مشروع “راحة وفنون” للأطفال.. مساحة علاج رمزيّة

“قد يزول الفنّ كقوّة روحيّة كبرى، لكنّ قيمته الإنسانيّة تبقى في كونه أحد أعمق تعبيرات الروح عن ذاتها” (هيغل).

بعد الحرب الأخيرة التي عصفت بلبنان، لم يكن من السهل أن أستعيد الإحساس بالسكينة، أو أن أرى في الوجوه ما يشبه الطمأنينة. كان كلّ شيء مثقلًا بصدى الانفجارات وصور الدمار، حتّى لغة الأطفال تغيّرت، صارت أحاديثهم تميل نحو العنف والضرب والنجاة. في ذلك المناخ القاسي، وصلتني خلال شهر آب (أغسطس) رسالة من مؤسّسة التعبير الرقميّ “أضِف”، عبر مكتبة “ميلي” في بعلبك، تخبرني بأنّه قد تمّ اختياري للمشاركة في “مشروع راحة وفنون” المدعوم من المؤسّسة. بدت الدعوة في البداية كنافذة صغيرة تُفتح في جدار ثقيل، فرصة للتعلّم ولإعادة التواصل مع الفنّ بعد انقطاع طويل، لكنّها تحوّلت لاحقًا إلى تجربة وجوديّة أعادت تعريف علاقتي بالصورة، وبالإنسان نفسه.

خلال يومين من التدريب في مركز المؤسّسة في بيروت- فرن الشبّاك، وجدت نفسي أمام مقاربة جديدة تمامًا للفنّ. لم يكن التدريب تقنيًّا كما توقّعت، بل كان أقرب إلى تمرين على الوعي.

بعد انتهاء التدريب، انتقلت إلى المرحلة التطبيقيّة: تدريب الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سبع سنوات و15 سنة. كانت التحدّيات كثيرة، ليس في إدارة الورشة وحسب، بل في التعامل مع جيل حمل آثار الحرب الأخيرة في لغته ومخيّلته. كانوا يتحدّثون عن القتل والخراب كما لو كانت أحداثًا يوميّة، ما دفعني إلى محاولة إيجاد مدخل يعيد ترتيب تلك الأفكار، من دون وعظ أو تصحيح مباشر.

خلال التصوير، تحوّل التمرين الفنّيّ إلى تجربة إنسانيّة، اكتشف الأطفال أنّ العمل الجماعيّ أكثر متعة من التنافس

البحث عن الكنز السحريّ

في كلّ لقاء، كنت أرى في وجوههم مزيجًا من الفضول والخوف. كانوا يبحثون عمّا يمكن أن يطمئنهم إلى أنّ العالم ما زال صالحًا للعيش، أكان في المعنى المجازيّ أو في الواقع. في تلك اللحظة، شعرت أن مهمّتي الحقيقيّة لا تتمثّل في تعليمهم التصوير، بل في مساعدتهم على اكتشاف الجمال كقيمة فنّيّة، وسبيل للصمود عند الصعاب، فحين يتعلّم الطفل أن يرى الجمال، يبدأ في تصحيح صور العالم داخله وإعادة صوغها.

من هذا المنطلق جاءت فكرة الفيلم الأوّل الذي أنجزوه بعنوان “البحث عن الكنز السحريّ”. لم أكن أريد أن أقدّم لهم قصّة جاهزة، إنّما أن أطرح أمامهم سؤالًا: ما الذي يمكن أن يكون كنزًا في عالمٍ مهدّد؟ اقترحت أن نجعل الكنز رمزيًّا، فاختاروا أن يكون “التعاون” هو الجواب. خلال التصوير، تحوّل التمرين الفنّيّ إلى تجربة إنسانيّة، اكتشف الأطفال أنّ العمل الجماعيّ أكثر متعة من التنافس، وأنّ المغامرة لا تكتمل إلّا إذا شارك الجميع فيها.

كانت فرحتي بهم تزداد مع كلّ مشهد. كنت أراهم يتعلّمون من اللقطات ما لم يتعلّموه من الكلمات. وحين نطق أحدهم في نهاية الفيلم بعبارة: “الكنز هو التعاون”، أدركت أنّ الرسالة وصلت. لم يكن ذلك مجرّد مشهد ختاميّ، بل لحظة وعي. ربّما كانت تلك اللحظة أعمق ما يمكن أن يقدّمه الفنّ: أن يعيد تعريف المفاهيم البسيطة بطريقة جديدة، تجعلها تُلمس لا تُقال.

خلال تصوير فيلم “البحث عن الكنز السحري” ضمن مشروع “راحة وفنون” للأطفال
بودكاست وورشة رسم

بعد نجاح الفيلم الأوّل، انطلقت الورشة في اتّجاهين جديدين عبر “بودكاستين” مرئيّين أنجزهما الأطفال بأنفسهم. في الأوّل، زاروا زملاءهم الذين كانوا يقدّمون مسرحيّة، فقاموا بإجراء مقابلات وتصويرها بمشاركة زميلتي. أمّا الثاني، فكان في ورشة الرسم، حيث التقط الأطفال لحظات التفاعل بين الألوان والأيدي الصغيرة التي تحاول أن تمنح العالم معنى جديدًا. كانت التجربتان امتدادًا طبيعيًّا للفكرة الأساس: أنّ التعبير لا يتجزّأ، وأنّ الفنّ واحد مهما اختلفت وسائطه.

خلال تلك الفترة، تغيّرت نظرتي إلى التعليم الفنّيّ. أدركت أنّ الفنّ لا يُدرَّس من الخارج، بل يُستخرج من الداخل. وأنّ الطفل حين يُمنح الثقة كي يعبّر عمّا يجول في ذهنه، يتحوّل إلى مبدع بالفطرة. كنت أراقبهم يكتشفون الضوء والظلّ، الزوايا والوجوه، التفاصيل الصغيرة التي لم يلتفتوا إليها من قبل. كانوا يتعلّمون كيفيّة اختيار اللقطة، لكنّهم في العمق كانوا يتعلّمون كيف يختارون نظرتهم إلى الحياة.

شيئًا فشيئًا، بدأت أرى كيف تتحوّل الكاميرا إلى جسر يربط بين التجربة والوعي. أصبحت كلّ صورة لحظة تفكير، وكلّ لقطة محاولة لتثبيت معنى ما. في تلك اللحظات، بدا لي أنّ الفنّ والفلسفة يتقاطعان في نقطة واحدة: البحث عن الحقيقة من خلال الإصغاء إلى العالم.

حين انتهى المشروع، نظرت إلى ما أنجزه الأطفال من صور وأفلام، فأدركت أنّ كلّ عمل من أعمالهم كان يحمل بصمة شفاء صغيرة. لقد تحوّلت الورشة إلى مساحة علاج رمزيّة، لا تستخدم الطبّ ولا اللغة، بل الصورة والخيال. من خلال هذا التحوّل الحاصل، تعلّمت أنّ الفنّ ليس ترفًا، إنّما ضرورة إنسانيّة في مواجهة الخراب.

صمت يشبه الامتنان

ما زلت أذكر ذاك اليوم الأخير، حين عرضنا الأفلام أمام الجميع. لم تكن السعادة في الوجوه وحدها، كانت في الصمت الذي تلا العرض. ذلك الصمت الذي يشبه الامتنان، حين يدرك المرء أنّ شيئًا حقيقيًّا حدث بالفعل، وأنّ فكرة بسيطة نجحت في إعادة بناء جزء صغير من الوعي الجمعيّ.

تجربتي مع مشروع راحة وفنون لم تكن مجرّد مرحلة من العمل، إنّها لحظة انعطاف في الفهم. تعلّمت أنّ التعليم لا يكتمل إلّا إذا مسّ جوهر الإنسان، وأنّ الفنّ حين يصبح درسًا يتحوّل إلى أداة فلسفيّة بامتياز. فالكاميرا التي تُعلّم الطفل كيف يرى، تُعلّمنا نحن أيضًا كيف نعيد النظر إلى أنفسنا.

اليوم، حين أتذكّر تلك الأيّام في بيروت، أشعر بأنّني لم أدرّب الأطفال بقدر ما قاموا بتدريبي. لقد تدرّبت بفضلهم على الصبر، وعلى الإصغاء لما وراء الكلام، وعلى الإيمان بأنّ كلّ تجربة فنّيّة تحمل في جوهرها مشروع حياة. ربّما لن يتذكّر الأطفال كلّ التقنيّات التي تعلّموها، لكنّهم سيتذكّرون أنّ الكنز الحقيقيّ لا يُكتشف في نهاية الطريق، لكنّه يُصنع حين نتعاون جميعًا، وننظر معًا في اتّجاه الضوء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى