حيّ نازحي راميا ببيروت ملاذ قديم لجراحٍ لا تندمل

“أهلا بكم في راميا”، إنما ليست راميا الواقعة هناك، عند الحدود مع فلسطين المحتلّة، حيث “شلّع” الاحتلال اللافتة التي تدلّ على البلدة، بل هنا في قلب بيروت إذ حجزت راميا التي كانت نائية يومًا ما، مكانًا لها هنا في قلب العشوائيّات وأحزمة البؤس التي تُطوّق بيروت، حيث تشكّلت راميا أخرى قرب حيّ فرحات.

قبل تسعةٍ وأربعين عامًا بالتمام والكمال، وطأت قدما عبد صالح وعدد من أبناء بلدة راميا أرضًا بعيدة من قريتهم، عُرفت حينها باسم “حرج القتيل” في بيروت.

كانوا قد فرّوا من التعدّيات والتنكيل اللذين مارسهما المتعاونون مع الاحتلال الإسرائيليّ بقيادة سعد حدّاد في حينه ضدّ أهالي البلدة. لم يجد هؤلاء الفارّون من الموت مأوى لهم، فلجأوا إلى تشييد أكواخ متواضعة من الخشب والزينكو؛ أكواخ كانت تفيض بالمياه شتاءً وتلتهب بالحرارة صيفًا.

جانب من حي راميا في بيروت

مع مرور الوقت، وفي ظلّ اشتداد الحرب الأهليّة وغياب سلطة الدولة، راحت عشرات المساكن الصغيرة تنبت في تلك الرقعة. شيئًا فشيئًا، تحوّلت المحلّة إلى حيّ كامل حمل اسم “حيّ أهل راميا”، وأصبح جزءًا من مخيّم صبرا الذي كان يقطن في غالبيته لاجئون فلسطينيّون.

وراء كلّ زاوية من هذا الحيّ، الذي فُرضت نشأته بفعل التهجير القسريّ الإسرائيليّ لأهالي راميا في تشرين الأوّل (أكتوبر) العام 1976، حكايات يرويها الأوائل ممّن قطعوا مسافة تقارب الـ 150 كيلومترًا طلبًا للأمان.

بدايات الصراع والخوف

معاناة أبناء راميا لم تبدأ في منتصف السبعينيّات وترافقت مع التهجير، بل بدأت منذ أواخر الستينيّات. فبعد اتّفاقيّة القاهرة العام 1969 والتي أتاحت للمقاومة الفلسطينيّة العمل المسلّح من جنوب لبنان، انفتح الصراع مع

إسرائيل، ما جعل القرى الحدوديّة تعيش حالًا دائمة من الخوف.

في راميا، الواقعة على تخوم الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، شكّلت محاور البيّاض، وجبل المدوّر، وجبل بلاط خطوط تماسٍ دائمة، وصارت البلدة عرضةً للتوغّلات والاعتداءات الإسرائيليّة.

مع حلول العام 1976، اشتدّ النشاط الفدائيّ في الجنوب وترافق مع هجمات إسرائيليّة متكرّرة، فوجد كثيرون من الأهالي أنفسهم مضطرّين إلى ترك البلدة قسرًا واللجوء إلى بيروت.

كانت بيروت آنذاك تُعرف بـ “أمّ الفقير”، ولم تكن منطقة الرحاب- حيث يقع مخيّما صبرا وشاتيلا- سوى أحراج من الصنوبر.

كانت بيروت آنذاك تُعرف بـ”أمّ الفقير”، ولم تكن منطقة الرحاب سوى حرجٍ من الصنوبر

صدمة الدم والمجازر

في العام نفسه، وقعت جريمة هزّت وجدان الجنوبيّين. فقد عُثر على رجل من راميا يُدعى توفيق صالح مذبوحًا بين قريته وبلدة القوزح. كانت تلك المرّة الأولى التي يشهد فيها الأهالي موتًا بهذه البشاعة، فعمّت الصدمة القرى الحدوديّة.

تبع ذلك تنكيلٌ واسع، ثمّ مجزرة في بلدة حانين المجاورة، جعلت الأهالي يسهرون مترقّبين الأخبار طوال الليل. وبعد أسبوع واحد، وتحت وطأة الرعب، فرغت راميا من نحو 70 في المئة من سكّانها الذين انتشروا بين صور وبيروت. كان الهدف من المجازر واضحًا: تفريغ القرى الحدوديّة من أهلها.

نشوء حيّ راميا ببيروت

في بيروت راحت الحياة تدبّ تدريجًا في منطقة الرحاب. في البداية، شعر القادمون بالخوف من الأجهزة الأمنيّة التي منعت البناء، لكنّ قوى الأمر الواقع وفّرت الغطاء، فارتفعت المساكن واحدة تلو الأخرى، حتّى نشأ حيّ مكتظّ أُطلقت عليه تسمية “حيّ راميا”.

من أوائل العائلات التي استقرّت هناك: آل زيتون، خليل، صالح وعيسى. ظلّ هؤلاء يتنقّلون بين راميا وبيروت، وعملوا في المطاعم والفنادق وحراسة المباني السكنيّة طلبًا لعيش كريم.

في تلك الفترة، فرضت ميليشيا “سعد حدّاد” التجنيد الإجباريّ على شباب راميا، وفرضت على الأهالي تسليح فرد واحد من كلّ بيت أو دفع غرامة ماليّة باهظة. هذا الأمر أدّى إلى هجرة الشباب من القرية، ولم يبقَ فيها سوى كبار السنّ، فيما حُرم معظم الشبّان من العودة.

عودة مؤجّلة

بعد الانسحاب الإسرائيليّ الكبير في نيسان (أبريل) 1985، وتشكّل ما يُسمى الشريط الحدوديّ، واصلت ميليشيا أنطوان لحد ترهيب السكّان، ففرضت منع التجوّل من الغروب وحتّى الصباح. وبقي شبح التعذيب والاعتقال يلاحق المهجّرين ويمنعهم من العودة، فاستقرّوا في بيروت واندمجوا في أعمالهم وحياتهم هناك.

استمرّت الحال على هذا النحو حتّى العام 2000، حين انسحبت إسرائيل، فعاد كثيرون إلى قريتهم وبدأ التعمير فيها، لتستعيد الأرض زراعتها وشيئًا من روحها.

شهادات من الحيّ

“مناطق نت” زارت “حيّ راميا” في بيروت، والتقت أناسًا يحملون ذاكرة طويلة من التهجير والمعاناة.

يستعيد عبد صالح، الذي تهجّر العام 1976، تلك السنوات قائلًا لـ “مناطق نت”: “عشنا في بيتٍ من الزينكو عذابًا لا يُحتمل، لكنّنا تمسّكنا بالتعليم حتّى أكملت دراستي ونلت شهادة في الأدب العربيّ.”

أما لطفي عيسى، وهو من أوائل القاطنين في الحيّ، فيقول لـ “مناطق نت”: “ما دفعنا للقدوم إلى هنا قبل نحو خمسين عامًا هو الاحتلال الإسرائيليّ، وهو اليوم يعيد الكرّة ذاتها. حوّل البلدة إلى ركام وشرّد أهلها في أصقاع الأرض بعدما دمّر بيوتهم وزرعهم ومقوّمات عيشهم.”

ويختم بأسى: “التاريخ يعيد نفسه. القرى اليوم فارغة من أهلها، خالية من البشر والحجر، حتّى إنهم أعدموا الشجر. لجأ أبناء راميا مجدّدًا إلى حيّهم القديم الذي احتضنهم كما فعل قبل خمسة عقود”.

بلدة راميا بعد أن دمرها الاحتلال في الحرب الأخيرة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى