ابن مغدوشة نقولا دانيال: فلّاح أرض لو لم أكن فنّانًا

اتّصالٌ دام واحدًا وعشرين دقيقة وستًّا وأربعين ثانية، كان كفيلًا ليس فقط بأن يعرّفنا إلى بعض تفاصيل حياة الممثّل اللبناني الرائد نقولا دانيال، بل أن يعلّمنا عنه كثيرًا أيضًا.
على رغم أنّ أسئلتنا لم تختلف كثيرًا عن تلك التي نطرحها عادةً في مقابلات هذه الزاوية، إلّا أنّ أجوبته أضافت ثِقَلًا خاصًّا لما ستقرؤونه في السطور المقبلة. سطورٌ اعتبرتها كاتبتها مرجعًا شخصيًّا، ستعود إليه كلّما احتاجت إلى ما يدفعها للاستمرار بتواضع وواقعيّة مع الذات والقدرات.
كالعادة، بدأت المقابلة من روتينه الصباحي:
– ما أوّل ما تفعله في الصباح؟
– أمارس التمارين الرياضيّة التي تعزّز قوّة جميع عضلات الجسم، وتلك التي تساهم في الحفاظ على الليونة.
– ما هي الأغنية التي لا تملّ من الاستماع إليها؟
– الأغنيات المصريّة القديمة، وكلّ أغنيات فيروز، ومواويل الراحل وديع الصافي. لكنّ هناك أغنية لوديع قريبة جدًّا إلى قلبي، كتبها ميشال طراد ولحّنها الأخوان رحباني، وهي: “رح حلفك بالغصن يا عصفور”.
– ماذا تقول للمبتدئين في مجالك؟
– كونوا صبورين. فمهنة التمثيل قاسية، تحتاج إلى عمل وكدّ ومثابرة. لا تستهينوا بالأمور، ولا تسمحوا للنجاح بأن يقودكم إلى الغرور. علينا احترام الأدوار التي نؤدّيها، والتعاطي معها بمسؤوليّة. التمثيل يحتاج إلى صبر وتواضع وممارسة وثقافة.
– هل هناك ممثّلون أو ممثّلات صاعدون تُعجب بقدراتهم وتتوقّع لهم مستقبلًا واعدًا؟
– لم أعمل مع ممثّلين صاعدين كي أبدي توقّعاتي. لكن عملت مع ممثلات صاعدات، منهنّ ستيفاني عطالله التي أعتبرها على الطريق الصحيح، سواء من ناحية الموهبة أو من ناحية تعاطيها مع الفريق الذي تعمل ضمنه. وهناك أيضًا ماريلين نعمان، هي من الوجوه الواعدة.
أنا لا أحكم على الممثّل أو الممثلة إلّا حين أعمل معهم، وأحكُم بناءً على أخلاقهم. الموهبة يمكن صقلها، لكن إن سيطر الغرور على صاحب الموهبة توقّف مكانه، بل تراجع، ولن يُقنع المشاهد بدوره. هناك بيت شعر أومن به كلّ إيمان:
“ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخ”.
– ما الشيء الذي لا تستطيع العيش من دونه؟
– الصحّة والعمل. أهمّ أمرين بالنسبة إليّ أن أكون بصحّة جيّدة تساعدني على الاستمرار في العطاء والإثمار.
– لو لم تكن فنّانًا، ماذا كنت لتكون؟
– فلّاحًا، أتعاطى مع الشجر والتراب.
– ما المكان الذي تهرب إليه عندما تحتاج إلى الراحة وماذا تعني لك مغدوشة؟
– إلى بيت الضيعة في مغدوشة، فهي قريتي التي وُلدت فيها، وهي ملعب طفولتي، والمكان الوحيد الذي أشعر فيه بالراحة حين أتواجد في حضنه. مغدوشة ليست مجرّد قرية انحدرتُ منها، بل هي أصحابي وأهلي، والمكان الذي دُفن فيه أحبّائي الذين سلبهم الموت منّي. أشعر أنّ مغدوشة بأكملها هي بيتي، وجميع أهاليها هم أهلي. أنا متعلّق بمغدوشة كثيرًا، وليس بمقدوري الابتعاد عنها، فضلًا عن أنّ بداياتي المسرحيّة والاجتماعيّة قد انطلقت من هذه القرية العزيزة.
– ما الشيء الذي ما زلت تحلم بتحقيقه؟
– لم تَعُد هناك أحلام كبيرة… هناك أمنيات فقط. أتمنّى الاستمرار في عملي، وتقديم الأدوار التي أحبّها، تلك التي تستهويني كممثّل وتحثّني على الذهاب إلى العمل بشغف واندفاع.
– هل تغيّرت بيروت، أم ما زالت تشبهك؟
– بيروت لم تَعُد تشبه نفسها! لم تَعُد بيروت التي نعرفها. كانت مدينة الناس والاختلاط، مدينة الثقافة والفنّ والكرم. لكن كما قال عمر الزعنّي:
«بيروت زهرة في غير أوانها
بيروت ما حلاها ومحلا زمانها
بيروت يا حينها ويا ضيعانها
تدبل على أمها وتموت».
اليوم، بيروت تذبل، وتفقد حياتها وطابعها الجامع للناس.
– اليوم في بيروت، كيف تصف المشهد التمثيليّ على الصعيد المسرحيّ والسينمائيّ والدراميّ؟
– المشهد كلّه قائم على مبادرات فرديّة. لم يُؤسَّس له ما يكفي ليعيش ويكبر.
مثال بسيط: أنا كنت مع أوّل دفعة قسم المسرح في “معهد الفنون الجميلة”، منذ 65 سنة… أليس من المفترض أن يكون القسم قد تطوّر وأصبح معهدًا بحدّ ذاته؟ لكنّه، مثل كلّ شيء في هذا البلد، يُؤسَّس ثمّ يُهمَل ويموت.
العاملون في التمثيل اليوم متّكلون على أنفسهم، من دون أيّ إسناد من الدولة. المسارح مثل “دوّار الشمس”، “المدينة”، و”المونو”، جميعها نشأت بمبادرات فرديّة. القائمون عليها اليوم يكافحون للحفاظ على استمراريّتها من دون أيّ دعم رسميّ. لماذا لا توجد مسارح ضمن البلديّات مثلًا؟
مثال آخر: تلفزيون لبنان. لماذا لا يحتضن المواهب الصاعدة والممثّلين المحترفين، ويسعى إلى إنتاج أعمال تجمعهم؟ الممثّلون اليوم يسافرون للتمثيل خارج لبنان، بمساعدة شركات الإنتاج الخاصّة.
من وجهة نظري، كلّ من يعمل في المسرح والتلفزيون والسينما اليوم هم أشبه بانتحاريّين، يعملون بـ “اللحم الحيّ”، بمجهودهم الشخصيّ.
اتّصالٌ أُجري ظهر يوم سبت، كان كفيلًا بأن يعيد إلينا قيمة الأشياء البسيطة التي تسرقها منّا الحياة اليوميّة السريعة والمنهكة. أقفل الأستاذ نقولا دانيال الخطّ، تاركًا إيّانا ممتنّين لحديثه، وللغصن والعصفور والتراب. وذكّرنا أن نبقي أقدامنا على الأرض، ورؤوسنا ليس إلى الأعلى، بل إلى الأمام.