مشكلة الانترنت في الجنوب معاناة إنسانية وعزلة رقمية

يُمثّل قطاع الاتّصالات جزءًا لا يتجزّأ من نسيج الحياة اليوميّة، ومع كلّ تصعيد عسكريّ، وتهديد وإشعار إنذار، يؤكّد دوره المحوريّ كشريان أساسيّ للتواصل بل وللنجاة. في جنوب لبنان، حيث امتدّت الحرب الإسرائيليّة الأخيرة لتشمل البنى التحتيّة الحيويّة، وفي مقدّمها شبكة الاتّصالات، مازال الأهالي يواجهون تحدّيات مضاعفة لضمان الحصول على خدمات الاتّصالات في ظلّ الوضع الأمنيّ السائد ومعاناةٍ معزّزة بالعزلة الرقميّة. إنّها تحدّيات تفتح الباب للغوص في واقع معقّد إذ البقاء متّصلًا بات جزءًا لا يتجزّأ من الكفاح اليوميّ في عديد من القرى.

قُرى خارج التغطية

بعد مرور قرابة عام على إعلان “وقف إطلاق النار”، خلال الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، لا يزال مواطنون يعانون من مشاكل كبيرة على صعيد الاتّصالات والإنترنت، حتّى في بعض القرى البعيدة نسبيًّا عن الشريط الحدوديّ. تتكرّر الشكاوى نفسها: لا إنترنت، لا تغطية هاتفيّة، ولا شبكات.

عن الواقع، يتحدّث الناشط السياحيّ هشام نجدي، مؤسّس صفحة (مدينة) صور “Tyre Page”، في حديثٍ إلى “مناطق نت”، قائلًا إنّه سبق أن تناول في وقتٍ سابق مشكلة ضعف شبكة الإرسال والاتّصالات في مدينة صور. وأشار إلى أنّ الصفحة تلقّت عديدًا من الشكاوى من سائحين عرب وأجانب ومغتربين زاروا المدينة، عبّر معظمهم عن استيائهم من ضعف الشبكة وصعوبة استخدام الإنترنت.

وأضاف أنّه “على رغم تحسّن الخدمة نسبيًّا عمّا كانت عليه بعد وقف إطلاق النار مباشرةً، إلّا أنّها لا تزال دون المستوى المطلوب، إذ إنّ انقطاع الإرسال يؤثّر بشكل كبير في الحركة السياحيّة في المدينة”.

بعد عام على وقف إطلاق النار، لا يزال الجنوبيون يعانون في مناطق واسعة من ضعف الشبكة، وفي مناطق أخرى انقطاع تام (الصورة من موقع SMEX)

ويتابع “عادةً لا يتوجّه الناس إلى البلديّة لتقديم شكاوى من هذا النوع، بل يرسلون رسائل مباشرة إلى صفحتنا، وقد وصلتني بالفعل عشرات الرسائل التي تعبّر عن استياء الزوّار من سوء الخدمة في المنطقة”.

ويؤكد نجدي “صور لا تقلّ أهمّيّة عن أيّ مدينة أخرى في لبنان، وهذا ما شدّدنا عليه عند مطالبتنا بحلّ المشكلة. فهي مدينة سياحيّة بامتياز، وعلى رغم كلّ ما شهدته من دمار، فقد استقبلت أعدادًا كبيرة من السيّاح خلال الصيف الماضي”.

شبكات مقطوعة ومعاناة يوميّة

أمّا عن حصيلة الأضرار الواقعة في قطاع الاتّصالات، فقد كشف الوزير السابق جوني القرم خلال كانون الأول (ديسمبر) العام الماضي، عن أنّ الأرقام التقديريّة الأوّليّة للأضرار تباينت بين “88 مليون دولار و117 مليون دولار”.

وتصف روان مهنّا، من بلدة جبال البطم (صور)، لـ “مناطق نت”، كيف بدأت مشكلة ضعف الإرسال منذ اندلاع الحرب على غزّة (بعد السابع من تشرين الأّول/ اكتوبر 2023)، حين بدأ الاتّصال يتأثّر تدريجًا، قبل أن يزداد سوءًا في الفترة الأخيرة.

وأوضحت مهنّا أنّ “الإرسال في البلدة كان جيّدًا في السابق، وأحيانًا كان ينقطع ثمّ يعود، كذلك فإنّ خدمة الإنترنت عبر الـ ‘واي فاي‘ كانت تعمل بشكل مقبول، لكن بعد تطوّر الأحداث ووقف إطلاق النار، أي منذ ذلك الحين وحتّى اليوم، لا يوجد إرسال على الإطلاق، وأحيانًا نلتقط إشارة ضعيفة جدًّا”.

ثمّة 21 محطّة مدمّرة بالكامل في الجنوب، معظمها يقع قرب الحدود، تمّت إعادة محطّتين منها إلى الخدمة، فقط حتّى الآن

وأضافت مهنّا أنّ “البعض يظنّ أنّ ضعف الإرسال أمر بسيط، لكنّ المشكلة تطال أيضًا خدمة الـ 3g، فحين أكون في الضيعة وأرغب في الاتّصال بأحد، قد أنتظر نصف ساعة أو أكثر قبل أن يلتقط الهاتف إشارة، فلا شيء يعمل، لا الإرسال العاديّ، ولا الإنترنت، ولا حتّى الواي فاي”.

وشدّدت مهنّا على أنّ هناك معاناة حقيقيّة يعيشها السكّان، بخاصّة عند الحاجة إلى التواصل أو إجراء مكالمة ضروريّة،. مشيرةً إلى أنّ في هذه القرى “أناسًا يعيشون بشكل دائم، فتخيّل أن تمضي غالبيّة وقتك غير قادر على التواصل مع العالم أو حتّى مع أقرب الناس إليك”.

وتقول مهنّا إنّ الوضع صعب للغاية والمعاناة كبيرة، إذ تكاد خدمة الإرسال تنعدم تمامًا في هذه المناطق، بخلاف مناطق أخرى قد تكون أفضل حالًا.

“ألفا”: 19 في المئة محطّات متضرّرة

من جهتها، أكّدت مصادر في شركة “ألفا” لـ “مناطق نت”، أنّ الشركة أعادت إلى الخدمة 87 محطّة من أصل 107 متضرّرة. أمّا النسبة المتبقّية، وهي 19 في المئة من المحطّات المتضّررة، فأشارت إلى استكمال العمل من أجل إعادتها إلى الخدمة، في المناطق التي يمكن أمنيًّا العمل فيها.

ووفقًا للمصادر، فثمّة 21 محطّة مدمّرة بالكامل في الجنوب، معظمها يقع قرب الحدود، تمّت إعادة محطّتين منها إلى الخدمة، فقط حتّى الآن. وأفادت أنّ ألفا وضعت في الخدمة أربع محطّات موقّتة في كلّ من رميش (بنت جبيل) وحولا والخيام وميس الجبل (مرجعيون).

أشارت “تاتش” إلى أنّها استحدّثت حلولًا بديلة، أبرزها نشر محطّات نقّالة (MBTS) في حوش صور، ميس الجبل، والخيام، ويجري حاليًّا تجهيز محطّة جديدة في بنت جبيل لتحسين الخدمة.

كذلك أشارت مصادر الشركة إلى أنّ المحطّات الحدوديّة التي سبق لألفا أن أعادت العمل بها تغطّي نطاقًا يشمل بلدات في محافظتي النبطية والجنوب، هي: بنت جبيل والخيام والماري وحلتا والوزّاني وبرج الملوك والقليعة وكفركلا والطيبة ودير سريان وحدّاثا وعيتا الجبل والطيري وكونين وعيناتا وإبل السقي ودبّين ومرجعيون والرشيديّة والحوش ودير قانون رأس العين وجبال البطم وصدّيقين وأرنون ودير ميماس وبيت ليف وياطر ورشاف وعيتا الشعب ودبل وحانين ومجدل زون والقوزح وعين إبل وحولا ومارون الراس وقبريخا والغندوريّة وبرج قلاويه وبني حيّان والقنطرة.

“تاتش”: أعمال الصيانة مستمرّة

أمّا بخصوص شركة “تاتش”، فقد أوضحت مصادرها (في حديثها لمناطق نت)، أنّ أعمال صيانة المحطّات المنتشرة في كلّ من صور وبنت جبيل وجزّين ومرجعيون وميس الجبل مستمرّة. مشيرةً إلى أنّها تُنفَّذ بالتنسيق اليوميّ مع وزارة الاتّصالات، بهدف تحسين جودة الشبكة وتجاوز نسبة التغطية الحاليّة التي تقول الشركة إنّها بلغت نحو 90 في المئة.

وفي ما يتعلق بالتحدّيات، رأت الشركة أنّ “العائق الأكبر يتمثّل في عدم التمكّن من الدخول إلى المواقع المنتشرة على طول الخطّ الحدوديّ”، مضيفةً “هذا الأمر خارج للأسف عن نطاق سيطرتنا”.

وكشفت عن وجود 15 محطّة خارج الخدمة في الجنوب لأسباب متعدّدة. لافتةً إلى أنّ إعادة تشغيلها مرهونة بالظروف الأمنيّة، إذ تقع معظمها على طول الخطّ الحدوديّ، ما يؤثّر أحيانًا في جودة الاتّصالات في تلك البلدات، خصوصًا خلال فترات الذروة.

وفي المقابل، أشارت “تاتش” إلى أنّها استحدّثت حلولًا بديلة، أبرزها نشر محطّات نقّالة (MBTS) في حوش صور، ميس الجبل، والخيام، مضيفةً أنّه يجري حاليًّا تجهيز محطّة جديدة في بنت جبيل لتحسين الخدمة.

“نُغلق الخط أكثر من مرة”

تقول سامية إسماعيل، من بلدة جويّا (صور)، لـ “مناطق نت”: “الخدمة في البلدة لم تكن جيّدة قبل الحرب، لكنّها تدهورت تمامًا بعدها، حتّى باتت منعدمة داخل المنزل”. وتردف “في غرفة النوم أو الصالون لا يوجد إرسال ولا حتّى تغطية إنترنت. وإذا احتجت إلى إجراء اتّصال أو أمر ضروريّ، أضطرّ إلى الخروج نحو الشارع.”

وتضيف أنّ هذا ما جعل زياراتها إلى البلدة قليلة، “إذ أصبح التواصل مع العائلة والأصدقاء صعبًا جدًّا”، وتتابع: “خلال الدقائق القليلة التي نتحدّث فيها، نضطرّ إلى إغلاق الخطّ أكثر من مرّة”.

وتشير سامية إلى أنّ هذا الوضع يؤثر فيها كثيرًا عندما تتواجد في البلدة، لا سيّما وأنّها تدرس وتعمل في مجال الإعلام، ما يجعل حاجتها إلى الإنترنت والتواصل الدائم أمرًا أساسًا لا يمكن الاستغناء عنه.

بلغت حصيلة الأضرار في قطاع الاتّصالات خلال الحرب، بحسب الوزير السابق جوني القرم ما بين 88 مليون دولار و117 مليون دولار.
لا خلفيات سياسيّة للإصلاحات

من ناحيته، نفى مصدر في وزارة الاتّصالات لـ “مناطق نت” ما يُتداول حول وجود متطلّبات أو اعتبارات سياسيّة للإصلاحات.

وأكّد أنّ وزير الاتّصالات شارل الحاج أعطى توجيهاته منذ اليوم الأوّل بضرورة معالجة الأعطال فورًا، في حدود ما تسمح به الظروف الأمنيّة، سواء في الضاحية الجنوبيّة أو الجنوب أو البقاع أو سائر المناطق اللبنانيّة.

“لا g4 أو حتّى 3g”

تؤكّد الصحافيّة خلود شحادة، من بلدة معروب (صور)، في حديثٍ لـ “مناطق نت”، أنّ “الواقع لا يقتصر على ضعف متقطّع في الشبكة، بل هو انقطاع تامّ في معظم الأحيان”. وتوضح: “إنْ أردت أن تلتقط إشارة، فعليك أن تخرج إلى الشارع أو تصعد إلى السطح، وربّما في بعض الأماكن المرتفعة فقط يمكن أن تجد إشارة ضعيفة”.

وتضيف شحادة أنّ “انسَ وجود خدمة g4 أو حتّى 3g، والواي فاي أيضًا لا يعمل في معظم البيوت، لأنّ جزءًا كبيرًا من الكابلات والبنى التحتيّة تضرّر بطبيعة الحال”.

وترى أنه “على رغم اعتبارنا من قرى الساحل، إلّا أنّنا نعاني كثيرًا في هذا المجال. لم أعد أستطيع الذهاب إلى الجنوب مثلما كنت أفعل سابقًا، حيث كنت أقضي هناك عطلات نهاية الأسبوع وكلّ الإجازات”. وتتابع: “لا أستطيع الذهاب حاليًّا، ليس خوفًا من القصف أو من إسرائيل، بل لأنّني، بحكم عملي الصحافيّ، لا أستطيع أن أعمل هناك من دون إنترنت أو إرسال، وفي ظلّ خدمة معدومة تمامًا”.

ما يحدث مع الصحافية خلود شحادة وغيرها كثيرين، ربّما يلخّص جوهر الأزمة؛ فما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالقصف والدمار، يتسبّب به ضعف شبكات الاتّصال في بعض القرى، وإن بشكل مختلف تمامًا، إذ جعل كثيرين يعيشون عزلة رقميّة قسريّة، ومقطوعي الصلة بالعالم الخارجيّ. أو تجعل آخرين عاجزين حتّى عن زيارة قراهم.

اليوم، لا يمكن فصل الحقّ في الاتّصال عن الأمن الإنسانيّ، ولا التعامل معه كخدمة ثانويّة. فإصلاح واقع الاتّصالات في الجنوب ليس مجرّد مسألة تقنيّة، بل ضرورة وجوديّة للبقاء تفرض مزيدًا من الجهد، كي تضمن للسكّان أبسط حقوقهم في التواصل والاطمئنان إلى ذويهم وأقاربهم، وقد تكون في لحظات الخطر وإشعارت الإنذارات النقطة الفارقة بين الحياة والموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى