“ضوء في ظلال الخراب” تفكيك الذات في لوحات علي شمس الدين

في صالة Art District في الجمّيزة، يستقبل الفنّان اللبنانيّ علي شمس الدين جمهوره بمعرضه الجديد “ضوء في ظلال الخراب”. عنوانٌ بقدر ما هو توصيف بصريّ، هو أيضًا إعلان فلسفيّ: كيف يمكن للضوء أن يتسرّب من بين الركام؟ وكيف يمكن للخراب أن يتحوّل إلى مادّة للخلق؟ هذه ليست مجرّد أسئلة جماليّة، بل أسئلة وجوديّة تعكس مأزق الإنسان في لحظته اللبنانيّة والفلسطينيّة الراهنة.

شمس الدين، الذي عرفه الوسط التشكيليّ بهويّة بصريّة مستقلّة، يذهب هذه المرّة إلى أفق أكثر خطورة: تفكيك الذات على إيقاع الأحداث. كلّ لوحة هنا هي وقفة طويلة أمام سطح داخليّ متصدّع، يعكس وجوهًا متشظّية وأطيافًا متناحرة.
بين العبادة والإصغاء

يرسم شمس الدين في بلدته الجنوبيّة عربصاليم، حيث تلازم الأستوديو مع الذاكرة والبيئة. على مدى سنتين ونيّف أنجز لوحاته الكبيرة، متّكئًا على طقس خاص: جلوس أمام اللوحة كمن يتعبّد، الإصغاء إلى أغاني الجاز أو إلى أمّ كلثوم، رسم السكتش بدقّة صارمة، ثمّ التنفيذ كما لو أنّ اللوحة مشروع وجوديّ لا يحتمل التنازل.

هذا الطقس يذكّرنا بما يسمّيه الفيلسوف ميرلو- بونتي بـ”الجسد المتجسّد في الفعل”. هنا، الجسد- جسد الفنّان- يتحوّل إلى أداة إنصات، إلى وسيط بين الداخل والخارج، بين ما يحدث في غزّة وما يتداعى في ذاكرة الجنوب اللبناني.ّ

يرسم شمس الدين في بلدته الجنوبيّة عربصاليم، حيث تلازم الأستوديو مع الذاكرة والبيئة

فلسفة اللون

اختار شمس الدين الأكريليك دون تكثيف لونيّ مبالغ فيه. ليست الألوان هنا صاخبة أو صارخة، بل أشبه بطبقات شفّافة، كأنّها آثار جرح قديم أو ندبة زمنيّة. اللون لا يصرخ، لكنّه يهمس، يترك مجالًا للعين كي تكمل المعنى.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى اللون عند شمس الدين كفعل “استعارة حسّيّة”؛ اللون يرمز إلى ما بعده، إلى ما يتوارى خلفه. الأحمر يتجسد كـ “قمر الدمّ”، والأسود يتبدّى كـ “ظلّ الخراب” حيث يتسربّ الضوء.

طائر قماشيّ ووجوه ممزّقة

رمزية شمس الدين تنبثق من إرادة بناء خطاب بصريّ خاص، يتغذّى من الذاكرة لكنّه يعيد ترتيبها في منظومة علامات مغايرة. الطائر الرماديّ- الأبيض يتقدّم كجسد هشّ، أشبه بقطعة قماش مرقّعة، علامة على القابليّة الدائمة للتمزّق وعلى ذاكرة تُجزَّأ مثلما تُجزَّأ الأنسجة. هنا لا يحضر الطائر كأيقونة حرّيّة، بل ككائن يفضح هشاشة الوجود وتقطّع مساراته.

أمّا الوجوه والأيدي والأشجار والدخان، فتتوزّع كأيقونات تفكّك؛ الوجه يتحوّل إلى أشلاء متجاورة، اليد ترتسم كعلامة استغاثة وانتظار، الشجرة تشتعل وتستحيل إلى عمود نار. كلّ رمز يشتغل كبنية خطابيّة تكشف أثر السلطة والعنف على الجسد والذاكرة، حيث الصورة لا توثّق المشهد بل تفضح البنية التي أنتجته.

ما يلفت في تجربة شمس الدين هو أنّ عناوين لوحاته لا تأتي كأسماء معرّفة، إنّما كقصائد صغيرة ترافق الصورة وتفتح مسارها التأويليّ. فـ “قمر الدم وآلهة الحديد” يضعنا أمام صراع بين قسوة الميكانيكيّ ورمزيّة الكونيّ، بينما “ثنائيّة الأنا والعرش” تستحضر جدليّة السلطة والذات إذ يتحوّل العرش إلى عبء على الكيان الفرديّ. وفي “ولادة في حضرة الركام” ينقلب فعل الميلاد إلى حدث داخل الخراب لا في حضن الطبيعة، في حين أنّ “ربّات وحي قلق” تستحضر حضورًا أنثويًّا مضطربًا، حيث الوحي نفسه يرتجف.

أمّا “يوم زفاف قبل الرماد” فيقدّم تراجيديا الأمل المجهض، إذ إنّ لحظة الاحتفال تنزلق مباشرة نحو الاحتراق. بهذه العناوين الشعريّة، تتحوّل اللوحة إلى نصّ مزدوج، يجعل المشاهد يدخل إليها محمّلًا بنَفَس شعريّ قبل أن يتورّط باللون والخطوط.
صياغة التوتّرات

من معرض الفنان علي شمس الدين

تغدو تجربة شمس الدين كتابةً للداخل على سطح شديد الحساسيّة؛ مساحة تُعاد فيها صياغة التوتّرات الأولى للذّات تحت ضغط الوقائع. الوجه المرسوم يخرج كأثر انقسام، مكوَّن من شظايا تتجاور من دون وعد بالاكتمال، والطائر الهشّ يتقدّم كعلامة على قابليّة الجسد والذكرى للتمزّق، كأنّه رقعة قماش تحمل طبقات من الخدش والرأب معًا.

الدخان والأيدي والأشجار توزّع المشهد مثل علامات جغرافيا باطنيّة؛ يدٌ تنتظر أو تستغيث، شجرة تتّقد كعمود نار، ضباب يصعد من الركام حاملًا ما تراكم في الأعماق. هنا تعمل اللوحة كجهاز كشف: تفكّ عقد الصورة كي تخرج البنية التي صاغتها الحروب والخسارات، وتحوّل المشاهد من متلقٍّ إلى مُفسِّر يتتبّع خيوطًا خفيّة بين اللون والخدش والبياضات، حيث كلّ عنصر يصرّح بمصدر جرحه، وكلّ طبقة تُضيف سطرًا جديدًا إلى نصّ الذات وهي تتدرّب على احتمال العالم.

من خراب إلى الضوء

فلسفيًّا، ينخرط شمس الدين في مساءلة جوهريّة عن معنى الوجود حين يلامس الخراب تخوم الحياة. الخراب يظهر كشرط أنطولوجيّ لا كحدث عابر، فهو الإطار الذي يكوّن وعينا بالعالم، والحافّة التي يتكثّف عندها الشعور بالكينونة. في قلب هذا الشرط القاسي يتقدّم الضوء، لا بوصفه وعدًا بالخلاص، بل كإصرار على الاستمرار، كقوّة إبداعيّة قادرة على تحويل الفقد إلى مادّة خلق، وتحويل الرماد إلى سطح جديد للرسم. بهذا المعنى، يتأسّس العمل الفنّيّ كفعل مقاومة ضدّ التلاشي، وكخيار دائم في مواجهة العدم.

الخراب في هذه التجربة لا يتجلّى كواقعة سياسيّة أو اجتماعيّة وحسب، بل يتحوّل إلى صورة تتكثّف رمزيًّا. شمس الدين يعيد إنتاج العالم ليس عبر محاكاته، إنّما عبر بناء خطاب بصريّ يبتكر تمثيلات جديدة. كلّ لوحة تتقدّم كأيقونة استعارة، كصورة متخيَّلة تترجم أثر الفقد، وتُدخل المشاهد في فضاء يتأرجح بين الواقعيّ والمتخيّل. بذلك يصبح الخراب، في لغة شمس الدين، مرآة للخلق ذاته، وفضاءً يتيح للضوء أن يتسرّب، خارج قوالب الزينة، كجوهر يبرّر استمرار الصورة ويمنحها حياتها الخاصّة.

قراءة الصراع وتفسيره

من الجنوب إلى غزّة يتشكّل المعرض كجسر بصريّ يربط الجغرافيا بالمأساة، ويحوّل الألوان إلى أدوات قراءة للصراع. الأحمر يتكثّف كقمر دم يعلو فوق الركام، والرماديّ يترسّب كغبار ذاكرة، أمّا البياض فيأتي كمجال هشّ، يفتح فجوات للضوء كي يتسرّب في قلب العتمة. هكذا ينخرط اللون نفسه في بعد جيوستراتيجيّ، حيث لا يعود سطح اللوحة حياديًّا، بل أرض رمزيّة للصراع، ساحة يلتقي فيها وعي الجنوب اللبنانيّ مع جراح غزّة في خطاب بصريّ واحد.

هذا الاشتغال يجعل من علي شمس الدين مثقّفًا عضويًّا بالمعنى الغرامشي، فالفنّان عنده لا ينفصل عن واقع الناس ولا ينعزل في برج جماليّ، بل يمارس دوره في إنتاج خطاب رمزيّ موازٍ للميدان السياسيّ. لوحاته تتجاوب مع إرث عالميّ حمل لواء الصرخة نفسها: من غيرنيكا بيكاسو التي حوّلت الحرب الإسبانيّة إلى أيقونة احتجاج ضدّ القصف والتجويع، إلى سلسلة “كوارث الحرب” لغويًّا التي التقطت تفاصيل الجسد وهو يتفتّت تحت آلة العنف. في هذا السياق، تبدو أعمال شمس الدين امتدادًا لهذه السلالة الفنّيّة التي تفضح السلطة عبر اللون، وتعرّي العنف عبر الصورة، وتحوّل اللوحة إلى وثيقة مقاومة.

بهذا المعنى، لا يتعامل شمس الدين مع الفنّ كترف أو كحقل معزول، بل كمنبر رمزيّ يوازي البيان السياسيّ، وكجدار أخير يصمد أمام محو الذاكرة. اللوحة هنا ليست أثرًا شخصيًّا وحسب، بل مساحة جماعية للتضامن، ومرآة تكشف التواطؤ بين الخراب المحلّيّ والخراب العالميّ، حيث الجنوب وغزة يتجاوران كتوأمين في المشهد التشكيليّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى