العفو العام بين الوعود المتكرّرة والمطالب الملحّة

ثماني سنوات مضت على المطالبة بإقرار قانون العفو العام، ويعود هذا الملف اليوم إلى الواجهة من جديد مع اقتراب موعد الانتخابات النيابيّة، في ظلّ تصاعد تحرّكات أهالي الموقوفين الذين ينفّذون منذ أسبوعين وقفات احتجاجيّة عند دوّار الجبلي في دورس (بعلبك)، مؤكّدين الاستمرار في تحرّكهم حتّى تحقيق مطلبهم بإقرار قانون العفو العام، ملوّحين بالتصعيد ومقاطعة الانتخابات النيابيّة المقبلة.
أيّ عفو نريد؟
أسئلة كثيرة تُطرح حول مقاربة ملف العفو العام. هل المطلوب عفوٌ يشرّع الجريمة ويكافئ مرتكبيها؟ أم عفوٌ يكون مدخلًا لإزالة أسباب الجريمة نفسها؟
في هذا الإطار، يوضح الباحث الاستراتيجيّ ومنسّق المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى في لجنة إعداد قانون العفو العام، الدكتور محمّد هزيمة، أنّ المعايير التي وُضعت خلال إعداد القانون لحظت عدم إسقاط الحقوق الشخصيّة والعينيّة.
ويشرح أنّ الصيغة المقترحة كانت أقرب إلى تعليق الأحكام، بحيث تُمنح فرصة للمتورّطين ضمن شروط واضحة تُعيد العقوبة في حال تكرار الجرم، وتمنع المستفيد من أيّ أسباب تخفيفيّة لاحقًا، بما فيها دمج الأحكام. “في هذه الحال، يتحوّل العفو إلى عقوبة رادعة”، يقول هزيمة لـ “مناطق نت”.

كيف وُلد العفو العام؟
بحسب هزيمة، استند إعداد القانون، إلى تجارب سابقة في دول عدّة مثل الجزائر وتركيّا وفرنسا، وخصوصًا تجربة “الوئام المدنيّ” الجزائريّة التي اعتمدت صيغة تعليق الأحكام. ويشير إلى أنّ “الواقع القضائيّ اللبنانيّ المرهق كان من أبرز الدوافع، إذ إنّ كثافة الملفّات القضائيّة وقلّة الموارد جعلت الحلّ القضائيّ مستحيلًا عمليًّا.”
يضيف هزيمة: “في حين ينجز القاضي في الخارج ما بين 16 و24 ملفًّا سنويًّا، ينظر القاضي اللبنانيّ في أكثر من 200 ملفّ خلال ثلاثة أشهر، ما يجعل العمل القضائيّ غير جدّي في كثير من الأحيان”.
من هنا، يردف هزيمة “برز قانون العفو كـ ‘مخرج استثنائيّ‘ يتلاءم مع الواقع اللبنانيّ، شرط أن يشمل إعادة الحقوق المدنيّة للموقوفين وتسوية أوضاعهم الماليّة، وإلّا فسيكون العفو بلا جدوى”. لكنّ المشروع الأصليّ، كما يشير هزيمة، “تمّ دمجه مع مشاريع قوانين أخرى وفقد هويّته الأساس”.
فخّ قانوني؟
يرى هزيمة أنّ الصيغة الأخيرة لمشروع العفو العام، والتي دمجت ثلاثة مشاريع مختلفة، لا تخدم أبناء بعلبك– الهرمل تحديدًا، “إذ لا تتجاوز نسبة المستفيدين منهم الخمسة في المئة”.
دندش: التأخير في المحاكمات، وغياب الظروف الصحّيّة والإنسانيّة داخل السجون، يجعلان من العفو العام مصلحة وطنيّة عليا
ويعتبر أنّ القانون تحوّل إلى فخّ قانونيّ نتيجة كثرة الاستثناءات، بخاصّة في قضايا المخدّرات، بحيث يُحرم المطلوب الذي عليه أكثر من حكم الاستفادة من العفو.
ويشرح هزيمة أنّ “أيّ قانون عفو لا يعيد الاعتبار المعنويّ والوظيفيّ، ولا يعالج الغرامات الجمركيّة والماليّة، ولا يضبط أصول المحاكمات، هو قانون شكليّ واستعراضيّ ليس أكثر”.
دوافع العفو العام
من جهته يقول عضو لجنة العفو العام الأستاذ طارق دندش لـ “مناطق نت”: “إنّ المطالبة بالعفو العام نابعة من جملة اعتبارات، أبرزها ما تعرّض له لبنان من تفتيت مذهبيّ، وما أصاب مناطق مثل البقاع من ‘حرب مخدّرات‘ هدفت إلى تدمير بيئتها الاجتماعيّة ضمن مشاريع سياسيّة أوسع”.
ويؤكّد دندش أنّ “الهدف من القانون هو رفع الظلم عن الجميع، بمن فيهم الإسلاميّون والموقوفون في قضايا المخدّرات، لا سيّما في ظلّ اعتراف الدولة نفسها بمشاريع قوننة زراعة القنّب الهنديّ”.
ويشير إلى أنّ “التأخير في المحاكمات، وغياب الظروف الصحّيّة والإنسانيّة داخل السجون، يجعلان من العفو العام مصلحة وطنيّة عليا، تتيح للقضاء التفرّغ للملفّات الكبرى وتعيد للدولة سلطتها على كامل أراضيها”.
من المستهدفون بالعفو؟
هناك لغطٌ كبير عند الحديث عن أعداد المطلوبين المشمولين بالعفو، وكذلك في بعلبك- الهرمل، إذ إنّ الحديث عن 35 ألفًا غير دقيق، فربّما يرمز هذا الرقم إلى عدد مذكّرات التوقيف وليس إلى عدد المطلوبين. وفي هذا الإطار يشير هزيمة إلى أنّه “يَصدُر بحقّ المطلوب بلاغ بحثٍ وتحرٍّ، ثمّ مذكّرة توقيف، ثمّ مذكّرة إلقاء قبض، ثمّ مذكّرة اتّهام، ثمّ مذكّرة حكمٍ جنائيّ، ثمّ مذكّرة حكمٍ صادرة عن إدارة الجمارك (ماليّة). وهكذا تتعدّد المذكّرات بحقّ كلّ مطلوب، وفي حال ارتكابه جرمَين أو ثلاثة، تتضاعف المذكّرات”.
والدة الموقوف ب.ح: من سرق البلد حرّ طليق، ومن سرق رغيفًا يتعفّن في الزنزانة. نطالب بالعفو كفرصة للموقوفين كي يبدأوا من جديد.
ويُعيد هزيمة ذلك إلى عدم تحديث القوانين، “إذ إنّه في عامَيّ 1956 و1958 تمّ تطوير الآليّة لا النظام، فيما لا تزال إدارة الجلسات تتمّ وفق الطريقة العثمانيّة، في وقتٍ الدستورُ فيه فرنسيّ”.
أمّا الرقم الحقيقيّ للمطلوبين في بعلبك- الهرمل فلا يتجاوز ثمانية آلاف مطلوب، أربعة آلاف منهم موقوفون، وأربعة آلاف ما زالوا فارّين. ويضيف هزيمة أنّ “المشمولين بالعفو ليسوا فقط من أبناء بعلبك- الهرمل، بل جميع المطلوبين على صعيد لبنان، وعددهم يصل إلى نحو ستّة آلاف مطلوب”.
ويشير إلى أنّ العفو العام قائم على المطلوبين والإرهابيّين الإسلاميّين (ويُقدّر عددهم بنحو 1686)، والعملاء أو كما يُصطلح على تسميتهم “المُبعدين”، وهم بحدود ستّة آلاف شخص.
عائلات تنتظر عند الأبواب
خارج السجون وداخلها، المعاناة واحدة. يقول أحد أقارب الموقوف ب. ح. (بجرم سرقة درّاجة ناريّة): “السجون في لبنان أشبه بالمعتقلات. المجرمون الحقيقيّون خارجها يسرحون ويمرحون، بينما الفقراء يُتركون سنوات من دون محاكمة”. ويتابع لـ “مناطق نت”: “من سرق البلد حرّ طليق، ومن سرق رغيفًا يتعفّن في الزنزانة. نطالب بالعفو كفرصة للموقوفين كي يبدأوا من جديد”.
أمّا والدة الموقوف و. ب. فتقول لـ “مناطق نت”: “منذ اعتقال ابني في الـ 12 من كانون الأوّل (ديسمبر) 2023 لم تُعقد له أيّ جلسة على رغم إسقاط الحقّ الشخصيّ. قصر العدل ليس قصرًا للعدل، الفقير يضيع في أروقته، والمحامون يطلبون مئات الدولارات في كلّ جلسة”.
وتضيف بحرقة: “ما نراه في السجون يشيب له الرأس، ضرب وتعذيب، وأمّهات في الـ 70 ينتظرن على الأبواب”.
تلوّح هذه العائلات بمقاطعة الانتخابات المقبلة إذا لم يُقرّ العفو قبلها، مؤكّدة أنّها سئمت من الوعود المتكرّرة.
الخلاص الأخير
في ظلّ غياب العدالة السريعة واستفحال الاكتظاظ في السجون اللبنانيّة، يبدو مطلب العفو العام بالنسبة إلى الأهالي خلاصًا أخيرًا لا ترفًا سياسيًّا. لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل الظروف السياسيّة والقضائيّة اليوم مؤاتية فعلًا لإقرار قانون عفو شامل؟ وهل الدولة قادرة على احتواء وإعادة تأهيل المفرج عنهم في غياب أيّ خطط إصلاحيّة حقيقيّة داخل السجون وخارجها؟



