قراءةٌ للعنف المتوارث: هل أنا مجنونةٌ حقًا؟

من الصعب أن أكتب وجعي كواحدةٍ من النساء. من الصعب جدًّا ألّا أبكي. لكنّني بدلًا من ذلك، أكتبُ على أيّ حال وأنتِ تخيّلي: أن تكوني مكبّلة اليدين محاصرةً داخل جدرانٍ لا تستطيعين الخروج منها، كم من الصعب أن تُسلبي إرادتكِ؟ تُتهمي بالجنون، بينما مُسبّبو الألم الأوّل أحرار طُلقاء، وأنتِ مُكبَّلة، مُلامة، تُرشقين بكلّ اتّهامات الذنب.
ميزة العنف اللامرئيّ والمتوارث أنّه مُحاكٌ بذكاء ليغدو غير موجود سوى لدى المُعنَّفة، بينما تُرشقين أنتِ بالحجارة. جراحك تنزف ولا يلوم أحدٌ سوى مشهد الدم على جسدك. إنّه مُستفز، إنّه لا أخلاقيّ، إنّه غير شرعيّ. أن تنزفي بعدما جُلِدتِ ولو معنويًّا. لو كان الألم مرئيًّا كالكدمات. لو أنّه يُرى. أو يُحسّ. لو أنّ أحدًا يُعطيه قيمةً أو شرعيّةً ما، ولو لم يكن الجنون تهمةَ القابعات على الهامش، المضرّجات بدمائهنّ، اللواتي يُحاكمن على عدائيّة أجسادهنّ بدلًا من مسائلة المُسبِّب؟ لكن لا، بدلًا من هذه الاحتمالات غير الواقعيّة، نسأل نحن أنفسنا: أأنا مجنونةٌ حقًّا؟ بينما أسأل نفسي: لمَ قد أبدو عدوانيّةً؟ لِمَ تُلبَس العدائيّة لباس العنف أحيانًا؟ هل يُتوَارث العنف حقًّا؟
الكتابة منفذي الأخير، حيث لا جدران تحدّني. يتسلّل الوسواس إلى عقلي، ويسألني مُجدّدًا: أأنا مجنونةٌ حقًّا؟ لا أستطيع إيقافه. وكلّ ما يحصل، يمشي وفق خططهم. لا حلول عادلة، ولا عدالة. هناك ميزانٌ وغربال يُفلتر الأفعال بحسب مصدرها، ولا يُبرّر ردّ الفعل. الغربال نفسه يُرمّم الأقوال العنفيّة، يجعلها أكثر ملائكيّةً وتجرّدًا من النوايا السيّئة كونها مجرّد “أقوال”، بينما يُشيطننا ويُظهرنا أكثر عدوانيّة. ديناميات السلطة: معرفة، تسلّط، سيطرة، مال، عرقٌ متفوّق، شهرة، وتلاعب. خلطةٌ من الامتيازات تعطيك شهادة الأحقّيّة الأبديّة بالتفوّق الأخلاقيّ و”العقليّة”، بلا رجعة، بينما لا نملكُ نحن إلّا أجسادنا وعندما نستخدمها للدفاع عن حدودنا الشخصيّة، نُجلَد. لذا، صوت السوط ليس جديدًا على أُذني.
إنّني كذلك أكتبُ ما أكتب، لكلّ أولئك غير المسموعات، الوحيدات، مَن يُحكم عليهنّ بسبب نبرة صوتهنّ، و”عدوانيّتهنّ”، ولي، كواحدةٍ منهنّ. سأقرأ العدوانيّة من كتاب المشرق، من الجالسات على الهامش، من “المجنونات”، من المُتّهَمات، وسأقرأ العدوانيّة لا كتُهمة، بل كنتيجة، مع سياقٍ متكامل، ربّما أُخطئ، ولا بأس بذلك، لكنّني أحاول، وسأحاول دومًا، أن أسمع مَن كان صوتهنّ خافتًا على رغم عُلّو نبرتهنّ، غير مرئيّ وغير شرعيّ بنظر الناس. وسنقرأ سويًّا العنف المتوارث، في محاولةٍ للإجابة على سؤال: لماذا قد يبدو العنف لا مرئيًّا؟
الوجه الآخر لـ “المُهسترات” و”المجنونات”
يعود الأصل الاشتقاقيّ لكلمات “هستيريا[1] “هستيريكوس” و”هستيرايك” إلى اليونان القديمة وتعني الرحم.

ولا تشير الكلمة إلى العضو نفسه فقط بل إلى إضفاء صفة المرض على الرحم. يرتبط هذا الإضفاء بنشأة النظام الأبويّ وما يُعرف بالنظام القضيبيّ. مثلًا؛ في المصطلحات التاريخيّة الطبّيّة، عند أبقراط في اليونان القديمة، وفي المصطلحات التاريخيّة التحليليّة النفسيّة، عند فرويد، كان الرحم يعني المتاعب. كان يُنظر إلى الرحم على أنّه مصدر رئيس للاضطراب والمرض. كان يُنظر إلى “ذوي الأرحام” على أنهنّ مصابات بهذه الأمراض.
غالبًا ما يُصوَّر من يوصفن بالهستيريا كضحايا تعساء[2] غارقين في مشاعر لا أساس لها، ممّا يُشوّه فهمهم للواقع تمامًا ويرتبط هذا التشخيص بالعاطفة المفرطة، وفقدان السيطرة، وعدم الاستقرار، ارتباطًا وثيقًا بالتأنيث الذي يُولّده مصطلح الهستيريا. لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أخذ المصابات بالهستيريا على محمل الجدّ. كذلك أصبحت الكلمة تحمل دلالةً عالميّةًّ لكلّ ما سبق.
سمعتُ كثيرًا عن قصص النساء “المجنونات”، “المُهسترات”، “فاقدات السيطرة والأهليّة”، تعاطفتُ معهنّ، تفهّمتهنّ، وكثيرات منهنّ عايشتهنّ. أمّي لبستها صفة الجنون أيضًا تحت معايير المجتمع، كذلك عمّتي، لكنّ عمّتي التي وُصفَت داخل عائلتنا بالمجنونة، كانت أولى مَن اشترت لي مزيلًا للتعرّق عندما كنت مراهقة، هي مَن فهِمت خوفي، مَن قالت لي أوّل “لا بأس” سمعتُها في حياتي، مَن طبطبت على كتفي واحتضنتني، هي مَن رَعَت العائلة بأكملها، عند المرض والجوع، حضّرت لنا أشهى الطبخات، ودَعَمَتني، أحبّتني، أشعرتني بهذا الحبّ في جسدي عندما كرهني الكلّ ونبذني من العائلة، هي نفسها، أول مَن وبّختني بقسوة عندما قصصتُ شعري وأنا في الخامسة من عمري، كان توبيخًا قاسيًا حتّى إنّني أذكره إلى اليوم.
شاهدتها تصرخ مرارًا، توبّخ الجميع وتنفعل خلال المشاكل العائليّة، شاهدتها في أكثر لحظاتها عدوانيّةً ترشق دزّينةً من الصحون الزجاجيّة أثناء الغذاء وتتطاير حولنا. لاحظتُ أيضًا أنّ صراخها بالنسبة إلى العائلة، كان لا مرئيًّا في أحسن الأحوال، وجنونيًّا هستيريًّا لا يُأخذ على محمل الجدّ في أسوأ الأحوال، تُلام عليه ويُرَد عليه بمزيدٍ من العنف المضاعف، الذي كانت تنهار أمامه أحيانًا.
لا أُبرّر العنف هنا، ولا أقول إنّه من الطبيعيّ إعادة إنتاجه، لكنّي أفتح الطريق لعدسةٍ جديدة نرى فيها العدائيّة، ونسمّي فيها العنف، ومن المهمّ برأيي أن نفرّقه عن العدوانيّة
أمي وعمّتي، ليستا مجنونتين
أمّي التي ردّت على العنف المُمَارَسِ عليها بعنفٍ أقلّ وأقلّ وأقلّ، لأنّه كلّ ما استطاعت فعله، لُقّبَت بأشهر “مجنونة مشلّفة” في العائلة. نوبات غضبها المتكّررة و”غير المبرّرة” بالنسبة إلى العائلة، لم تكن ردّات فعل لسلسلة من العنف الدائم والمتكرّر على مدى عشر سنوات وأكثر. هذا العنف نفسه، الذي مارَسَتهُ عَلَيَّ مرّاتٍ عديدة، الخوف الذي زرَعَته داخلي، والضربةُ التي جَعَلَت منّي خشبةً ممدّدةً على الفراش طوال اليوم، بينما ظلّت هي تبكي من بعدها يومين متتاليين، بَكَت معدتها قائلةً أنها لم تقصد. هي نفسها الشخص التي أحبّتني بلا شروط، طبخت لي على االرغم من أنّها لا تعرف شيئًا عن الطبخ، عملت أعمالًا مختلفة ومتعدّدة وغريبة، كي تكفيني قوت يومي لسنوات عدّة حينما كنتُ طفلة، بينما لم يسأل أحدٌ عنّي.
أمّي وعمّتي، ليستا مجنونتين، أوقن ذلك مليًّا. وأُدركُ أنّ الضربة على ظهري لا تمحي عمل أمّي لسنوات كي تكون بجانبي، لا تمحي حُبّها، كما صورة عمّتي “فاقدة السيطرة” لا تمحي شيئًا ممّا فعلَته لأجلي، لا تمحي أوّل حُنُوٍّ وحميميّة عائليّة وتعاطفٍ أحسسته وسط كلّ هذه القسوة.
لا أُبرّر العنف هنا، ولا أقول إنّه من الطبيعيّ إعادة إنتاجه، لكنّي أفتح الطريق لعدسةٍ جديدة نرى فيها العدائيّة، ونسمّي فيها العنف، ومن المهمّ برأيي أن نفرّقه عن العدوانيّة، ولا نَحمِل الصفة الأخيرة تهمةً للنساء كمثلِ الجنون.
تاريخ الهستيريا
تاريخ الهستيريا هو تاريخ النظام الأبويّ[3]. الهستيريا هي إحدى الطرق التي تُبرز من خلالها الجراح المؤلمة للنظام الأبويّ بوضوح – مسموعًا، ومرئيًّا، وجسديًّا، وأدائيًّا. من خلال الدراسات النسويّة حول الهستيريا، توصلنا إلى فهم طبيعتها المزدوجة: فهي من جهةٍ عرضٌ يُشخَّص من خلاله عنف النظام الأبويّ، ومن جهةٍ أخرى فعلٌ من أفعال التحدّي يكشف هذا العنف ويُبرزه ويُعرَف به من خلال أدائه. إذ تربط النسويّة الهستيريا بالنظام الأبويّ.
تقول آما جوزفين بادج[4]، وهي إحدى عضو منصّة ومجلّة “هستيريا” (hystericalfeminisms) في مقابلة مع مجلّة VICE: “كانت النساء اللواتي شُخّصت إصابتهنّ بـ”الهستيريا” يُسجنّ ويُدرَسن في مستشفى بيتيه- سالبيترير في باريس في القرن التاسع عشر. كانت الهستيريا في السابق عبارة عن ارتباطات روحيّة وقبليّة بين النساء في حالات النشوة، كما وُصفت المداويات بالهستيريا”.
ربّما أسمع صراخ عمّتي بطريقة مختلفة، وأراها مرئيّةً بجسدٍ وعينين وروحٍ وشخصيّة، أراها بصورةٍ متكاملة، لا باختزال. أفهم “جنونها”، وسأقف في صفّ هذا “الجنون” دومًا، ما دامت الصرخة لامرئيّة، واللوم يقع على جهةٍ واحدة، لا على سلسلةٍ متكاملة من العنف الممنهج. أفضّل أن أقف إلى جانب “المجنونات”، محاولةً فهمهنّ، عوضًا من أن أكون إلى صفّ مَن يتّهمهنّ بالجنون، كوني رأيتُ شيئًا منه، سطحيًّا منزوعًا من سياقه، بينما رأيتُ عكسه، آلاف المرّات بسياقات مختلفة وكثيرة.

عنيفات وعدوانيّات: لَسن نسويّاتٍ كفاية؟
أنا أيضًا، نُعتُّ كثيرًا بالمجنونة مُذ طفولتي، ولم أتواجه مع الكلمة، أخذتُها و”طنّشتُها”، كنتُ أستقبلها كمزحة سمجة، وأحيانًا كإطراء: مجنونة يساوي قويّة، تدافع عن حقّها؟ ربّما، حتّى كبرت. لاحقًا فهمت أنّها تُهمة، وفهمتُ أمّي وعمّتي أكثر، تنبّهت إلى العنف المتوارث وإلى غياب سياق العنف المركزيّ نفسه مع لوم الموجودات في حلقة التوارث ووصمهنّ، طبعًا لأنّهنّ الحلقة الأضعف والأكثر إتاحةً لتوجيه التهم، إنهنّ ببساطة، الأسهل للوصول مع أقلّ امتيازات ممكنة.
عندما وُجّه إليّ اتّهام الجنون لأوّل مرّةٍ بهذا الوضوح وهذه المباشرة، بعيدًا من فترة طفولتي، ووُصفتُ بالعدوانيّة والعنيفة، لم يكن إصبع الاتّهام مُنزّهًا، لم يكن مجرّدًا من ديناميّات القوّة، كان أبيض، جاء ليُعلّمنا/ ي، ليُسقط عليَّ صفة العدوانيّة والعنف كأنّني نشأتُ في لالاند خاليّة من العنف والحروب والتوحّش، جاء الإصبع متفاخرًا ساخرًا ليقيس نسويّتي بمعاييره البيضاء من دون أيّ سياق ومن دون أن يفهم؛ ماذا تعني العدوانيّة؟ ماذا يعني العنف؟ كما جاء مَن جاء معه، ليبرّر عدائيّتنا، ويُسمّيها عنفًا- وفقًا للمعايير الأوروبّيّة- وبدورنا نضطرّ دائمًا أن نبرّر أنفسنا للأبيض المتفوّق أخلاقيًّا ونسويًّا! نبرّر وجودنا، نبرّر حدّة لهجتنا، ونبرتنا العالية. كأنّنا نحاول طمأنته من عدوانيّتنا، وكأنّ هذه العدوانيّة، تسبح وحيدةً في فضاءٍ من اللاشيء، من “فطرتنا العنيفة والمبنيّة على العنف في الشرق الأوسط”. بينما نحن مديناتٍ له باعتذار عن حدّتنا.
هل من الصواب تجريد العنف من سياقاته؟ هل عدوانيتي تعني أنّي لستُ نسويّةً بما يكفي، لكنّني قبل هذا حتمًا كنتُ إنسانةً بما يكفي. مَن هي النسويّة المثاليّة، النسويّة الصالحة؟ النسويّة ذات المعايير الأوروبّيّة والليبراليّة؟ هل يجب أن أعتذر عن أن نسويّتي ليست مقنّعة؟ عن أنّي كنسويّة، أُخطئ؟ عن أنّي ربّما لستُ نسويّةً بما يكفي المستشرق؟
مهما تكن الأجوبة، أرى أنّي نسويّةً بكلّ رواسب العنف الخاصّة بمجتمعاتنا، مع كلّ العنف المتوارث، بكلّ هذا الدم والجثث المنثورة على أطراف شوارعنا، بالدم غير الشرعيّ على جسدي، بيديّ المكبلتين، مع انتزاع حقّي بالصراخ، بنبرتي الحادّة، بعدوانيّتي، بتجربتي، بوصمة المجنونات المهسترات وغير المسيطرات، نسويةٌ أكثر من أيّ نسويةٍ بيضاء أتت إلى بلادنا محاولةً تعليمنا ما هي النسويّة. وعليها هي، مسؤوليّة وضع قليلٍ من الجهد، لفهم كلّ ما سبق ذكره.
ربّما تحتاج نسويّتنا إلى النقد، وربّما نعترف بأخطائنا، لأنفسنا، لبعضنا، ربّما نقوم بمراجعةٍ ذاتيّة
ربّما تحتاج نسويّتنا إلى النقد، وربّما نعترف بأخطائنا، لأنفسنا، لبعضنا، ربّما نقوم بمراجعةٍ ذاتيّة، لكنّنا حتمًا، لن نخلع سياق العدوانيّة لأنّه يُخيف المستشرق/ة ويجعلنا أقلّ نسويّةً بالنسبة إليهم. بل الأجدى أن نفكّك هذه العدوانيّة ونفهمها.
قراءةٌ للعنف المتوارث
ماذا يعني العنف كفعل؟ كيف نقرأ العنف المتوارث كنساء مشرقيات؟
هذا العنف كلّه، يأتي مع سياقات، مع حروبٍ ومرويّات عائليّة، مع بيت، مع اضطهاد تواجهه الأقليات، مع ثقافة وموروثات ثقافيّة، لذا قد تختلف أشكال وتعريفات العنف من مجتمعٍ إلى آخر وعلينا أن نفكّكه كمجتمعات وفئات واقعٌ عليها هذا العنف، لا أن نستورد تعريفات غربيّة له من المُستعمِر نفسه. وهنا نستحضر فكرة النقد المزدوج عند عبد الكبير الخطيبي التي تناولتها نُورَة أُخَّرُو في دراستها[5]، والتي تركّز على نقد المركزيّات وتفكيكها، بالإضافة إلى نقد خطاب النقاء الهويّاتي الأصليّ الذي يتعارض مع واقع يشهد تعدّدًا وتعقيدًا ويرمي عبد الكبير الخطيبي في هذه الفكرة إلى فهم العالم من منطلق التعدّد. إذ يقول إدوارد سعيد[6] أيضًا إنّ “الأمم ذاتها تتشكّل من سرديّات ومرويّات”.
يمكننا تفكيك العنف إلى ثلاث نواح: التراكم التاريخيّ للعنف من الاستعمار والحروب، عنف الأسرة، الإرث الاجتماعيّ للعنف وتطبيعه.
يحاول الكاتب جون دوكر، في كتابه “أصول العنف: الدين، والتاريخ، والإبادة[7]”، إثبات أنّ “للديانة الإغريقيّة- الرومانيّة القائمة على تعدّد الآلهة والديانتين اليهودية والمسيحية التوحيديتين، مفاهيم وأفكار مشتركة، لها علاقة بالعنف في تاريخ العالم.. ويمكن إدراك أفكار تؤيّدها الآلهة مثل الإبادة وعلم الضحيّة، والغزو والاستعمار”. لذا عندما نتحدّث عن العنف المتوارث من المهمّ أن نفكّر بالعنف الذي تركه الاستعمار في بلادنا عبر ممارساته ونضعه ضمن هذا السياق.
العنف ليس فعلًا قائمًا بذاته
بحسب دراسة (Where do they learn violence? The roles of three forms of violent socialization in childhood)[8] التي نُشرت العام 2019، أنّ الأطفال ضحايا العنف الأسريّ والمجتمعيّ أكثر ميلًا لقبول صحّة السلوكيّات العنيفة والعدوانيّة، وقد دُرست لعقودٍ أنماطُ ارتكاب الناجين من الإيذاء الجسديّ مزيدًا من الجرائم العنيفة، وهو شكلٌ من أشكال التنشئة الاجتماعيّة العنيفة يُطلق عليه “دورة العنف”.
ودعمت دراسات[9] مفهوم دورة العنف إذ وجدت ارتباطًا بين تعرّض الطفل للعنف المنزليّ، بما في ذلك إساءة معاملة الأطفال، ومشاكله السلوكيّة الداخليّة (الاكتئاب والقلق) والخارجيّة (الانحراف والعدوان) وخلصت الدراسة إلى أنّ الأطفال الذين تعرّضوا للعنف المنزليّ لديهم معدّلات عالية من أحد النوعين أو كلاهما. كذلك أظهرت دراسات أخرى أنّ سوء معاملة الأطفال يُنبئ بمواقف تُبرّر العنف في المواعدة والسلوكيّات العدوانيّة تجاه شركاء المواعدة.
العنف ليس فعلًا قائمًا بذاته، بل إنّه يتراكم، ينمو، وقد يظهر كإرثٍ اجتماعيّ، يُدعَّم بنظامٍ يعطي الأحقّيّة للرجل بالفعل والسيطرة، بنظام يتغذّى على العنف، عنف السلطة والشرطة، عنف العقاب، العنف ضدّ النساء، في الشارع والمواصلات والمنزل، ومجتمع يُشرعن هذا العنف، يجعله “عاديًّا” ويطبّعه، في السينما، في المسلسلات، ويشجّع ويطبّع مع ثقافة الاغتصاب كأبرز تجلّيات العنف.
يمكنني قراءة العنف أيضًا كشيء يوميّ آلفه؛ كفعلٍ يوميّ، أراه على شاشة التلفاز وفي الشارع وفي الأخبار، الحروب عنفٌ أيضًا، الجثث، الدماء على الطرقات، الإبادات المستمرّة في منطقتنا، هذا الدم الذي اعتدتُ مشاهدته على الشاشة مُذ كنتُ طفلة، زارني في أحلامي، تسلّل إلى ثيابي الداخليّة، ركبه العار، فبتُّ أُخفيه ويُجاهرون هم به، كرهته وربطته بما أرى، هذا الدم نفسه قد يُلازمه “شرف[10]” العائلة والأمّة أيضًا.
ربّما، لستُ مجنونةً حقًّا، ربّما عمّتي وأمّي أيضًا وكلّ مَن مارسن العدوانيّة بأجسادهنّ كردّ فعلٍ على سلسلة من العنف المتوارث لم يكنّ مجنوناتٍ أو مهسترات، كانت عدوانتيّتهن، نتيجةً من نتائج النظام الأبويّ الذي نكّل بأجسادنا ثمّ اتهمها بالهسترة والعدائيّة، وربّما تكون هذه العدائيّة في بعض الحالات سبيلًا من سُبل مواجهته، بينما لا ننكر أهمّيّة فهمها وتفكيكها والتحكّم بها.
الهوامش
[1] Elke Krasny, “PERFORMING HYSTERIA Contemporary Images and Imaginations of Hysteria”, “HYSTERIA ACTIVISM Feminist Collectives for the Twenty-First Century”, Leuven University Press, 2020, Page 129https://library.oapen.org/bitstream/handle/20.500.12657/42712/9789461663139.pdf#page=126
[2] Elke Krasny, same source, Page 127
[3] Elke Krasny, same source, Page 131
[4] Elke Krasny, same source, Page 132
[5] نُورَة أُخَّرُو، «السرد الرحلي الإفريقي العربي: من مرويات السفر إلى تفكيك مركزية العنف الاستعماري أسفار استوائية رحلات في قارة إفريقيا نموذجا»، مجلة الشرق الأوسط للعلوم الإنسانية والثقافية، صفحة 3، 14 أيار 2025،
https://meijournals.com/ara/index.php/mejhcs/article/view/907/877
[6] نُورَة أُخَّرُو، المصدر نفسه، صفحة 3
https://meijournals.com/ara/index.php/mejhcs/article/view/907/877 [7] (“”) أحمد الدَبَشْ، أصول العنف.. الدين والتاريخ والإبادة.. قراءة في كتاب، عربي 21، 5 آذار 2021 https://shorturl.at/OgzCz [8] Jeongsuk Kim, “Where do they learn violence? The roles of three forms of violent socialization in childhood», Children and Youth Services Review – Elsevier, december 2019
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0190740918308946?via%3Dihub
[9] Jeongsuk Kim, Same source
[10] مازال الدم الذي قد يخرج عند أول ممارسة جنسية للنساء، في بعض المجتمعات، يُستعمل للدلالة على «طهارتهن» و»شرفهن» وأنهن لم يقمن بأي علاقات جنسية قبل الزواج. وتُقتل النساء بجرائم الشرف إذا غاب هذا الدم في «ليلة الدخلة»، علمًا أن كثيرًا من النساء لا يُخرجن هذا الدم عند أول ممارسة جنسية حتى ولو كُنّ «عذراوات».