تقليص الحصص الدراسيّة يعمّق أزمات التعليم الرسميّ في لبنان

بدل أن يُشفى القطاع التعليميّ في لبنان يزداد واقعه سوءًا يومًا بعد يوم. إذ طوال الفترة الماضيّة مُني هذا القطاع كما كلّ لبنان، بتبعات الأزمات الاقتصاديّة والنقديّة التي عصفت بالبلاد منذ العام 2019، وجائحة كورونا والحرب الإسرائيليّة على لبنان، وأثناء كلّ هذه الأزمات تعمّقت أزمة التعليم أكثر، وباتت فاقعة، لا سيّما وأن القرارات المتخذة تُكرّس هذا الانحدار في المسار التعليميّ، وربّما ليس آخرها قرار المضيّ بأربعة أيّام تعليم في المدارس الرسميّة، ما يطرح تساؤلات حول جودة ومستوى التعليم في لبنان ومدى اتّساع الهوّة الحاصلة بين القطاعين الرسميّ والخاصّ.
فقبل أسابيع قليلة، أعلنت وزيرة التربية والتعليم العالي ريما كرامي، عن قرار الاستمرار في اعتماد أربعة أيّام تدريس بدلًا من خمسة، إثر اجتماع إداريّ، عقدته ومعنيّين للبحث ومتابعة تحضيرات انطلاق العام الدراسيّ الجديد، الذي تفصلنا عنه أيّام قليلة. وقد أثار هذا الأمر جدلًا تربويًّا وأكّاديميًّا في لبنان، وأعاد الحديث عمّا آلت إليه ظروف التعليم الرسميّ في لبنان، خصوصًا وأنّ قرار الوزيرة لا يعني أو يشمل المدارس الخاصّة.
“قرار ماليّ وليس تربويًّا”
يرى الخبير التربويّ نعمة نعمة، أنّ قرار الأربعة أيّام تدريس وتخفيض العام الدراسي من 170 إلى 120 يومًا “هو قرار إداريّ وماليّ وليس تربويًّا” علمًا أنّ الوزيرة كرامي وكشخص أكّاديميّ كان لديها توجّه لاعتماد خمسة أيام، وعلى أساسه “أعادت بداية العام إلى منتصف أيلول وينتهي في نهاية حزيران” وفق ما يؤكذد نعمة لـ “مناطق نت”.

إلّا أنّ هذا الأمر كان غير ممكن في ظلّ قرار الحكومة بعدم الإنفاق خارج الموازنة، يقول نعمة: “الحكومة لا تنفق على التعليم؛ إذ ليس أولويّة” ولا إمكانيّة لتأمين مصاريف التشغيل وبدلات إضافيّة للرواتب والأجور، لذا كان المضيّ بخيار الأيّام الأربعة. علمًا أنّ “20 مليون دولار كانت كفيلة بتسيّير العام الدراسيّ الجديد بشكل كامل في انتظار وضع خطّة شاملة لإصلاح كامل القطاع التعليميّ” بحسب نعمة.
ووفق آخر الأرقام، بلغ احتياطيّ النقد الأجنبيّ لدى مصرف لبنان المركزيّ 11.69 مليار دولار، بعد زيادة قدرها 206.35 مليون دولار، في النصف الأوّل من آب (أغسطس) 2025.
قديم جديد
إلى سنوات مضت، اعتاد التعليم الرسميّ نظام الأيّام الأربعة في الأسبوع، لأسباب مختلفة منها: التوترات الأمنيّة وإقفال الطرقات أثناء التحرّكات الشعبيّة والتباعد الاجتماعيّ الذي فرضه انتشار فيروس كورونا وإنفجار مرفأ بيروت ومن ثمّ إقفال بعض المدارس جرّاء الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، والأهم من ذلك، الاعتبارات الماليّة وكلفة التعليم، وهو ما كان كفيلًا بإصدار القرار الجديد.
بدأ تقليص أيّام التدريس في عهد الوزير السابق إلياس بو صعب العام 2017، ثمّ في أعقاب إضرابات المدارس الرسميّة وجائحة كورونا والحرب الإسرائيليّة على لبنان، ليصبح الفاقد التراكميّ لهذه الأيام “أكثر من 5 سنوات” بحسب تقديرات نعمة.
نعمة: المناهج المصمّمة على أساس 150 يوم تعليم فعليّ، يتلقّى منها التلاميذ، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، بين 70 و90 يوم تدريس ليس أكثر
تقول الوزيرة كرامي إنّه “إجراء استثنائيّ فرضته الموازنة القديمة” وبالتالي يفترض أن تكون السنة الأخيرة لتطبيقه هذا العام. على أن يتمّ تمديد الحصّة إلى خمسين دقيقة كتعويض جزئيّ عن الفاقد التعليميّ، ما يعتبره كثر أنّه لا يمكن مقاربته على هذا الشكل. فزيادة بضع دقائق على الـ 45 دقيقة وهي وقت الحصّة في الأعوام السابقة لا يمكنه تعويض ما يخسره الطلّاب من دروس، على اعتبار أنّ المسألة لا تتعلّق بطول أو قصر الحصّة التعليميّة.
وعلى رغم أنّه قرار اضطراريّ، وموقّت، إلّا أنّ المدارس الخاصّة غير معنيّة في ذلك، وحده التعليم الرسميّ يواجه خطرًا بنيويًّا، في حين تعدّ غالبيّة المدارس الخاصّة طلّابها بشكل جيّد، على رغم أنّ المناهج واحدة.
وفي سياق متّصل، أعلن المنسّق العام لاتّحاد المؤسّسات التربويّة الخاصّة في لبنان، الأب يوسف نصر، أنّ “قرار الوزارة الجديد يخصّ التعليم الرسميّ وليس الخاصّ” إلّا في حال ارتأت المدرسة ذلك لظروف خاصّة بها.
أثر تربويّ كبير
كلّ هذه الأمور كانت كفيلة بتراجع المستوى التعليميّ الرسميّ في لبنان وحدوث فاقد تعليميّ، علماً أنّ الأمر لا يشمل جميع المدارس، بل لكلّ منها خصوصيّة فرضتها الظروف الحاصلة، مثال: المنطقة الجغرافيّة التي تتواجد فيها، ضمن نطاق منطقة الحرب أو خارجها، والقدرة على الإنفاق.
ومنذ ما بعد كورونا، انخفضت أيّام التدريس الفعليّة لأسباب مختلفة، ذكرناها سابقًا، تتعلّق ليس فقط بالأزمة الصحّيّة، وإنّما بالاضرابات المتتالية للأساتذة والهيئات التعليميّة من أجل تحصيل حقوقهم والحرب وتقليص المصاريف.
يقول نعمة: “بالفعل نحن في أزمة. المناهج المصمّمة على أساس 150 يوم تعليم فعليّ، يتلقّى التلاميذ، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، بين 70 و90 يوم تدريس ليس أكثر”.
ويعتبر نعمة أنّ هذا التراكم الكبير لفقدان أيّام التدريس، على مدى السنوات السابقة، يعني فقدان المعارف والمهارات، وبخاصّة في المراحل الأولى من التدريس (الابتدائيّ)، الفئة الأكثر تأثّرًا وتضرّرًا من عدم تلقّي التعليم كما يجب، إذ بات عدد كبير من التلامذة يفتقد إلى مهارات القراءة والكتابة والتعبير الأساسيّة والتي تخوّلهم الانتقال إلى مراحل ومستويات أعلى، وتزداد خسارتهم مع استمرار تقليص أيّام التدريس.
حال لا يسرّ
تقول نيرمين (15 سنة) وهي تلميذة صفّ عاشر هذا العام: “مرّت أربع سنوات ثقيلة علينا، تأثيرها كان سلبيًّا جدًّا، تعلّمنا تحت القصف، اضطررنا مرّات إلى ترك المدرسة خوفًا من اقتراب الاستهدافات الإسرائيليّة” وتضيف لـ “مناطق نت”: “أعتقد أنّه ينقصنا كثير من المعرفة، لم نتمكّن من دراسة كامل المنهاج، وبعض الدروس مررنا عليها مرور الكرام بسبب ضيق الوقت، لكنّها كانت من ضمن الدروس المخصّصة للامتحانات”.
ونيرمين واحدة من تلامذة مدارس رسميّة كثر، لم تكن الأعوام الدراسيّة السابقة على أحسن ما يرام معهم، على رغم كمّ التعب الهائل والكبير الذي بذلوه لتقطيع هذه المرحلة بأقلّ خسائر ممكنة. وبخاصّة أبناء القرى القريبة من الحدود والذين عايشوا تفاصيل الحرب منذ الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، ونيرمين ابنة بلدة كفرا (قضاء بنت جبيل) واحدة من هؤلاء التلامذة والطلاب.
تقول: “اليوم بتّ في مرحلة تعليميّة جديدة، أصبحت في الصفّ العاشر، لكنّني أعتقد أنذ قرار الأربعة أيّام تدريس لا يصبّ في صالحنا نحن الطلّاب، فإكمال المنهاج يحتاج إلى خمسة أيّام تدريس وليس أقل من ذلك”، وتختم: “نريد مستوى تعليم يليق بنا، ولا نودّ أن تظهر فوارق بيننا وبين الطلاب الآخرين، على مقاعد الدراسة الجامعيّة”.
كذلك الأهالي
وفي حين باتت المدارس الخاصّة تستقبل عددًا أكبر من التلامذة، ما يقدّر بأكثر من 75 في المئة، إلّا أنّ عائلات كثيرة ما زالت تعتمد على المدرسة الرسميّة في تعليم أولادها، لا سيّما من أبناء الطبقة الفقيرة في لبنان.
تقول السيّدة وفاء طعمة من عين بعال (صور): “منذ بدء الأزمات في لبنان، وبخاصّة أزمة كورونا، تأثّرنا كثيرًا بكلّ العوامل المحيطة، وكلّ ما مرّ بنا”. وتضيف لـ “مناطق نت”: “كنت مضطرّة إلى نقل اثنين من بناتي، من مدرستهم الخاصّة إلى أخرى رسميّة، أمّا الصغار فقد امتنعت عن إرسالهم لعام كامل، لأنّني لم أتمكّن من تأمين متطلّبات المدرسة آنذاك”.
طعمة أمّ لثلاث بنات وطفل، متضرّرة بسبب الأزمات المتتاليّة التي عصفت بالبلاد، تقول: “لا أوافق قرار الأربعة أيّام، إذ إنّه قرار سيّء، لم يتمكّنوا من إكمال المنهاج العام الماضي، وهذا ما يبدو سيتكرّر خلال العام الجديد، فالأيام الأربعة لن تتيح إنهاء المنهاج بالكامل”.
هناك وجهة نظر تربويّة تقول إنّ حلّ الأزمة لا يكون باللجوء إلى تقليص عدد أيّام التدريس، وإنّما بتأمين التمويل الكافي لتغطية رواتب الأساتذة العادلة
بالمقابل تقول السيّدة مريم حمّود من مدينة صور لـ “مناطق نت”: “على رغم كلّ الظروف الصعبة، نشكر الله أنّ أولادنا يتابعون دراستهم راهنًا، فلا قدرة لنا على تسجيلهم في مدرسة خاصّة، والأساتذة يبذلون جهودًا كبيرة مع التلامذة”، وتضيف لـ “مناطق نت”: “لديّ ثلاث بنات أطفال، ميريام (10 سنوات) ومانيسّا (ثماني سنوات) وفاطمة (أربع سنوات) ودائمًا أنظر إلى الأمور بإيجابيّة؛ ما يحصلن عليه من تعليم هو أفضل الممكن في ظلّ الظروف الاستثنائيّة التي تمرّ بها البلاد”.
فجوة تعليميّة مناطقيّة
المؤسف أن ما جرى ويجري حتّى اليوم يؤدّي إلى اتّساع الفجوة التعليميّة بين الرسميّ والخاص، يقول نعمة: “ظهور الفجوة بينهما سابق للأزمة، علمًا أنّ المدارس الخاصّة، ولا سيّما النخبة منها، كانت قادرة على تعويض الفاقد التعليميّ، وإلى حدّ كبير”.
وهذا الأمر يمكن ملاحظته في المناطق ذات الكثافة الفقيرة، مثل الشمال وعكّار، وكذلك بعلبك الهرمل وبعض بلدات البقاع الغربيّ، فإنّ غالبيّة التلامذة والطلّاب فيها تنتسب إلى المدارس الرسميّة؛ 40 في المئة من تلامذة الرسميّ في منطقتيّ الشمال وعكّار، وهي نسبة كبيرة جدًّا، تساوي حوالي 110 آلاف تلميذ، يخسرون سنويًّا معارف ومهارات، ما يعمّق الفجوة أكثر بين المركز والأطراف. وينعكس بالتالي على مدى تهميش المناطق وانخفاض التنميّة فيها.
تراجع الالتحاق بالتعليم
ترافقت هذه التأثيرات بتراجع جودة التعليم والالتحاق به، ويؤكّد نعمة أنّ “نسبتها وصلت إلى 22 في المئة”، وهي نسبة غير مسبوقة في التعليم الرسميّ، مقابل نسبة التحاق “تتراوح بين 75 إلى 78 في المئة في التعليم الخاص”. ومن جهة أخرى، ارتفعت نسب التسرّب المدرسيّ، بسبب عدم قدرة الأطفال على متابعة المنهاج والدروس، وتفضيل بعض الأهالي إدخالهم في سوق العمل لتأمين دخل إضافيّ لعائلاتهم الفقيرة.
الحل موجود ولكن
هناك وجهة نظر تربويّة تقول إنّ حلّ الأزمة لا يكون باللجوء إلى تقليص عدد أيّام التدريس، وإنّما بتأمين التمويل الكافي لتغطية رواتب الأساتذة العادلة والمحقّة، تكفي كي يعيشوا حياة كريمة تؤمّن احتياجاتهم الحياتيّة الأساسيّة من مأكل ومشرب وطبابة وتعليم، وبالتالي المعادلة تكون كالآتي: خمسة أيّام تدريس ومناهج كاملة مع تحسين واقع الأساتذة.
ويُحيلنا هذا الواقع، إلى البحث عن كيفيّة معالجة هذه المسألة على المدى الطويل، يقول نعمة: “علينا استعادة انتظام العام الدراسيّ وتفعيل كامل المنهاج، ووضع خطّة شاملة مشتركة بين جميع الوزارات المعنيّة، التربية والشؤون الاجتماعيّة والاقتصاد والعمل والمال، إذ تتداخل بينها المهام، وكذلك استعادة منظومة التعليم القديمة في عهد فؤاد شهاب لجهة هيكليّة توظيف المعلّمين والرقابة والتفتيش والتعليم وحقوق المعلّمين” وبالتالي تصحيح كلّ الخلل الحاصل في هذا القطاع.