“جيولوجيا حكاية” في بعلبك.. مسرح من طين وذاكرة

في رحاب “مجلس بعلبك الثقافيّ”، حيث تتقاطع ذاكرة الحجر مع أصوات الحاضر، قدّمت “فرقة كهربا” عرضها “جيولوجيا حكاية”، الآتي من البرتغال إلى مدينة الشمس. العمل لم يكن تقليديًّا، ولا لفظيًّا، بالمعنى المعتاد، بل كان أشبه برحلة وجوديّة تُخاطب الحواس قبل الأذن. على الخشبة، لم يكن هناك نصّ يُتلى، بل نصّ آخر يتشكّل من الطين والجسد والحركة والصوت، فيصير المسرح مختبرًا للمعنى أكثر منه فضاءً للعرض. كلّ تفصيل صغير، كلّ حركة جسديّة، كلّ لمسة على الطين، كانت دعوة للتأمّل في الزمن والذاكرة والمكان.
من خلال تقنيّة تشكيل الطين وصناعة السيراميك، ينفتح العمل على جذور الحكايات الخرافيّة وأصولها العميقة التي عبرت الحضارات وتحوّلت مع الزمن. شخصيّتان رئيستان تتولّيان مهمّة استدعاء هذا الموروث، فتقودنا إلى أجواء الأساطير الأولى، حيث يتجاور الحلم مع المادّة، ويصبح الطين مرآةً لخيال الإنسان منذ بداياته.
لا يُختصر الأمر، على الخشبة، بالأداء الجسديّ، بل يمتدّ إلى رسم حيّ، ونحت يتكوّن أمام أعيننا، فيتحوّل المسرح إلى ورشة كونيّة صغيرة. هنا يمتزج فنّ السرد بالرقص، وقولبة الطين بتحريك المنحوتات والموادّ والأصوات، ليعيدنا البطلان إلى سلالة الحكايات الأولى، إلى ذلك الأصل الذي ما زلنا نبحث عنه في أعماقنا.

بين الحكاية والسؤال
يُقال إنّ كلّ حكاية تبدأ لسؤال، وكلّ سؤال يعود إلى مادّة أصليّة تسبق اللغة. قبل الكلمة كان الطين، وقبل السرد كان الأثر. المسرح هنا لا يقدّم رواية جاهزة، بل يكشف طبقات خفيّة من الوجود، كما لو أنّه يزيح الغبار عن الروح. أمام هذا الفضاء، يصبح المشاهد شريكًا في التنقيب، باحثًا عمّا يتجاوز المتعة الجماليّة نحو معنى الكينونة نفسها، ونحو جوهر الوجود الذي يُولد في الصمت قبل أن يتجسّد في الحركة والصوت.
حين يلامس الطين يد الصانع، لا يبقى مجرّد مادّة خام، بل يتحوّل إلى ذاكرة حيّة قابلة لإعادة التشكيل. كان الطين يتفتّت ويُعاد بناؤه، فيستحضر تاريخ الإنسان ذاته: هدمًا وإعادة بناء، موتًا ثمّ بعثًا. وهنا يلتقي الجسد الراقص مع اليد الصانعة ليخطّا نصًّا فلسفيًّا بلا كلمات، نصًّا يذكّرنا بأنّ أصل الكائن ليس اللغة بل الأرض نفسها، وأنّ كلّ أثر، مهما بدا بسيطًا، قادر على سرد قصّة أعمق من الكلمات.
استلهم العرض من الفلسفات القديمة، بخاصّة تلك التي ترى أنّ الكائنات ليست منفصلة عن الكون، بل هي جزء من نسيجه الممتدّ. فالحكايات التاريخيّة لم تُروَ كقصص مسطّرة، بل تكوّنت أمامنا جيولوجيًّا، كما تتكوّن الجبال من تراكم الأزمنة. كلّ حركة جسديّة كانت مسارًا داخليًّا، وكلّ تشكيل بالطين كتابةً جديدة على وجه العالم، كتابة تنبض بالحياة والتأمّل في آن، كتابة تجعل المتفرّج يشارك في صنع المعنى لا مجرّد تلقّيه.
في بعلبك، حيث تختلط الثقافات والأصوات، بدا العمل كأنّه يحرّر الجمهور من أسر اللغة ليعيده إلى لغة أعمق: لغة الجسد والإيماءة والتراب.
عرض عابر للّغات
ما يميّز هذا العرض هو أنّه عابر للّغات، محرَّر من النصوص المنطوقة. في بعلبك، حيث تختلط الثقافات والأصوات، بدا العمل كأنّه يحرّر الجمهور من أسر اللغة ليعيده إلى لغة أعمق: لغة الجسد والإيماءة والتراب. كلّ حركة هنا كانت تحمل دلالات مزدوجة، حركة جسديّة تؤثّر في الطين وتغيّر شكله، وفي الوقت نفسه حركة روحيّة داخل المشاهد، تفتح بوّابة إلى فهم الذات والآخر والزمن. إنّه مسرح يتوجّه إلى العين والروح قبل الأذن، وكأنّه يهمس: “الحكاية ليست ما يُقال، بل ما يُعاش”. وهكذا بدا العرض قريبًا من كلّ مشاهد، مهما اختلفت لغته أو ذاكرته الخاصّة.
داخل قاعات المجلس الثقافيّ، بدا العرض امتدادًا للحجارة الرومانيّة التي تطوّق المدينة، وتخفي بين ثناياها قصصًا متراكمة منذ آلاف السنين. وكما تحكي الأعمدة عن حضارات سابقة، حكى العرض عن إنسانيّة كونيّة لا تختزل بجغرافيا أو زمن. الطين هنا كان صلة وصل بين الأسطورة والتاريخ، بين جسد الفنّان والذاكرة الجمعيّة، بين السؤال الفلسفيّ والدهشة الجماليّة. كلّ منحوتة، كلّ لوحة تُرسم مباشرة أمامنا، كانت تأكيدًا على أنّ كلّ أثر له حياة، وأنّ كلّ حركة تُترك على الطين هي جزء من سلسلة زمنيّة ممتدّة لا تنتهي.
أنفسنا طبقات من الطين
جيولوجيا حكاية ليس عرضًا يُشاهد وحسب، بل تجربة تُعاش. إنّه دعوة إلى الغوص في هشاشة الروح البشريّة وصلابتها، في قابليّتها للتفتّت ثمّ النهوض مجدّدًا. وربّما تكمن فلسفته الكبرى في أن نرى أنفسنا طبقات من الطين، والحكايات نُكتب ونُمحى، لكنّنا نعود دائمًا إلى الحركة، إلى الرقص، إلى إعادة تشكيل المعنى. كلّ مشهد، كلّ تفاعل مع الطين أو الجسد أو الصوت، كان يشكّل حلقة في سلسلة أكبر من الحكاية، سلسلة تربطنا بالأرض والزمان والأسطورة.
في ختام العرض، لا يغادر المشاهد حاملًا معه يقينًا أو أجوبة نهائيّة، بل إحساس أثقل بأنّ وجوده ذاته جيولوجيا معقّدة، مكوّنة من طفولة وذاكرة وتجارب وانكسارات. العرض لم يقدّم حكمًا، بل أشار إلى أنّ المعنى يتكوّن كما يتكوّن الطين بين يديّ صانع مجهول. وهنا تكمن أهمّيّته في أنّه يدعونا إلى الإصغاء بدل الحكم، وإلى مراقبة ما يتشكّل فينا كما نراقب ما يتشكّل أمامنا. كلّ إنسان في تلك اللحظة يصبح شاهدًا على نفسه، جزءًا من حكاية أوسع من اللغة وأقدم من التاريخ، حكاية تعيدنا إلى أصلنا الأول: حيث لا كلمة تسبق الطين، ولا وجود يكتمل بلا أثر، ولا معنى يكتمل إلّا بالمشاركة في صناعة الحكاية نفسها.