موسم الزيتون في الجنوب بين فتك الحرب وتحدّي البقاء

“كروم الزيتون في الجنوب، إرث الأجداد، شجرة مقدّسة كنّا نتباهى بزيتها وزيتونها. لكن اليوم، وبفعل العدوان الإسرائيليّ، لم يبقَ منها كرم إلّا وأصابه الضرر”، بهذه الكلمات يختصر ابن بلدة بليدا (مرجعيون) الحدوديّة الحاج موسى لـ “مناطق نت”، حجم الخسائر التي لحقت بأرضه وشجر الزيتون فيها بعد الحرب.

يصف الحاج موسى الأرض بأنّها كانت موردًا رئيسًا لأهالي ضيعته بليدا، قبل أن تُدمَّر بالكامل، فـ “الشجر المعمّر تمّ اقتلاعه، والآخر الذي يقارب عمره الـ 50 سنة تمّ قطعه وأحرقوا البقيّة”.

يزور الحاج موسى بساتينه “بالسرقة”، كما يقول، بسبب الخوف من المسيّرات واحتمال الاستهداف. وهناك، عثر على قنابل حرّاقة يؤكّد أنّها من نوع لم يره من قبل. يمتلك الحاج موسى أربعة بساتين زيتون، تمكّن من العودة إلى أحدها، ويضمّ نحو 500 نصبة، لكنّه وجد ألّا “شيءَ أخضر، فقوّات الاحتلال اقتلعت كلّ الأشجار”. أمّا البستان الذي يبعد نحو 400 متر من الحدود الفلسطينيّة، فلا يستطيع زيارته لتقييم الضرر بسبب التهديدات الأمنيّة. مضيفًا بحسرة “ما في موسم زيتون السنة نهائيًّا”.

يتحدّث الحاج موسى عن الدمار الاقتصاديّ فيؤكّد أنّ “الرزق غال، ولا أستطيع القول إنّني تأثّرت اقتصاديًا فقط، بل إنّ الحرب دمّرتني. خسرتُ مزارع الدجاج، ومواسم التبغ والحبوب والتين والعنب. دُمّرنا اقتصاديًّا وحُرمنا من المؤونة هذا العام، ولولا إرادة الأهالي في إعادة الحياة إلى البلدة، لكنّا نعيش في صحراء.”

خسائر كبيرة في مواسم الزيتون جنوبًا ومزارعو القرى الحدودية ممنوعون من الوصول إلى بساتينهم
محاولات فاشلة

يحكي الحاج موسى عن محاولاته الفاشلة في استعادة الزراعة بعد الحرب، إذ زرع بضعة دونمات حمّص وبندورة وكوسا، لكنها لم تنبت، فـ “الأرض مسمومة” على حدّ قوله “حتّى دوالي العنب التي كانت تمتدّ عادة أربعة أمتار، لم تتجاوز هذا العام حدود الـ 50 سنتيمترًا”.

يجمع المزراعون ممّن تواصلت “مناطق نت” معهم على أنّ الوزراة لم ترسل أيّ فريق للكشف على التربة والأشجار، وهم بالتالي لا يعرفون ما الذي بإمكانهم زراعته وما الذي لا يصلح للزراعة.

يعبّر المزارع “أبو علي” عن استيائه من غياب الدعم الرسمي، ويقول: “تواصلت معنا وزارة الزراعة مرّة واحدة، طُلب إلينا تعبئة استمارات عن حجم الخسائر ولكن إلى اليوم لم نلقَ أيّ جواب.” يضيف بحرقة: “في حرب علينا، ما في دولة بتتنازل عن شعبها متل ما هنّي عاملين.”

تحتاج شجرة الزيتون إلى سنوات طويلة من الرعاية قبل أن تبدأ بالإنتاج، ويجب ريّها كلّ أسبوعين بعد زراعتها خلال فصل الصيف كما يشرح الحاج موسى ويشير إلى أنّ “كل دونم يستوعب ما بين 25 إلى 30 شجرة.”

أبو مهدي: كنّا ننتج ما يقارب الـ 50 تنكة زيت زيتون في السنة، أمّا هذا العام فلم ننتج نقطة زيت واحدة

من عديسة إلى عيترون

من بلدة عديسة الحدوديّة، يتحدّث أبو مهدي (اسم مستعار) بمرارة عن عجزه عن زيارة بساتينه بسبب التهديدات الإسرائيلّية المستمرّة وسيطرتها على أرضه.

يستهلّ أبو مهدي حديثه لـ “مناطق نت” قائلاً: “عم تفتحيلي جروحات صرلي سنة مسكّر عليها. مضيت عمري وأنا بشتغل بالزيتون.”

على مدى أكثر من أربعين عامًا، اعتاد أبو مهدي انتظار موسم الزيتون ليجني خيراته، لكنّه يعيش اليوم حرمانًا كاملًا من هذا الموسم الذي كان مصدر رزقه الأساس. يمتلك أبو مهدي ثلاثة بساتين زيتون، جرف جيش الاحتلال اثنين منها بالكامل، أمّا الثالث فلا يستطيع الوصول إليه بسبب السيطرة عليه من قبل العدوّ.

يقول: “كنّا ننتج ما يقارب الـ 50 تنكة زيت زيتون في السنة، أمّا هذا العام فلم ننتج نقطة زيت واحدة.”

وللسنة الثالثة على التوالي يُحرم المزارع من رؤية أشجاره التي اعتنى بها طوال عمره “عمر شجر الزيتون الذي قاموا باقتلاعه يتجاوز الـ 40 سنة. هل سأعيش 50 سنة أخرى لأرى خير شجر جديد إن حلّ الأمان؟” ويختم: “الخسارة كبيرة جدًّا. إذا الشجر كلو راح ما بإيدنا شي، ولا بإيد الوزارة. شو رح تعمل الوزارة؟”.

موسم بلا مردود

يقول محمود، صاحب معصرة في عيترون لـ “مناطق نت”، إنّ الموسم الحالي ضعيف جدًّا “ومن كان يمتلك خمسين مدًّا من الزيتون أصبح يزور المعصرة اليوم بخمسة شوالات فقط.”

بعض معاصر الزيتون جنوبًا لم يفتح أبوابه بسبب ضعف الموسم بشكل لافت

لا موسم هذا العام أيضًا، وإنتاج الزيتون قليل على رغم أنّه لم يلحظ تغيّرًا في جودة الزيت. يضيف: “أنتظر موسم الزيتون من عام إلى عام، هذا الموسم فتحت المعصرة ولكن بالكاد يكفي المردود لسداد كلفة المازوت وأجرة العامل التي تبلغ 25 دولارًا في اليوم.”

يتطرّق محمود إلى قرار الجيش اللبنانيّ بمرافقة المزارعين إلى الكروم، فيتحدّث مستنكرًا “يعني كامل مواصفات حياتي ومعلوماتي الشخصيّة ستسلّم إلى قوّات الطوارئ التي ستقوم بتسليم هذه المعلومات إلى العدّو، يعني محتلّينّا بكل ما للكلمة من معى.”

يقول إلياس أحد مالكي معصرة المرج في القليعة – مرجعيون، والتي كانت تضّم ما يقارب الـ 25 عامل: “أمّا اليوم فلا أحد، عمل المعصرة ضعيف بسبب تدنّي الإنتاج بفعل الحرب”. يتابع لـ “مناطق نت”: “الخسائر ممتدّة من العام 2023، إذ كان الموسم حينذاك ضعيفًا، وقلّة قليلة من المعاصر فتحت أبوابها. أمّا في العام 2024 فلم تفتح أيّ معصرة بفعل اشتداد الحرب، وهذا العام أيضًا الإنتاج شيء بسيط جدًّا”. اليوم، ومع غياب الموسم بفعل الحرب، ارتفع سعر تنكة الزيتون إلى نحو 150 دولارًا أمريكيًّا.

الاستقرار قبل التعويض

يعلّق فؤاد ونسة، رئيس المركز الزراعيّ في مرجعيون، على موضوع مرافقة الجيش للمزارعين حينما يقصدون بساتينهم وأراضيهم وعن المعلومات الخاصة بهم، فيقول: “إنّ قوات اليونيفيل طلبت كثيرًا من البيانات لتسليمها إلى العدوّ الإسرائيليّ من الاسم إلى رقم لوحة السيارة، ورقم الهاتف والمدةّ التي سيقضيها المزراع في أرضه والهدف من الزيارة. إلّا أنّ المزارعين لا يشعرون بالاطمئنان تجاه هذه الخطوة، خصوصًا مع ضعف الموسم والإنتاج.”

يشرح ونسة لـ “مناطق نت” أنّ “وزارة الزراعة قامت بتقييم حجم الأضرار والخسائر التي خلّفتها الحرب الإسرائيليّة، وتشمل الأضرار المباشرة (اقتلاع الأشجار، حرقها وقطعها)، إضافة إلى الخسائر غير المباشرة كعدم قدرة المزارعين على قطف الزيتون لمدة عامين متتاليين واستحالة وصول البعض إلى بساتينهم”.

وبحسب ونسة، “أجرت الوزارة كشوفًا ميدانيّة وأرسلت نتائجها إلى البنك الدوليّ، وأُخذت عيّنات عبر مصلحة الأبحاث الزراعيّة والمنظّمات الدوليّة، وتسلّمت اليونيفيل جزءًا منها”.

بلغت الخسائر في القطاع الزراعي اللبنانيّ نحو 704 ملايين دولار خلال الحرب الأخيرة، منها 582 مليون دولار في قطاع المحاصيل فقط.

ويؤكد أنّ “النتائج المتعلّقة بأثر الفوسفور جاءت مطمئنة، ولكنّ ضرر الفسفور كان بالحرائق المباشرة، إنّما لم تُؤخذ عيّنات للكشف عن أثر المعادن الثقيلة مثل اليورانيوم”.

الاستقرار الأمني أوّلًا

يشير ونسة إلى أنّ “أجزءًا من الأشجار المحروقة يمكن معالجتها عبر تقنيّة تشحيل تساعدها على استعادة عافيتها، لكنّ قسمًا كبيرًا منها احترق بالكامل ولا يمكن معالجته، ما يستدعي إعادة التشجير وهنا الحديث عن المناطق التي يمكن الوصول إليها”.

ويضيف أنّه “تمّ إنشاء فرق ميدانيّة في القرى المتضرّرة لتقييم الخسائر على صعيد كلّ قطاع: المواشي، الأشجار المثمرة، الحبوب، المعدّات الزراعية. وأُرسل ملف مفصّل ودقيق إلى وزارة الزراعة والبنك الدوليّ، مع تحديد رقم نهائيّ للتعويضات المطلوبة”.

ويتابع ونسة: “البنك الدولي جاهز للتمويل، لكنّ هناك عاملاً أساسيًّا مرتبطًا بالاستقرار الأمنيّ. ماذا لو تمّ تقديم التعويض وتعرّضت أرض المزارع مجدّدًا إلى اعتداء؟ ما الفائدة عندها؟”. ويختم موضحًا أنّ “البنك الدوليّ والجهات الدوليّة ينتظرون تحقيق الاستقرار في المناطق الجنوبيّة قبل بدء مرحلة دفع التعويضات”.

الأرقام الرسميّة للخسائر

وفق تقييم من منظّمة الأغذية والزراعة في الأمم المتّحدة “فاو”، بالتعاون مع وزارة الزراعة والمجلس الوطنيّ للبحوث العلميّة في لبنان “CNRS”، إنّ “الأضرار والخسائر ضمن إطار تأثير حالات الطوارئ والأزمات على المزارعين، بين تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وتشرين الثاني/ نوفمبر2024، بلغت الخسائر في القطاع الزراعي اللبنانيّ نحو 704 ملايين دولار خلال الحرب الأخيرة، منها 582 مليون دولار في قطاع المحاصيل فقط. بين خسائر وأضرار.

تُقدَّر احتياجات إعادة التعمير والتعافي بـ 263 مليون دولار، منها 95 مليون دولار أولويّة للفترة 2025- 2026. ويشمل التقييم الحاجة إلى استثمارات كبرى لاستبدال المحاصيل المعمّرة وتجديد الثروة الحيوانيّة وإعادة تأهيل البنى الزراعيّة الصغيرة كأنظمة الريّ والبيوت البلاستيكيّة، بكلفة تصل إلى 45 و51 و11 مليون دولار على التوالي.

كذلك تحتاج المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة في قطاع الأغذية الزراعّية إلى سبعة ملايين دولار كدعم طارئ، فيما تحتاج استعادة الغابات والمراعي إلى ثلاثة ملايين دولار إضافيّة.

قصص المزارعين وأصحاب المعاصر هي صرخة موجعة عن أرض أفنى المزارع حياته فيها. حجم الكارثة الاقتصاديّة والمعيشيّة تجاوزت “التأثّر” إلى “التدمير” الكامل لمصادر الرزق. فالخسائر لا تقتصر على الموسم الحاليّ وحسب، بل تمتدّ لتطال خصوبة الأرض التي تحتاج إلى وقت للتعافي والتجدّد، والحرمان من المؤونة الأساسيّة، في ظلّ غياب أيّ دعم رسميّ ملموس يتناسب مع حجم المعاناة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى