هل تهجّرني الحرب من بيتي مرّة أخرى؟

الظلام يلتفّ حولي، ظلام داكن يشبه ظلمة القبر، يضيق قلبي بما حمل، يصبح التقاط النفس، الشهيق، طريقًا شاقًّا تسكن فيه ذكريات حياة غير عاديّة، القمر متوارٍ هذه الليلة، وأنا أحبّ الضيعة، أحبّ السماء الواسعة فيها، والنجوم المتناثرة بين بقايا الغيوم، كلّ غيمة كانت تشبه شيئًا في طفولتي. سألت جدّي مرّة: لماذا السماء حمراء على هذا النحو؟ وقد كانت الساعة تزيد على العاشرة مساء، قال لي: هي امتصّت أضواء البشر جميعًا وأصبحت تشبه لون دم المريض. سألته: وهل دم المريض مختلف؟ قال نعم، يصبح مائلًا نحو الإصفرار، يشبه ورق الخريف المتساقط، خريف نهاية العمر.

الظلام من حولي موحش، وبيتي  في القرية لا تصله كهرباء المولّد، لأنّه في أعلى  الجبل، ولكن هذا لا يعني أنّني أعيش في ظلام، أبدًا، وضعنا بطّاريات كبيرة، وأنرت البيت كلّه.

ولكنّ الظلام يخيّم حول بيتي، الظلام موت، لولا مواء القطط المزعجة التي تشبه صرخات المتألّمين لاعتقدت أنّني أعيش في حياة أخرى.

سقفي عالٍ جدًّا، وغرفتي تتّسع لمنزل كامل، كلّ ما فيها ضخم، كرسيّ يشبه كرسيّ الملك، لا أجلس عليه، لا أشعر بالراحة، أسمع صوت المسيّرة وأنا في سريري، أكتب بعض هذه الأسطر، وكلّ مرّة أتخيّل أنّني أكتب رواية، أعتقد أنّها ستنساب كما هذه الحروف، فما تفيض به ذاكرتي كفيل بكتابة مجلّدات.

أعود إلى الحياة في بيروت، إلى صخب الدرّاجات الناريّة، إلى شعارات “شيعة شيعة”. أسأل نفسي: أنا أعرف أنّكم شيعة وأنتم في الضاحية، فلماذا تخبروننا أنّكم شيعة؟

اللّايقين والمسيّرة

ذاكرتي تخذلني، أصل إلى المطبخ وأنسى لماذا دخلت، وماذا كنت أريد؟…

أعود من جديد إلى تفكيري في اللّاشيء، في اللّامكان واللّازمان، في اللّاحقيقة واللّا إيمان واللّا إنسان، في اللّايقين…

أحرّك سبّحتي وأنا أنصتُ إلى صوت المسيّرة اللعينة، أضحت حساسيّتي تجاه الأصوات خطيرة، أتفقّد الشبابيك التي شرّعتها الحرب وكسرت أقفالها، أصلحها زوجي، ولكنّها ما زالت تصفر وقت الريح، وهو ما يزعجني، لا شيء يعود كما كان.

أشعر بثقل أصابعي، لا تستطيع مواكبة تطاير أفكاري، سيناريوهات الخوف تجلّل غربتي، فهذا المكان الآمن الذي كنت أترك الدنيا كي أصل إليه، أصبح مصدر خوفي، لا أستطيع أن أتحمّل صوت غارة واحدة، أخاف حتى من تخيّل الصوت، لم أعد أخجل، أقول أنا جبانة. لم يعد باستطاعتي أن أحمل قدميّ وأقف، أصبحت كنباتٍ هليوني ضعيف الحيلة، لكنّني أحاول الصمود أمام أولادي.

لم أستطع استيعاب كيف تغيّرت حياتنا بهذا الشكل، أكتب ولا أمحي حرفًا، ثقتي بأنّ من يقرأ سيفهم كلّ شيء. لا أعرف إذا كانوا سيشعرون بما أشعر! هل الخذلان شعور جماعيّ؟ لا أعرف، لا أحد يتكلّم عنه، هو من محرّمات كثيرة اعتدنا إخفاءها كي لا نبدو ضعفاء، ولكن أنا ضعيفة، هذا خلق الله، هو أرادني هكذا، وكلّما استجمعت قوّتي وجدتني شتاتًا أحاول لملمة ما يمكن جمعه من جديد.

“شيعة شيعة”

أعود إلى الحياة في بيروت، إلى صخب الدرّاجات الناريّة، إلى شعارات “شيعة شيعة”. أسأل نفسي: أنا أعرف أنّكم شيعة وأنتم في الضاحية، فلماذا تخبروننا أنّكم شيعة؟ أنا شيعيّة أيضًا ولكن لم أقل أبدًا في كلّ حياتي أنّني شيعيّة! فكّرت بوطأة هذه العقيدة، هل مكتوب علينا أن نرث قدر الإمام الحسين، ونستمر في الموت إلى ما لا نهاية، أو إلى نهاية نتشارك فيها الجنّة مع طوائف أخرى؟ هل سنقول لهم وقتذاك إنّنا شيعة؟ ماذا سيفعلون؟ هل سنخاف منهم أيضًا؟

هل سأترك بيتي مرّة أخرى؟ لا أريد، ولا أريد الموت أيضًا على النحو الذي عايشته في الحرب

الخوف أصبح ملازمًا حتى لأنفاسنا، الخوف من كلّ شيء، حتّى من الكلام. أصبحنا نخاف أن نحدّث أنفسنا، ويكون كلامنا كفرًا، ولكنّ إيماني بالله عميق، ولومي له أيضًا، لا أستطيع انتظار يوم الحساب، استعجل كلّ النتائج، أريد أن أرى ماذا يفعل بالقوم الظالمين؟!

أقوم من على سجّادة الصلاة، بعد أن تعثّرت مرارًا في ترداد الآيات. تركيزي لا يصمد أمام الأعاصير التي تعصف في خيالي والاحتمالات المفتوحة عليها.

هل سأترك بيتي مرّة أخرى؟

هل سأترك بيتي مرّة أخرى؟ لا أريد، ولا أريد الموت أيضًا على النحو الذي عايشته في الحرب. حتّى إنّي لا أريد الحياة وأنا أحمل أثقالًا على كتفي من الاضطرابات النفسيّة، التي لا أعرف كيف أخفيها، وكيف أكون قويّة. كذلك لا أريد لأولادي أن يرثوا خوفي، أن يرثوا وهَني، ولكن قدري يشبه قدرهم، هم ولدوا في المكان نفسه، ويمرّون بالتجارب عينها، يسمعون الأحاديث نفسها ويشعرون بالقلق عينه.

الفارق الوحيد، أنّ خوفي كان يختبأ في الملجأ، وهناك كنت أتسلّى بحكايا الكبار من ضيعتي، وأستمتع بمشاركتهم الطعام؛ اليوم لم يعد هناك ملجأ يحمينا من الجبروت الاسرائيليّ، لم يعد هناك خصوصّية لأحاديثنا، نخاف أن يسمعوها أيضًا، ويدّبروا لنا المكائد، ولذلك لا نتكلم…

الظلام يبتلع كلّ شيء

عندما يصبح الصمت هو الصوت الوحيد، أخاف من الظلام الملتفّ حول بيتي، حول بيوت جيراني، حول بلدتي، وقد يكون حول البلدات المجاورة أيضًا. الظلام يبتلع كلذ شيء، يبتلع الأمل والحبّ والفرح، يبتلع الحياة، حياة أصبحت محسوبة علينا، ونحاسب عليها، ولكنّنا لم نردها يومًا، أقول بسخرية لصديقتي، نحنا عنا carte blanche  إلى الجنّة، لأنّ الله حاسبنا قبل أنا نصل.

أسأل الله، هل هناك أسوأ ممّا نشعر به؟ وأجيب نفسي: ربّما أهل غزّة أو أهل اليمن أو أهل السودان، أو كلّ المعذّبين في الأرض، جماعات أو أفرادًا. ربّما تلبس المأساة ثيابًا مختلفة، ولكنّها مؤلمة.

هل كتب علينا العذاب؟ لكنّنا لم نكفر؟ لماذا لا نرى العذاب إلّا في بلادنا؟ هل في البلدان الأخرى لديهم إيمان أكبر؟ أو أن الله يمتحننا ويستمرّ؟ أليست هناك نهاية لكلّ امتحان؟ أسمع صوت المراقبة في الصفّ، تأخذ الورقة من يدي وتقول: الوقت انتهى؛ هل فعلًا انتهى الوقت؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى