تبغ وزيتون إرث زراعيّ بين المرارة والصمود

في الجنوب تتنفّس الأرض صبر أهلها، تبغًا وزيتونًا. ثمّة زراعتان، الأولى صارت رمزًا للمظلوميّة وعنوانًا للتعب، والثانية تروي حكاية الأشجار التي لم تعد جذورًا وحسب، بل أغصان تعانق السماء. أشجار تنحني لكنّها لا تموت، تُقتلع، لتعود وتنبت من جديد. تبغ وزيتون، مرارة وخضرة تزهو ثمّ تنام على خدّ الحقول.

حكايتان تفيضان من بين الحقول والأشجار، حكاية الزيتون الذي تتوارثه الأجيال، وينزرع عميقًا في الأرض والذاكرة، وحكاية التبغ الذي يخفي خلف أوراقه معاناة طويلة من العبوديّة المقنّعة، وبين المشهدين عاش الجنوبيّون.

عقود مضت وأهل الجنوب يزرعون التبغ، لا لأنّهم أحبّوه، بل لأنّهم لم يُمنحوا خيارًا آخر، منذ أن أُنشئت إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” في زمن الانتداب الفرنسيّ، والتي حملت في أهدافها المعلنة تنظيم القطاع، أمّا الغاية الفعليّة فكانت احتكاره.

يومًا بعد يوم تحوّل المزارع إلى تابعٍ اقتصاديّ، يزرع ما يُؤمر به، وفق المساحات والكمّيّات المسموح بها، ومن ثمّ يبيع إنتاجه من التبغ لمن نال منه الترخيص حصرًا، وينتظر “رحمة” التسعيرةٍ التي تُقرّرها الإدارة.

شتلة الطاعة

هكذا صارت زراعة التبغ شتلة الطاعة والتعب؛ يعمل المزارع مع عائلته عامًا كاملًا ليتقاضى فتات الأرباح، إن كانت ثمّة أرباح، دون أيّة تقديمات أو ضمانات تؤمّن له الحدّ الأدنى من الحقوق لناحية الطبابة أو التعليم أو التقاعد.

يومًا بعد يوم تحوّل المزارع إلى تابعٍ اقتصاديّ، يزرع ما يُؤمر به، وفق المساحات والكمّيّات المسموح بها، ومن ثمّ يبيع إنتاجه من التبغ لمن نال منه الترخيص حصرًا

على إيقاع تلك الصفقة القاسية، عاش الجنوبيّون وبخاصّة أبناء القرى الحدوديّة، العرق مقابل الفوز بـ “الرخصة”، والمفارقة في ذلك أنّه سُمّي “صمود”، وكأنّ الفقر بطولة، والخضوع مقاومة.

قلّة هم من أدركوا أنّها عبوديّة اقتصاديّة مغلّفة بالشعارات، أبقت القرى الجنوبيّة في دائرةٍ مغلقة لا إنتاج حقيقيًّا فيها ولا حرّيّة قرار، فرحلوا عنها ولم يبقَ إلّا من لا حول له ولا قوّة.

زيتونة الإرث المتجذّرة

في الأرض نفسها تقف شجرة الزيتون شاهدة على وجهٍ آخر للصمود، شجرة لا تعترف برخصة، عصيّة على الاحتكار، لا تستنزف طاقة مزارع طوال العام، من يزرعها يملكها، ومن يقطفها يأكل من تعب يديه وليس من تسعيرة إدارة ما.

لا تعرف الوسيط ولا المراقب ولا “الكوتا” ولا تحتاج إلى إذن لزراعتها، تعطينا زيتًا ونورًا وغذاءً واستقلالًا، وتعيدنا إلى المعنى الأوّل للأرض، أن نكون أسيادها لا أجراءها، ربّما نعم هي لا تدرّ المال السريع، لكنّها تمنح حبًّا وخيرًا وديمومة غذاء طويلة الأمد.

قطاف الزيتون موسم خير وبركة، وليس موسم خوف وقلق وترقّب، من يزرعه يعرف أنّ عائده ليس في جدواه الاقتصاديّة، بل في جذورٍ تزداد عمقًا على مرّ السنين، فيما يبقى التبغ منتجًا بلا ذاكرة، مهما اخضرّت أوراقه، يعيش موسمًا واحدًا ويموت، كأنّما يذكّر المزارع بأنّه لا يملك شيئًا سوى تعبه الموقّت.

من خلال شتلة التبغ، لم تحتكر “الريجي” الزراعة وحسب، بل أمسكت بلقمة عيش آلاف العائلات التي علّقت آمالها على رخصتها السنويّة القائمة على دورة اقتصاديّة مغلقة لا ترحم، تتحكّم بها الريجي، تشتري الإنتاج بأسعار تحدّدها هي، وتمنع التصدير الحرّ، وتكبح أيّ بدائل.

زراعتان عائليّتان

على الرغم من عدم التشابه بين الزراعتين، لكنّ المقاربة هنا رمزيّة، إلّا أن هناك قواسم مشتركة تجمعهما، وهي أنّهما زراعتان عائليّتان، فعلى تعب شتلة التبغ تجتمع العائلة وتعاني، وحول قطاف الزيتون تلتمّ العائلة وتفرح، في طقسين متناقضين يعكسان تضاد تجمعهما أرض واحدة.

وبينما يُجمع الخبراء أنّ الجدوى الاقتصاديّة لزراعة الزيتون غير مربحة نسبة إلى المساحات المزروعة، وكلف الرعاية والقطاف، يواصل الجنوبيّون زراعة الزيتون والاعتناء بتلك الشجرة، وهذا ما يعكس تمسّكًا برمزيّتها في الوعي الجمعيّ الجنوبيّ، في ظلّ تراجع الدعم الرسميّ لتلك الزراعة، وغياب السياسات الزراعيّة الذكيّة التي تمنحها أدوات التحوّل والإنتاج الكثيف.

قيد وحريّة

الانتقال من زراعة التبغ المغلولة بالقيود والتعب واستبدالها بزراعة أخرى، لا يُعتبر استبدالًا لمنتج زراعيّ بآخر، بقدر ما هو استبدال لفلسفة زراعيّة إنتاجيّة بأخرى، وهو انتقال من عبوديّة السوق الواحد إلى اقتصادٍ قائم على العمل الحرّ والإنتاج المستدام، وهذا ما يعرفه جيّدًا المزارع الذي يجمع بين الزراعتين، فحين يزرع الزيتون، يزرع حرّيّته وحين يزرع التبغ يظلّ مقيّدًا وأسيرًا وقلقًا إلى حين صدور التسعيرة والتسليم.

والانتقال إلى زراعة أخرى، ليس بالضرورة أن تكون زيتونًا، فهناك زراعات واعدة بدأ المزارعون يعتمدونها كخيار ناجح، منها الصعتر الذي أثبتت التجارب أنّه بديل زراعي جيّد عن شتلة التبع، فهو يعطي أربعة مواسم في العام الواحد، والطلب عليه يزداد باستمرار، وأسعاره مقبولة، فيما دورة الإنتاج فيه لا تتطلّب الجهود المضنية التي تُبذل خلال العمل في زراعة التبغ.

على الجنوب الذي قاوم ولا يزال منذ عشرات السنين، أن يتحرّر من أوجه العبوديّة جميعها، بما فيها الزراعيّة المتمثّلة بشتلة التبغ

يُشبه الزيتون الجنوب، يصمت لكنّه لا يستسلم، يُجرح لكنّه لا يموت، كلّ ندبة في جذوعه شاهدة على حكاية، على رغم كلّ شيء يواصل النموّ بصمتٍ، يعلّمنا أنّ المقاومة ليست فقط بالبندقيّة، بل بالجذور التي ترفض الموت والاقتلاع.

الزيتون لم يعد أشجارًا وأغصانًا وحسب، بل معنى يرمز إلى البقاء على قيد الحرّيّة، البقاء الذي لا يحتاج إلى إذن من أحد. هو مشروع سياديّ غذائيّ حقيقيّ، ففي عالمٍ يشتدّ فيه الجوع وتنهار فيه الاقتصادات الهشّة، تصبح الزراعة المستدامة خيارًا استراتيجيًّا لا ترفًا بيئيًّا.

بين التبغ والزيتون

الزيتون لا يُنتج زيتًا فقط، بل هويّة وطنيّة بأبعادها ورمزيّتها، يعيد توجيه المزارعين نحو إنتاجٍ نظيفٍ يوفّر الغذاء والفرص، بدل إنتاجٍ يعتمد على الاحتكار والضرائب والدخّان. لذا على الجنوب الذي قاوم ولا يزال منذ عشرات السنين، أن يتحرّر من أوجه العبوديّة جميعها، بما فيها الزراعيّة المتمثّلة بشتلة التبغ. على المزارع أن يتحرّر من تعبٍ لا يثمر حرّيّة، ومن وجع مُحتكر يُعاد إنتاجه كلّ موسم تحت مسمّى “الصمود”.

من عاش في الجنوب وعايش الزراعتين وتفاصيلهما عن قرب، يعرف الفرق، بين من يزرع الأرض حبًّا لها، ومن يُجبر على زراعتها كي يبقى على قيد العيش ليس أكثر.

امرأة في بلدة برعشيت الجنوبية وموسم الزيتون الذي غنمت به هذا العام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى