام 1860.

سرّ الجودة والدقّة
ويلفت أبي خير إلى أنّ “انتشار البنّائين الشويريّين لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة طبيعيّة للجودة الفائقة والدقّة العالية في رصف الحجارة، وبناء القناطر، ونحت الزخارف النباتيّة والهندسيّة على الواجهات الحجريّة”.
ويذكر أنّ عائلة بعقليني، وأصلها من عائلة كيروز من بشرّي، “وفدت من بعقلين إلى الشوير، واكتسب عدد من أبنائها فنّ العمارة من البنّائين الشويريّين. وساهموا بذلك في توسّع انتشار هؤلاء البنّائين باتّجاه كسروان وجبيل، ومن هناك إلى عمق الأقضية الشماليّة. ونظرًا إلى أنّ هذه العائلة مارونيّة، فإنّ ذلك يفسّر إقبال الموارنة على الاستعانة بالشويريّين في بناء كنائسهم وأديرتهم، وصولًا إلى بكركي والديمان”.
أناقة التفاصيل ومتانة الهيكل
ما يميّز البناء الشويريّ دائمًا، بحسب أبي خير، “هو التوازن الدقيق بين الجمال والوظيفة. فقد أبدع البنّاؤون الشويريّون في استخدام الحجر اللبنانيّ، من الرمليّ إلى البازلت، إذ كانوا يقصّبونه ويدقّونه يدويًّا لإبراز جماله الطبيعيّ، ويصقلونه بدقّة هندسيّة تعكس براعتهم. وكانت القناطر العالية والأقواس العريضة تُبنى ليس كعنصر هيكليّ وحسب، بل كرمز للقوّة والبهاء، وكركن جماليّ أساس في البيوت والكنائس”.

ومن أبرز سمات البناء الشويريّ: استخدام الحجر الطبيعيّ في الواجهات مع نقوش دقيقة وزخارف يدويّة، واعتماد النوافذ الثلاثيّة المقوّسة (الطرنشة)، المصنوعة غالبًا من خشب الأرز أو السنديان، وتغطية الأسطح بالقرميد الأحمر، تماشيًا مع النسق التقليديّ اللبنانيّ، كذلك الباحات الداخليّة المخصّصة للتجمّعات العائليّة المتكاملة مع الموقع الجغرافيّ والتضاريس، بالإضافة إلى تصميم البيوت مع مراعاة التهوئة والضوء وحاجات الأسرّة الممتدّة في انسجام مع الطبيعة.
في مواجهة تحديات معاصرة
عن التحوّلات المعماريّة اللبنانيّة يشير أبي خير إلى أنّ “العمارة الشويريّة كانت تشكّل جزءًا لا يتجّّزأ من الهوية المعماريّة اللبنانيّة، التي ترتكز على استخدام الموادّ الطبيعيّة مثل الحجر الرمليّ والقرميد، والتصميم المتناغم مع البيئة، إلّا أنّ التطوّر أدّى إلى تحوّلات عمرانيّة عميقة أعادت صياغة المشهد العمرانيّ اللبنانيّ”.
يتابع أبي خير “من أبرز هذه التحوّلات دخول الإسمنت والزجاج كموادّ رئيسة، ما أدّى إلى تراجع استخدام الحجر التقليديّ، إضافة إلى الإهمال وغياب الصيانة، حيث تُركت كثير من البيوت التراثيّة مهجورة نتيجة الكلفة العالية للترميم، بالإضافة إلى الهجرة الداخليّة وتوسّع المدن، الأمر الذي تسبب في هدم عدد كبير من المباني التراثيّة، بخاصّة في بيروت، حيث دمّر انفجار مرفأها العام 2020، جزءًا كبيرًا من المباني التراثيّة، لا سيّما في مار مخايل والجمّيزة”.
أبي خير: حتّى اليوم يعمل في البلدة نحو 30 بنّاءً محترفًا، تتهافت عليهم المشاريع الراغبة بالتميّز
كلّ ذلك بالإضافة إلى الفوضى العمرانيّة الناجمة من قوانين غير مشجّعة للحفاظ على الطابع التراثيّ وغياب التخطيط المتوازن، ممّا أدّى إلى طمس معالم من الهويّة العمرانيّة الشويريّة.
مستقبل البناء الشويريّ
نسأل: هل من مستقبل للبناء الشويريّ؟ فيردّ أبي خير بـ “نعم” مؤكّدًا أنّه “على رغم التحدّيات، فلا تزال الحرفة حيّة في الشوير”. ويضيف: “حتّى اليوم يعمل في البلدة نحو 30 بنّاءً محترفًا، تتهافت عليهم المشاريع الراغبة بالتميّز. وما زالت القناطر والأقواس مع المندلون والأجراس حاضرة في تصاميمهم. وكما عائلة نفّاع في بيت شباب لا تزال متفرّدة بصناعة الأجراس، ستستمرّ حرفة البناء عندنا بروحها التقليديّة”.
ويتابع: “البناء الشويريّ هو الأكثر نظافة ومتانة وجماليّة، وعلينا ألّا نترك هذا التراث عرضة للنسيان، بل علينا أن نحوّله إلى مادّة تعليميّة حيّة تُدرّس في كلّيّات الهندسة””
ويقترح أبي خير إدراج مادّة دراسيّة في الجامعة بعنوان “الحجر اللبنانيّ بين الفنّ والبناء”، لتعليم الطلّاب سبل الدمج بين العمارة التقليديّة والمعاصرة، مع تسليط الضوء على تجربة البنّائين الشويريّين كنموذج حيّ لتطويع الحرفة في خدمة الجمال والهويّة.