هل ضمدّت صحافة طرابلس المحلّيّة منذ 1893 جروح التهميش؟

تهبط آلة الزمن عند مرفأ طرابلس، يعلو صفير “البابور” بينما تُحمَّل الحاويات إلى السفن. في إحدى الزوايا، كانت نسخ جريدة “صدى الشمال”، التي تأسّست العام 1925، تُحزم بعناية لتُبحر عبر المتوسّط والأطلسيّ نحو بوسطن، حيث ستقع بين يديّ جبران خليل جبران، ويداوم على قراءتها لسنوات.

وعلى هذا المرفأ، تلقّت طرابلس أوّل مطبعة كهربائيّة، أرسلتها السيّدة الزغرتاويّة نجيبة من مهجرها الأميركيّ إلى ابنها فريد أنطون، مؤسّس الجريدة، فسهّلت طباعتها.

في العام ذاته، تناقلت المدينة بإعجاب خبر ولادة مجلّة “روز اليوسف” من مصر، لصاحبتها فاطمة محي الدين اليوسف، التي نشأت في طرابلس يتيمة الأمّ، بعدما تركها والدها في كنف عائلة مسيحيّة. ثمّ عرض أحد المهاجرين إلى أميركا أن يصحبها معه، وتوقّفت الرحلة في الإسكندريّة، حيث استقرّت روز لتصنع مستقبلها. وبعد سنوات، أسّست الشابّة العشرينيّة أوّل مجلّة سياسيّة عربيّة عرفت باسمها، وكانت أمًّا لطفل سيشكّل حالة أدبيّة غير مسبوقة، اسمه إحسان عبد القدّوس.

غير أنّ الصحافة في طرابلس تعود جذورها إلى زمن أبعد، وشكلّت قطاعًا هو الأغزر والأقدم في الصحافة المحلّيّة بلبنان. عهد ذهبيّ ولّى إلى غير رجعة، فالوحيدة اليوم هي “الإنشاء” الصامدة إلكترونيًّا، بعد أن صدرت من طرابلس أكثر من 120 صحيفة ومجلّة، منذ العقد الأخير للقرن التاسع عشر.

“طرابلس الشام” وإشكاليّة أزليّة

في العام 1893، صدرت أوّل صحيفة طرابلسيّة، تحت اسم “طرابلس الشام”، وترأّس تحريرها العلّامة الشيخ حسين الجسر. يصحّ اعتبار اسم الجريدة، نبوءة لأقدار وتبدّلات الجغرافيا والسياسة التي ستحفّز صدور عشرات الصحف المحلّيّة في طرابلس. فالمدينة كانت تتمتّع بامتيازات عالية في إبّان الحقبة العثمانيّة، وترتبط عضويًّا بسوريا، وتمدّدت ولاءاتها في الداخل العربيّ، وساندت الحلم بوحدته، فيما أزاحتها الدولة اللبنانيّة الناشئة في الـ 1920 شيئًا فشيئًا إلى الهامش.

الصفحة الأولى من كتاب رياض طرابلس الشام

تحضر بيروت هنا، فالحديث عن الصحافة اللبنانية يُختصر أيضًا فيها، علمًا أنّ طرابلس كانت ثاني منطقة لبنانيّة أصدرت الصحف، بعد صدور “حديقة الأخبار” في بيروت على يد خليل الخوري العام 1858.

لقد جسّدت الصحافة في طرابلس منابر اعتراض وتوثيق، وثورة وألوانًا سياسيّة، وسخرية… هذه الصحف، عبر كثافة إنتاجها وتنوّعه، عكست ثابتًا واحدًا، إذ بقيت واقفة على خطّ النار بين جموح الانتماء إلى طرابلس من جهة، والهويّة اللبنانيّة المرتبكة من جهة أخرى. سيساعد التسلسل الزمنيّ على تتبّع وفهم تطوّر الصحافة المحلّيّة في طرابلس، هي نتاجه والشاهدة عليه.

صحافة الإصلاح والحداثة

كانت الانطلاقة من العهد العثمانيّ، بإذن من السلطان الذي كان اللاعب السياسيّ المهيمن. يروي الباحث في علم الاجتماع، الأستاذ محمّد سنجقدار، في كتابه “التراث الفكريّ الطرابلسيّ/ صحافة ومطبوعات 1893-2017″، أنّ العدد الأوّل من “طرابلس الشام”، صدر يوم الاثنين في الـ 13 من آذار (مارس) 1893، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، على يد محمّد كامل البحيري، وتولّى رئاسة التحرير أستاذه العلّامة الشيخ حسين الجسر.

سعت صحافة طرابلس إلى التميّز والأسبقيّة، فأطلقت نوعًا لبنانيًّا جديدًا يتعمّد الأسلوب الهزليّ الساخر والنقد الطريف

استحصل الشيخ الجسر على الترخيص بعد تأليفه كتاب “الرسالة المحمّديّة”، إذ دعاه السلطان عبد الحميد الثاني ضيفًا إلى اسطنبول، تكريمًا له، وهناك التقى أحد مؤسّسي حركة الحداثة الإسلاميّة، جمال الدين الأفغاني، الذي توسّط إلى السلطان لمنح البحيري الترخيص بتأسيس مطبعة “البلاغة”، وجريدتها “طرابلس الشام”.

وكان الخطّ التحريريّ للجريدة ترجمة لرغبة الشيخ حسين الجسر في نقل أفكاره الإصلاحيّة، ونَشَر المقالات الأدبيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة. وقد جُمعت افتتاحيّات الجسر في ما بعد في عشرة مجلّدات تحت اسم “رياض طرابلس”. والجدير بالإشارة أنّ “طرابلس الشام” صدرت أسبوعيًّا على مدى 27 عامًا (1893-1920)، وتوقّفت عن الصدور خمس مرّات بقرارات من الحكومة العثمانيّة، لمخالفتها توجيهات السلطان.

محاولات تميّز

تنبّه سجلّات الصحف الطرابلسيّة إلى أنّ نسبة كبيرة صدرت في أواخر العقد الأوّل من القرن العشرين، مستفيدة من الثورة الدستوريّة التي شهدتها السلطنة العثمانيّة العام 1908، ومنها “شمس الاتّحاد” لعبد الرحمن عزالدين، تيمّنًا بجمعيّة “الاتّحاد والترقّي”.

سعت صحافة طرابلس إلى التميّز والأسبقيّة، فأطلقت نوعًا لبنانيًّا جديدًا يتعمّد الأسلوب الهزليّ الساخر والنقد الطريف، وكان بمثابة كاريكاتور بالقلم قبل الريشة. ففي العام 1911، ولدت من طرابلس صحيفتا “السعدان” لمحمّد صلاح الدين، و”المدلّل” للشيخ منير الملك، وسننتظر إلى العام 1922 إلى حين ولادة جريدة “الدبّور” الساخرة في بيروت.

ألفيرا لطوف مؤسسة صحيفة “المستقبل”

قلّة تعلم أنّ أوّل صحيفة سياسيّة أصدرتها امرأة لبنانيّة، طبعت في طرابلس تحت اسم “المستقبل”، للأديبة ألفيرا لطّوف في العام 1938.

وكما “المستقبل”، انطلقت صحف عديدة من طرابلس، ثمّ انتقلت إلى بيروت، ولا يزال معظمها يصدر حتّى الآن مستفيدًا من أدوات وعلاقات العاصمة، أمثال “الأفكار”، و”الحوادث”، و”الانتقاد”، و”الأمان” التابعة للجماعة الإسلاميّة.

ومن المحطّات النوعيّة نذكر تأسيس بهاء المولوي “وكالة أنباء الشمال” العام 1951، بمثابة وكالة محلّيّة تزوّد بيروت بأخبار الشمال وبخاصّة طرابلس.

الجرح البيروتيّ

على رغم ديناميّة التبادل والتواصل الظاهرَين والتي ستستمرّ، حافظت العلاقة الصحافيّة بين طرابلس وبيروت، على غياب الندّيّة والتكافؤ، وتطوّرت إلى نوع من التنافر بين تركيبتين، الأولى جريحة مهمّشة، والثانية احتلّت المركز والضوء كقوّة طاردة.

تأسيًّا على هذه الفكرة، يمكن طرح السبب الأساس في زخم الصحافة الطرابلسيّة، على أنّه ومنذ نشوء دولة لبنان الكبير، وترسيخ مركزيّتها البيروتيّة، تبنّى صحافيّو طرابلس مطبوعاتهم على أنّها مشروع للانتماء البديل، فشكّلت منابر لإطلاق صرخات ضدّ الاقصاء وغياب الإنماء، لم تقيّدهم سياسة تحريريّة مناطقيّة، وأفردت لهم مساحات تعبير واسعة.

لقد تحقّق هذا الهدف، لكن بالتوازي تراكمت فراغات في الرواية الطرابلسيّة داخل المؤسّسات الإعلاميّة في بيروت، فبات عرفًا تقديم طرابلس وأخبارها في لبوس مشوّه وزوايا مبرمجة، تسخّرها توازنات داخليّة وحسابات إقليميّة على حساب سمعة المدينة. والحديث عن “مؤامرة إعلاميّة” ضدّ طرابلس، على الرغم من سيولته وشحنته العاطفيّة وتملّصه من المسؤوليّة الذاتيّة، يبقى حاملًا جانبًا من الحقيقة.

ثمّة استثناءات لم تقلب المعادلة، وحدثت داخل الصحف اللبنانيّة الصادرة من بيروت في منتصف القرن العشرين، حيث تناولت قضايا وأخبار طرابلس من خلال مراسلين ومكاتب مناطقيّة. وقد تميّزت صحيفة “اللواء” بملحقها “لواء الفيحاء والشمال”، وكان والدي، المرحوم عبد القادر الأسمر، من مؤسّسيه. كما يكشف الصحافيّ الراحل إدوارد الزغبي في مذكّراته أنّ مشروع “نهار الشمال” لم يرَ النور، على رغم حماسة جبران تويني للفكرة العام 1996، إذ فشل الملحق في الصدور بسبب مشاكل إداريّة وداخليّة.

صحافيّو طرابلس “درجة ثانية”

لم يكن الصحافيّون الطرابلسيّون يقلّون جدارة أو تفانيًا عن زملائهم في العاصمة، وجميعهم تخرّجوا من صحف طرابلس المحلّيّة وشاركوا في صناعتها. وعلى رغم ذلك، يعامل الصحافيّ والمراسل في طرابلس “درجة ثانية” مقارنة بنظيره البيروتيّ، وهو ما يعكسه تفاوت الأجور والموقع التحريريّ. والملاحظ أنّ السياسيّين نادرًا ما يتّخذون من الصحافيّين الطرابلسيّين مستشارين لهم، وينسحب الأمر على النواب والوزراء ورؤساء حكومة من طرابلس.

الشّرخ المادّيّ الذي أنتجته الحرب الأهليّة بين طرابلس وبقيّة المناطق، ترك أثرًا مصيريًّا على صحافتها المحلّيّة

ولا يغيب هنا، أنّ الشّرخ المادّيّ الذي أنتجته الحرب الأهليّة بين طرابلس وبقيّة المناطق، ترك أثرًا مصيريًّا على صحافتها المحلّيّة، فقد انقطعت الطرقات وتوقّف التوزيع خارج المدينة، وباتت أحداث طرابلس وأقلامها حبيسة نطاقها الجغرافيّ، ولم تتجاوز في أفضل الأحوال زغرتا والضنّيّة وعكّار والكورة. وهكذا تبلورت الصحافة المحلّيّة الطرابلسيّة كنتيجة لعزلها المادّيّ عن مركز القرار، وما ولّده من تغذية عائدة إلى شعور العزلة، وإن تصفّحنا آلاف الأعداد الصادرة على مرّ العقود، سنجدها تلهج بهذه العناوين.

العلاقة بطرابلس

تحيلنا هذه العلاقة بين طرابلس والسلطة والصحافة المركزيّتين، إلى العلاقة بين طرابلس نفسها والسلطة والصحافة المحلّيّتين.

سيصحّ إسقاط نظريّة بورديو هنا. لم يكتب عالم الاجتماع الفرنسيّ تحديدًا عن الصحافة المحلّيّة، إلّا أنّ مفهومه لـ “الحقل الصحافيّ” يمكن تطبيقه عليها. يرى أنّ كلّ مجال اجتماعيّ، بما في ذلك الإعلام، يخضع لصراعات بين قوى مختلفة، تسعى إلى فرض شرعيّتها الرمزيّة.

وفي سياق طرابلس، تخضع الصحافة إلى صراع بين مطالب مجتمع المدينة وبين تأثيرات المال والسياسة، ما يجعلها ساحة للتفاوض بين الواقع الاجتماعيّ المحلّيّ، وبين الزعامات والقوى السياسيّة المسيطرة، وسعيها إلى تثبيت خياراتها لدى الجمهور.

صحيفة “صدى الشمال” الطرابلسية

لا تختلف “استعمالات” الصحافة المحلّيّة بالنسبة لسياسيّي طرابلس عن أيّ مكان؛ التمويل لأجل الدعم والدعاية السياسيّة وتحشيد الرأي العام. ولا نكشف سرًّا حين نقول، إنّ جريدة “الرقيب” الطرابلسيّة التي أصبحت موقعًا إلكترونيًّا، هي الناطقة باسم آل كرامي، وإنّ “التمدّن” ميّزها نفس عروبيّ قريب من الراحل عبد المجيد الرافعي. أمّا “الأديب”، فدعمها “تيّار المستقبل” خلال سنوات ازدهاره واتّخاذه من طرابلس وعكّار خزّانًا لأصواته الانتخابيّة، و”البيان” حظيت بدعم الوزير السابق محمّد الصفدي حتّى اعتزاله.

تراجع الدعم السياسيّ

بيد أنّ جميع هذه الصحف، التي كانت تصدر بوتيرة أسبوعيّة، احتجبت بسبب تراجع الدعم السياسيّ. وتظهر اليوم صحيفة أو اثنتان فقط خلال الانتخابات للدعاية وتمرير الرسائل. مع الإقرار بأنّ الصحافة الورقيّة بالمجمل فقدت اهتمامها عند القرّاء، وصارت استثمارًا غير مجدٍ.

وقد تكون “الإنشاء” الجريدة الوحيدة المستمرّة، وتعمل جامعة “الروح القدس- الكسليك”، على حفظ أرشيف هذه الجريدة ورقمنته. تأسّست الإنشاء العام 1947 على يد المرحوم محمود الأدهمي، ويرأس تحريرها اليوم نجله الأستاذ مايز الأدهمي، الملقّب بـ “عميد الصحافة الطرابلسيّة”، الطاعن في التجربة والسنّ.

ويمكن تفسير افتتاحيّتها التي أحيت أخيرًا ذكرى وفاة جمال عبد الناصر، وتخصيص عدد كامل لثورة يوليو (تمّوز) 1952، بتمسّك النسخة الباقية من وجدان طرابلس بحنين عروبيّ، في ظلّ غياب مشروع سياسيّ محلّيّ بديل.

فلا شكّ أنّ الصحافة الطرابلسيّة أعطت السياسيّين أكثر ممّا أعطوها، سواء في حجم التمويل أو حتّى المكافأة المعنويّة، ما ليس مفاجئًا، إذ تعكس علاقة السياسيّين الطرابلسيّين بالصحافة المحلّيّة، علاقتهم بالمدينة وأهلها، القائمة منذ عقود طويلة على الزبائنيّة والتفقير والتعطيل.

وفي الأثناء، أسّس هذا الغياب وسرّع استمكان صحافة محلّيّة رثّة، تمثّلها مجموعات “واتساب” الخبريّة وصفحاتها على “فايسبوك”، لتتولّى اليوم السبق الصحافيّ، والتغنّي بهذا السياسيّ أو ذاك أو قدحه، وتصدّر هذه الصفحات حالات طارئة وشعبويّة، فتساعدها في صناعة الحيثيّة والظهور، مقابل بدل ماليّ زهيد.

صحيفة “الإنشاء” الطرابلسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى