الصحّة النفسيّة على وسائل التواصل سوق وتسليع و”ترند”

أصبح المشهد مثيرًا للريبة؛ فالصحّة النفسيّة تحوّلت إلى سوق تجاريّة مفتوحة. يمكنك الآن متابعة “إختصاصيّ نفسيّ” من أيّ مكان وفي أيّ وقت، هذا التاجر الجديد يفرد بضاعته على رصيف وسائل التواصل الاجتماعيّ، مع ديكورات جذّابة، وصوتيّات محفّزة، وإضاءة مبهرة تضمن سيولة البضاعة.
يعمل هذا “التاجر النفسانيّ” المحترف على إقناعك عبر فيديوهات قصيرة و”ريلز” بأنّ الوقت يداهمك، وسيقنعك بأنّ ما تعاني منه هو بالضبط ما يتكلّم عنه، ويختم نصيحته السريعة بعبارة “استشر متخصّص”– مع “هوليوود سمايل” وإبراز رقم هاتفه أسفل الشاشة.
هناك كثير من صفحات الدعم النفسيّ وتقديم النصائح للتعامل مع المشكلات النفسيّة على الـ “سوشيل ميديا”. تساعد هذه الصفحات في كسر حاجز الوصم وتطبيع الحديث عن الصحّة النفسيّة. عندما يرى الناس أنّ الحديث عن القلق والاكتئاب، أو حتّى الذهاب للمعالج هو أمر شائع ومقبول، يقلّ الخجل والوصم المرتبط بطلب المساعدة.
كذلك توفر هذه المنصّات معلومات أوّليّة ونصائح مبسّطة وسريعة ومجّانيّة لملايين الأشخاص ممّن لا يستطيعون تحمّل كلف العلاج أو الوصول إلى متخصّصين بسهولة، وتتيح للمستخدمين اكتشاف أنّهم ليسوا وحدهم في معاناتهم، ما يخفّف من العزلة ويوفّر شعورًا بالدعم من “مجتمع افتراضي”.
المشكلات النفسيّة معقّدة وفرديّة، تختلف من شخص لآخر، والمنشورات على السوشيال ميديا تختزل المفاهيم لضيق الوقت المتاح
تبسيط ومخاطر
لكن في هذه الفوائد المنتشرة والتي يتبنّاها جمهور عريض من المتابعين، تُبسّط بشكل مفرط لماهيّة الاضطرابات النفسيّة، ويلجأ المتابعون إلى التشخيص الذاتيّ، من خلال إسقاط ما يعانون منه على الأعراض التي يتكلم عنها المتخصّص في الفضاء الرقميّ، وهنا تكمن المخاطر، فالمشكلات النفسيّة معقّدة وفرديّة، تختلف من شخص لآخر، والمنشورات على السوشيال ميديا تختزل المفاهيم لضيق الوقت المتاح، وبهدف الوصول إلى شريحة لا تعرف كثيرًا عن العالم النفسيّ للإنسان، ووفقًا لهؤلاء المتخصّصين تصبح أمراض مثل الاكتئاب والقلق مجرّد “مشاعر سيّئة”، وهنا يجتاحهم سيل من النصائح في التغلّب على صعوبات الحياة.
يقول الدكتور إيلي أبو شقرا المحلّل النفسيّ المتخصّص في الاضطرابات الشخصيّة لـ “مناطق نت”: “لا ضير في تقديم النصائح على وسائل التواصل الاجتماعيّ، مثل تقنيّات الاسترخاء والتنفّس، وبخاصّة إذا توافقت مع المعايير المعترف بها عالميًا”. ولكن “من المهمّ أن يفهم هؤلاء المتابعون أنّ هذه النصائح مفيدة ولكنّها ليست بديلًا للعلاج الحقيقيّ”.
حذارٍ من منتحلي صفة
ليس من السهل التأكّد دائمًا من أنّ مقدّمي المحتوى مؤهّلون أكّاديميًّا أو مرخّصون. ربّما يقدّم شخص غير متخصّص نصائح ضارّة أو مضلّلة، لذلك يقول أبو شقرا “إنّ الألقاب التي يستخدمها هؤلاء تعتبر انتحال صفة، إذا لم يحصلوا على إذن مزاولة مهنة، وبحسب القوانين اللبنانية لا يحقّ لأيّ نفسانيّ ممارسة المهنة على الأراضي اللبنانيّة من دون أن يكون اسمه مسجّلًا في نقابة النفسانيّين وحاصلًا على إجازة مزاولة المهنة من وزارة الصحّة العامة”.
وتتطلّب شروط الحصول على هذا الإذن، بحسب أبو شقرا “أن يكون المتقدّم لبنانيًّا، حاصلًا على شهادة ماجستير في علم النفس العياديّ من جامعة معترف بها أو ما يعادلها. ويجب على المتقدم كذلك استيفاء شرط التدريب المكثّف، الذي يشمل ما لا يقلّ عن 100 ساعة تدريب في المراقبة و300 ساعة تدريب تطبيقيّ. بالإضافة إلى ذلك، يُشترط النجاح في امتحان الكولوكيوم الذي تجريه وزارة التربية والتعليم العالي”.
الشهادة الجامعيّة لا تكفي
وبرأي رئيسة نقابة النفسانيّين في لبنان، الدكتورة ليلى عاقوري ديراني، “يجب التزام المؤسّسات جميعها، محلّيّة وأجنبيّة، بالتعاقد حصرًا مع نفسانيّين حائزين على إذن مزاولة المهنة من وزارة الصحّة العامّة وفقًا للقوانين 8/2017 و254/2022، مع ضرورة فسخ العقود المخالفة، ومنع المؤسّسات الإعلاميّة، بجميع أشكالها، من استضافة أيّ نفسانيّ غير حاصل على هذا الإذن، وأنّ المخالف سيتعرّض للملاحقة القانونيّة”.
تكمن المشكلة الجوهريّة في هذه الصفحات أنّ هناك خلطًا كبيرًا بين المتخصّص النفسيّ (Psychologue) والمعالج النفسيّ (Psychothérapeute)، والشهادة الجامعيّة لا تكفي وحدها لتقديم نصائح قد تعرض حياة الناس إلى الخطر، بل يجب على المعالج النفسيّ تخطّي سنوات إضافيّة من التدريب على الإعداد العلاجيّ ومئات الساعات من المراقبة والعلاج الشخصيّ للذات.
تسليع و”ترند”
ينتقد محمّد الأمين المتخصّص النفسيّ في قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعيّ “هذا الغزو من قِبل من يسمّون أنفسهم ‘أخصّائيّين نفسيّين’ على وسائل التواصل، حيث تتّسم نصائحهم بالريبة والسطحيّة. فبين فيديوهات عشوائيّة، يسوّق هؤلاء لمهارات اكتسبوها ربما من ‘ملخّصات كتب التنمية البشريّة’ أو ورش عمل سريعة، متجاهلين العمق الفلسفيّ والسريريّ لمفاهيم أساسيّة، كالعلاج بالمعنى أو العلاج الوجوديّ (لفيكتور فرانكل ورولو ماي).
الأمين: هذا التسليع Commodification هو تحويل الصحّة النفسيّة إلى ‘محتوى‘ وتريندات (Trends) بهدف التفاعل أو الربح
الأدهى من ذلك، يقول الأمين لـ “مناطق نت”: “أنّهم يتناسون الأثر الدائريّ والمعقّد للعوامل السياسيّة والاجتماعيّة والوراثيّة على البنية النفسيّة. يختزلون قضايا نفسيّة حسّاسة في خمسة أشياء عليك فعلها، لديهم هاجس واضح في التصنيف والترتيب. كلّ شيء يتحوّل إلى قوائم: (إذا أعلى من 5، إذا انطبقت عليك 8 علامات، إذن أنت كذا وكذا)”.
يتابع الأمين “هذا التسليع Commodification هو تحويل الصحّة النفسيّة إلى ‘محتوى‘ وتريندات (Trends) بهدف التفاعل أو الربح، ممّا يقلّل من قدسيّة وخصوصيّة التجربة النفسيّة، ويؤدّي هذا الإغفال المتعمّد للسياق إلى تشخيصات سريعة وظالمة، في النهاية، إذا انجذبنا إلى الإعلانات التسويقيّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وصدّقنا ما فيها، ثمّ تبّين أنّها مجرّد ادّعاءات باطلة، فهل توجد طريقة للتعويض؟ أم سيجد الذي لجأ إلى العلاج النفسيّ نفسه مضطربًا أكثر من ذي قبل؟”.
معلومات مغلوطة
في السياق نفسه، يعتبر الدكتور أبو شقرا: “أنّ تقديم معلومات مغلوطة ربّما تؤثّر في حياة الناس، على سبيل المثال: كيف تتعامل مع الزوج النرجسيّ؟ أطلب الطلاق في حال ….، لا تتزوّج من هؤلاء الأشخاص، هذه الأمور تبدو سطحيّة ولكنّها تؤثّر بشكل سلبيّ في حياة الناس، ولذلك إذا كان هذا الشخص الذي يروّج لهذه المعلومات عضوًا في نقابة النفسانيّين يمكن استدعاؤه إلى التحقيق، ويمكن مقاضاته، حيث هناك قيود على المنتمين إلى النقابة تمنع هؤلاء من تسطيح المشكلات وعدم إطلاق الاحكام العامّة من دون الالتزام بموجبات المهنة وممارسة العمل النفسانيّ”.
وفي هذا المضمار يطلب الأمين من نقابة النفسانيّين: “سحب إذن مزاولة المهنة من تجّار هذه المهنة بمعزل عمّا إذا كانت مصرّحة لهم ممارسة المهنة من قبل وزارة الصحّة، ويطلّب: مراقبة الممتهنين وإجبارهم على مراعاة الأوضاع الإنسانيّة والاجتماعيّة للمحتاجين إلى هذه الخدمات، وعدم المزايدة في رفع كلفة العلاج النفسيّ”.
يوجّه الدكتور أبو شقرا رسالة إلى متابعي هذه الصفحات، فيها: “يجب أن يعرفوا ممّن يأخذون هذه المعلومات، هل هو متخصّص؟”. ويردف “يجب الدخول إلى موقع النقابة الإلكترونيّ والتأكّد من هويّة الشخص إذا كان ضمن لائحة النفسانيّين المعترف بهم. ولا يجب تصديق هذه المعلومات، لأنّها على عكس ما تبدو في أنّها توعية نفسيّة ربّما تشكّل تشويهًا نفسيًّا، ويجب التحقق من المعلومات المنشورة التي تقدّم تعميمات لا تناسب كثيرًا من الحالات”.
في المحصّلة، تتّضح الهوّة الشاسعة بين الشروط القانونيّة الصارمة التي تفرضها نقابة النفسانيّين ووزارة الصحّة العامّة على مزاولة المهنة، وبين واقع الغزو السطحيّ وغير المؤهّل الذي يشهده المجتمع اللبنانيّ عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ، ما يفتح الباب واسعًا أمام ممارسين غير مدرّبين، يعتمدون على تبسيط مخلّ لمفاهيم فلسفيّة ونفسيّة عميقة، ويسوّقون لحلول سريعة لا تقدّم سوى تراكم الشعور بالخذلان للمتضرّرين الذين يلجؤون إليهم بحثًا عن الأمان.