كترمايا “أم الشهداء” تنام على ذاكرة النار والمجزرة

على بُعد نحو 40 كيلومترًا جنوب بيروت، وفي قلب إقليم الخرّوب المتموّج بين الجبل والبحر، تنام بلدة كترمايا على كتف الذاكرة. بلدة ريفيّة هادئة، تتناثر فيها بيوت الحجر الأبيض بين بساتين الزيتون والحمضيّات. يعيش في كترمايا اليوم ما يقارب 6000 نسمة.

هنا، تغازل النسائم رائحة الخبز الطازج، لا شيء يوحي بأنّ تحت هذا الهدوء تختبئ فاجعة عمرها أكثر من أربعة عقود. فكترمايا ليست مجرّد قرية لبنانيّة؛ إنّها البلدة التي يلقّبها أهلها والعابرون بـ “أمّ الشهداء”، لأن في ترابها نام العشرات من أبنائها الأبرياء بعد أن طالهم الموت في واحدة من أبشع مجازر الاجتياح الإسرائيليّ للبنان العام 1982.

“كانت السماء تصرخ”

لكلّ شخص ممّن عايشوا ذاك النهار في كترمايا حكاية، لكن من التقتهم “مناطق نت” قالوا بإنّه عند ظهيرة نهار السابع من حزيران (يونيو) العام 1982، كان سكّان كترمايا يعيشون نهارًا عاديًّا من نهارات ذلك الصيف. الأطفال يلعبون داخل الأزقّة، والنساء اجتمعن لعجن الخبز، فالحال كانت “على قدّها” ولبنان في حال حرب، والرجال عادوا من العمل في البساتين.

الدمار في بلدة كترمايا “أم الشهداء” بعد المجزرة الاسرائيلية في العام 1982

فجأةً وعند الساعة الواحدة ظهرًا، خرق هدير طائرات الاحتلال الإسرائيليّ سكون البلدة. لترتفع الرؤوس نحو السماء، وتشخص العيون مرعوبة نحو الصوت. ما هي إلّا لحظات حتّى تحوّل ذلك إلى رعبٍ لا يُوصف. الصواريخ بدأت تتساقط كالمطر، لكنها مطر من نار. يُستهدف حيّ الجامع في وسط البلدة وهو حيّ سكنيّ وتجاريّ تزيد مساحته على500  متر. لم يكن في البلدة أيّ موقع عسكريّ، فقط بيوت من طينٍ وأحلام بسيطة.

تقطف نجاح عبد الملك الزيتون التي كبرت مع أشجاره وتتذكّر: “كنت في الـ 13 من عمري. أتذكر ذلك اليوم كأنّه أمس. كانت السماء تصرخ، نعم تصرخ. لم يكن مجرّد قصف، كان جحيمًا نزل على رؤوسنا لا سيّما في ساحة القرية التي استهدفتها الصواريخ. ركضت وأنا حافية، لا أعرف إلى أين. رأيت بيت جارنا وقد أصبح ركامًا، والدخان يحجب الشمس. بعدها لم أعد أسمع شيئًا… فقط صفير طويل في أذني، وصوت أمّي تنادينا من بعيد ‘ولادي وين ولادي‘”.

تغلق نجاح عينيها للحظة، تتنفّس بعمق وتتابع لـ “مناطق نت”: “منذ ذلك اليوم تبدّلت الأشياء، حتّى لون السماء”. تضيف “كان لعائلة درويش النصيب الأكبر في هذه المجزرة، إذ استشهد 10 أشخاص من العائلة: زوجة عمر درويش وولداه وحفيدته وصهره واثنان من أولاد شقيقته وابن عديله واثنان من أولاد عمّه، إضافة إلى خمسة أشخاص وجدت جثثهم في الكاراج الذي يملكه ابنه من دون أن يتمّ التعرف عليهم بسبب التشوه”.

حين هدأ هدير الطائرات، كانت كترمايا قد فقدت 40 شهيدًا من أبنائها، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، استشهد كثير منهم تحت الركام

أرقام تحكي وجعًا لا يُعدّ

حين هدأ هدير الطائرات، كانت كترمايا قد فقدت 40 شهيدًا من أبنائها، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، استشهد كثير منهم تحت الركام بسبب صعوبة عمليّات البحث، وأُصيب أكثر من 135 شخصًا بجروح بالغة، إضافة إلى مفقودين. لم يكن هناك سيارات إسعاف كافية، ولا مستشفيات قريبة. الناس حملوا الجرحى على الأبواب الخشبيّة والبطّانيّات إلى أقرب المستشفيات.

يروي أبو محمود (تجاوز السبعين اليوم)، وهو أحد المسعفين الذين وصلوا من بلدة مزبود المجاورة، لـ “مناطق نت”: “كنت أركض بين الركام كمن يبحث عن شيءٍ يجهله. كلّ بيت كان يبكي. حملنا الجرحى على الأكفّ، على الأكتاف، أو ممدّدين على الأبواب”. يتابع “أتذكّر أنّنا وجدنا تحت أنقاض أحد البيوت أمًّا تحتضن طفلين، لم تنجُ هي ولا هما، لكنّها كانت تشبه ملاكًا يحميهم بجناحيه حتّى آخر رمق، تلك الصورة لم تفارقني يومًا، وهي خلاصة كلّ الحكاية”.

من المقبرة الجماعية تسمية “أمّ الشهداء”

في تلك الأيّام، لم يكن هناك وقت للبكاء. دفن الأهالي معظم الشهداء في مقبرة جماعيّة، كان أحد عجائز القرية قد جهّزها له ولزوجته بعد وفاتهما. لم تكن هناك أكفان تكفي الجميع، ولا أيدٍ كافية للحفر. يقول الأهالي: “لم يحظَ شهداء مجزرة كترمايا بمراسم دفن تليق بهم، فقد تمّ دفنهم ليلًا على وقع الغارات وأصوات الطيران، ولأنّ الوضع كان كارثيًّا في البلدة، لم يفكّر الأهالي بتخصيص مدفن لشهداء المجزرة، فكانوا يدفنونهم بما توافر وتيسّر”.

دفنوهم بالدموع والذهول، لكنّهم حفروا في التراب وعدًا خفيًّا: ألّا تُنسى الأسماء، وألّا يُغسل الوجع بالنسيان. من هناك وُلد اللقب، “كترمايا أمّ الشهداء” ليس لقبًا رسميًّا أو شعارًا سياسيًّا، بل صرخة قلبٍ جمع الناس على ذاكرةٍ واحدة.

يقول محمود شحيمي، وهو لم يعش الحرب لكنّه وُلد في ظلّها: “نحن لم نرَ الصواريخ، لكنّنا نراها في عيون أهلنا. كبرنا على القصص التي تُروى في كلّ عام، على صورٍ مُعلّقة في جدران الصالونات، ودموعٍ في الذكرى. هذه الحرب تعيش معنا، في بيوتنا، في صمتنا، في كلّ مرّة يمرّ طيف طائرة في السماء”.

مجزرة في سياق الاجتياح

حدثت المجزرة في الأيّام الأولى من الاجتياح الإسرائيليّ للبنان العام 1982، ضمن ما سُمّي حينها بـ “عمليّة سلامة الجليل”. كانت الحجّة ضرب المقاومة الفلسطينيّة، لكنّ القصف طال قرى لبنانيّة مدنيّة، من بينها كترمايا التي لم يعرف أبناؤها سلاحًا إلّا السعي وراء لقمة العيش. وأجمع اللبنانيّون على أنّ ما جرى وقتها هو “جريمة حرب بحقّ المدنيّين الآمنين”، فيما اعتبر مراقبون دوليّون أنّ القصف كان جزءًا من سياسة ترهيبٍ متعمّدة لدفع السكّان إلى النزوح.

كترمايا اليوم… ذاكرة لا تنام

لم تمت كترمايا. من تحت الرماد، نفضت البلدة غبارها، أعادت بناء بيوتها، وأنشأت مدارس تحمل أسماء الشهداء، زرعت أشجار زيتون في الساحات التي كانت رمادًا. عند مدخلها اليوم، تقف لوحة حجريّة كتب عليها: “المجد والخلود لشهدائنا الأبرار”. اليوم، تعيش كترمايا حياةً متجدّدة، لكنّها لا تنسى. في كلّ بيت صورة شهيد، وفي كلّ ركن ظلّ لذاكرةٍ قديمة.

أهلها يعملون في الزراعة والتعليم والمهن الحرّة، يتحدّثون عن الغد بأملٍ هادئ، لكنّهم لا يتركون ذاكرتهم تنام. ربّما تبدو كترمايا نقطة صغيرة على خريطة لبنان، لكنّها تحمل في ترابها حكاية وطنٍ بكامله. هي البلدة التي احترقت لتضيء الذاكرة، وصمدت لتبقى شاهدة على أنّ القرى الصغيرة قادرة على كتابة التاريخ بدمائها.

الصور:
بلدية كترمايا
ارشيف السفير
المصور محمد الطويل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى