جامع بليدا الأثريّ ذاكرة جنوبيّة غدت ركامًا

لم يكن يوم الـ 14 من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2024 عاديًا في حياة أبناء بليدا الحدوديّة، ففي ذاك اليوم سرّب جنود الاحتلال الاسرائيليّ “ڤيديو” يظهر تهديم مسجد بليدا الأثريّ والحارات القديمة المحيطة به قبل تجريفها بالكامل.
لا تقلُّ الخسائر في الإرث التاريخيّ والمعماريّ فداحةً عن الخسائر الأخرى، فالتراث هو ذاكرة الأماكن الإنسانيّة، تقف بصمت لتحفظ الحكاية وتعيد صياغة الزمن. لم يسلم جامع بليدا أو ما يعرف بمسجد النبي شعيب، وهو أقدم مسجد في جبل عامل من الحرب التي اندلعت في الثامن من تشرين الأول 2023، فاستسلمت حجارته إلى قدرها المشؤوم وتحوّل المسجد بكلّ ما فيه إلى كومة من ركام، أسدلت الستارة على معلم تاريخيّ وأثريّ مميّز موغل في الزمن، سيفتقده الجنوب وتراثه.
معلم غامض يختزن الأسرار
يقع جامع بليدا على هضبة تُشرف على سهل الحولة، ويُعدّ من أقدم وأغنى المعالم الأثريّة والأكثر غموضًا في جبل عامل. أُجريت حوله دراسات عدّة تناولت عمر البناء، وظيفته الأساسيّة، والرموز التي تزيّن جدرانه، وهي تفاصيل جعلت منه صرحًا فريدًا أدرجته وزارة الثقافة اللبنانيّة على لائحة الآثار.

في كتابه “بليدا، بين الماضي والحاضر”، يوضح الشيخ علي سليم أنّه لا وجود لكتابة ظاهرة على جدران المسجد تُؤرخ سنة بنائه، خلافًا لما كان شائعًا في تلك الحقبة.
وفي حديث إلى “مناطق نت” يُقدّر كلّ من المهندس موسى شمس الدين، والأستاذ في مديريّة الآثار اللبنانيّة وفيق علّام، أنّ تاريخ بناء جامع بليدا يعود إلى ما لا يقل عن ألفي عام. هذا العمق الزمنيّ جعل المسجد أكثر من معلم دينيّ.
جذور ضاربة في الحضارات
في ذاكرة أبناء البلدة، “اليهود” كما يسمّيهم الجنوبيّون، هم الذين تطاولوا على المسجد في الماضي. وعلى رغم غياب الأدلّة الحاسمة على تلك الرواية، فإنّ تحميلهم المسؤوليّة يبقى حاضرًا في الوجدان الشعبيّ، بخاصّة بعدما دمّروا الجامع بالكامل في الحرب الأخيرة، في سياق محاولات متواصلة لطمس التاريخ ومحو أثره.
تشير المعطيات إلى أنّ المبنى لم يكن في أصله مسجدًا ولا كنيسة ولا كنيسًا يهوديًّا، بل صرحًا معماريًّا غامضًا تعود جذوره إلى حضارات أقدم عهدًا.

يرتفع البناء أكثر من ثمانية أمتار فوق سطح الأرض، بينما تمتدّ أسسه قرابة الـ 20 مترًا تحتها، مدعومة بأعمدة رخاميّة مثبّتة بالرصاص المذاب. وفي محيط الجامع عُثر على تيجان أعمدة مشابهة، ما يوحي بأنّ المبنى كان في الأصل جزءًا من معبد أو هيكل ضخم.
احتمالات بابليّة وفينيقيّة
أكثر ما يميّز جامع بليدا هي نقوش “فلكيّة” محفورة على جدرانه الخارجيّة، ما يكشف ارتباطًا وثيقًا بعلم الفلك الذي عُرف به الكلدانيّون. ويرجّح باحثون أنّ الصرح شُيّد في الحقبة البابليّة، وتحديدًا في زمن الملك نبوخذ نصّر الثاني (القرن السادس قبل الميلاد)، الذي امتدّ نفوذه إلى بلاد الشام وحاصر مدينة صور 13 عامًا. غير أنّ غياب الوثائق الرسميّة يبقي هذه الفرضيّة معلّقة بلا تأكيد.
تتضمّن النقوش الظاهرة على الجدار الغربيّ للمسجد أشكالًا فلكيّة مرتبطة بالكواكب، بينها المشتري، ما ينسجم مع الاكتشافات التي أثبتت أنّ البابليّين كانوا من أوائل من استخدم الرياضيّات لرصد حركة الكواكب وتحديد مواقعها. كذلك فإنّ موقع بليدا الجغرافيّ، القريب من صور والمشرف على طرق استراتيجيّة في بلاد الشام، يعزّز احتمال أن يكون المبنى في أصله صرحًا بابليًّا أو كلدانيًّا لأغراض دينيّة أو فلكيّة.
في المقابل، هناك من يرجّح أنّ البناء يعود إلى الحقبة الفينيقيّة، لكنّ هذا الاحتمال، شأنه شأن الفرضيّة البابليّة، يبقى بلا وثائق حاسمة تنفيه أو تثبته.
في ذاكرة أبناء البلدة، “اليهود” كما يسمّيهم الجنوبيّون، هم الذين تطاولوا على المسجد في الماضي.
فنّ عسكريّ وروح دينيّة
في كتابه، يلفت الشيخ علي سليم إلى أنّ طراز جامع بليدا وكيفيّة بنائه، إضافة إلى النقوش الداخليّة، خصوصًا في المحراب من الداخل، والمحرابين الصغيرين عند المدخل، فضلًا عن شكل القبو والقناطر والعقد، تشكّل جميعها نسيجًا فنّيًّا بديعًا، بالغ الجمال والإتقان. هذا الطراز يشبه إلى حدّ كبير مقام “شمعون الصفا” في بلدة شمع.
كذلك فإنّ الفتحات الصغيرة الموزّعة على جدران المسجد تكشف عن دور عسكريّ واضح، إذ يُرجَّح أنّها أنشئت لأغراض المراقبة والحراسة، بل وللاستخدام في الرمي عند الحاجة. هذا الطابع الدفاعيّ تؤكّده دراسات تشير إلى أنّ الموقع احتلّه الصليبيّون خلال حملاتهم على الشرق، وحوّلوه إلى حصن وثكنة للجنود، قبل أن يستعيد حضوره الدينيّ والاجتماعيّ بعد تحرير بلاد الشام منهم.
محطّات من الترميم
يذكر الشيخ الفقيه في كتابه “جبل عامل في التاريخ” أنّ الشيخ ناصيف النصار، توقّف في العام 1185هـ، عند مقام النبي يوشع، فنزل عن جواده وزار المقام، وكنّس الحضرة الشريفة بعمامته وبيده. وقال يومها: “إن رجعنا منصورين، لا بدّ من تجديد بناء هذا المقام الشريف”. وبعد أن خاض معركته مع عثمان باشا في واقعة الحولة، عاد وجدّد البناء، وفي تلك السنة أيضًا جرى ترميم مسجد بليدا، أيّ منذ نحو 240 عامًا.
لاحقًا، وفي العام 2003، وبعد اندحار الاحتلال الإسرائيليّ، خضع المسجد لعمليّة ترميم جديدة شملت توسعته وإضافة باحة كبيرة، بعدما تضرّر بفعل الحروب المتعاقبة.

الذاكرة الشعبيّة
يُعرف مسجد بليدا الأثريّ شعبيًّا بـ “مسجد النبي شعيب”، نسبةً إلى الاعتقاد السائد بين الأهالي بأنّ النبي شعيب مرّ بالمنطقة أو أقام فيها. بالقرب من المسجد تقع “بئر شعيب”، التي يعتقد السكّان أنّها الموقع الذي سقى فيه النبي موسى أغنام بنات شعيب. هذه البئر هي أيضًا إحدى النقاط الـ 13 المتنازع عليها مع الاحتلال الإسرائيليّ.
ويشير علي حسن، أحد أبناء البلدة، في حديثه لـ “مناطق نت”، إلى أنّ المنطقة المحيطة بالمسجد والبئر تضمّ مزرعة قديمة تُعرف بـ “مزرعة شعيب”، التي يُردّد الأهالي أنّها كانت مسكن النبي شعيب.
وعلى بعد كيلومترات قليلة، كان مقام “محيبيب”، الابن الأصغر للنبي يعقوب وشقيق النبي يوسف، والذي تعرّض مع البلدة التي تحمل اسمه إلى تدمير ممنهج. كذلك يوجد مقام “النبي يوشع” داخل الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
دور المسجد ومكانته الاجتماعيّة
يقول الشيخ علي سليم في حديث إلى “مناطق نت” إنّ مسجد بليدا كان على الدوام نقطة التقاء لأهالي البلدة في الأفراح والأتراح، إذ اجتمعوا فيه للصلاة والأدعية والمناسبات الإسلاميّة ومجالس العزاء، و شكّل في الأعياد وشهر رمضان ملتقى روحيًّا جامعًا.
أمّا حسن كعور، وهو شاب من أبناء البلدة فيوضح إلى “مناطق نت” أنّ المسجد كان الملتقى اليوميّ لأهل القرية جميعهم. ويضيف: “إنّ موقعه في الحارة القديمة، التي كانت تجمع معظم منازل القرية، لعب دورًا محوريًّا في جمع الناس، حيث كانوا يلتقون يوميًّا عند صلاتي الظهر والمغرب”.
المسجد بمرمى نيران الحرب
على رغم تضرره في بداية حرب “إسناد غزّة” في الثامن من تشرين الأوّل 2023، استمرّ مسجد بليدا بتأدية دوره الأساس، حيث كان الأذان يصدح فيه عند كلّ صلاة، وبقي نقطة تجمّع للأهالي في خضّم تلك الأيّام العصيبة، إلّا أنّ آلة الدمار الإسرائيليّة لم تكتفِ في استهدافه بالقذائف المدفعيّة، بل تجاوزت ذلك إلى تدميره وتجريفه بشكل شبه كامل مع توسّع العمليات العسكريّة في أيلول (سبتمبر) العام الماضي.
الارتباط بالذاكرة الجماعيّة
يشير الشيخ علي سليم إلى أنّه “خلال عدوان تمّوز (يوليو) 2006، بقي بعض الأهالي صامدين في المسجد، ما ترك في الذاكرة الجماعيّة شعورًا بالأمان والارتباط بالأرض”.
وفي حديث إلى “مناطق نت”، يرى رئيس بلدية بليدا حسّان حجازي أنّ الاعتداء الذي طال المسجد يأتي ضمن سياسة العدوّ الإسرائيليّ في طمس آثار وهويّة المنطقة.
جهود لإعادة البناء
ويشير حجازي إلى أنّه يجري حاليًّا التعاون مع نقابة المهندسين في بيروت وعدد من أبناء البلدة من المهندسين لإعداد دراسات حول كيفيّة إعادة بناء المسجد على الطراز الأصليّ، في محاولة للحفاظ على ما تبقّى منه. إلّا أنّ “الدراسات وحدها لا تكفي، بل يجب توفير مصادر تمويل. ونحن نحاول التواصل مع جهات مانحة مهتمّة بالشؤون التراثيّة والأثريّة، لذلك الغرض”.
ما لم يدركه العدو أنّ ذاكرة الجنوبيّين عصيّة على النسيان، مهما دمّر وجرّف وأحرق. كلّ هذا لم يزدهم إلّا حرصًا على توثيق التاريخ أكثر من أيّ وقت مضى. فحتّى وإن كانت المعاهدات والقرارات الدوليّة التي تُلزم حماية التراث الثقافيّ خلال النزاعات المسلّحة لم تستطع صون مسجد بليدا، فإنّ الأهالي بالتأكيد سيحفظونه، ولو بالذاكرة.