العلاج النفسيّ في لبنان فقط لمن يستطيع إليه سبيلًا

لم تتردّد أمّ سامي في سرد قصّة شقيقتها سعاد (اسم مستعار)، والتي بدأت معاناتها النفسيّة بعد حرب تمّوز (يوليو) العام 2006. تقول لـ “مناطق نت”: “بعدما تهجّرت أختي مع عائلتها إلى سوريا ولجوئهم إلى مدرسة في مدينة القصير في محافظة حمص، بدأت تظهر على أختي أعراض الوسواس القهريّ”. تتابع “وعندما تفاقمت حالتها، ذهب بها أبي إلى طبيب نفسيّ في بيروت، وهناك تمّ تشخيص حالتها بأنّها مصابة بمرض ثنائيّ القطب، حالها الصعبة دفعت والدي الذي كان قد حصل على تعويضه بعدما تقاعد من العمل، بتكفّل نفقات علاجها، وذلك في قسم الطبّ النفسيّ، في إحدى المستشفيّات الخاصّة ببيروت، فدفع نحو عشرة آلاف دولار مقابل مكوثها مدة أسبوعين في تلك المستشفى”.
على رغم ذلك، تأسف أمّ سامي لأنّ حال أختها لم تستقرّ بعد خروجها من المستشفى، وبدأ البحث عن طبيب آخر لفهم حالتها بدقّة أكثر، والطبيب الآخر أوصى بإدخال (سعاد) مجدّدًا إلى المستشفى، لأنّ وضعها يستدعي ذلك. في حينه، تشير أم سامي إلى أنّ العائلة دفعت مبلغ 750 دولارًا لقاء ذلك، بعد أن غطّت وزارة الصحّة 10 في المئة من الكلف.
صعوبة تحمُّل كلف العلاج
ليست حال (سعاد) سوى واحدة من حالات كثيرة يشكّل العلاج النفسيّ عبئًا كبيرًا عليها، وصولًا إلى عدم القدرة على تحمّل تلك الأعباء، ما يدفع عديدًا من تلك الحالات إلى طلب تعديل الجرعات، أو تغيير نوع الدواء أو التوقّف تلقائيًّا عن تناوله، ليس نتيجة آثار جانبيّة حدثت أو لتحسّن ما، إنّما بسبب العبء الماليّ الثقيل الذي يواجهونه.
تنقسم خدمات الصحّة النفسيّة في لبنان إلى مستويات متعدّدة، تبدأ من الاستشارات إلى علاج طويل الأمد مع أطبّاء نفسيّين، يشمل ذلك العلاج النفسيّ، صرف الأدوية، والإقامة في المصحّات المتخصّصة.
على الرغم من أنّ نقابة الأطباء النفسيّين حدّدت بدل المعاينة بخمسين دولارًا، إلّا أنّ هناك عددًا ضئيلًا جدًّا من الأطبّاء يلتزمون بهذه التسعيرة
يوضح البروفسور رامي أبو خليل، مدير قسم الطبّ النفسيّ في مستشفى “أوتيل ديو” أنّ “كثيرًا من المرضى لا يستطيعون تغطية كلف العلاج، خصوصًا في ظلّ أزمة اقتصاديّة تجعل الأمراض النفسيّة لا تُعتبر أولويّة عند الناس، ما يؤدّي إلى تأجيل العلاج، فينتج عنه تفاقم حال المريض”.
ويتابع أبو خليل لـ “مناطق نت”: “في العيادة نساعد هذه الحالات، لكنّ المشكلة تكمن في دخول المستشفى، حيث تصل الكلفات إلى آلاف الدولارات، فيلجأ معظم المرضى إلى البحث عن مصادر دعم فرديّة داخل محيطهم. أمّا الحالات التي لا تستطيع تحمّل الكلفة على الإطلاق، فإنّ مستشفى أوتيل ديو تستقبلهم وتبذل جهودًا لإيجاد حلول مناسبة لهم”.
علاج خارج القدرات
على الرغم من أنّ نقابة الأطباء النفسيّين حدّدت بدل المعاينة بخمسين دولارًا، إلّا أنّ هناك عددًا ضئيلًا جدًّا من الأطبّاء يلتزمون بهذه التسعيرة، والقسم الأكبر منهم تتجاوز كلفة المعاينة لديهم عتبة الـ 100 دولار. يردّ البروفسور أبو خليل ذلك التفاوت إلى أنّ “درجة الطبيب العلميّة وخبرته في مجاله هي التي تحدّد كلفة المعاينة”.
عن الأعباء التي فاقت قدرتهم على تحمّل علاج شقيقتها (سعاد) تقول أمّ سامي: “نتيجة وضعها الذي ساء كثيرًا، لم تعد العائلة قادرة على تحمّل كلفة علاجها، فاضطرّ والدي إلى وضعها في دار العجزة ببيروت، غير أنّ الأوضاع هناك لم تكن مناسبة لحالتها النفسيّة”.
وتتابع أمّ سامي “بسبب ارتفاع كلف المعيشة في بيروت، قرّر أهلي الانتقال إلى البقاع حيث لديهم منزل يوفر عليهم مصاريف السكن. لكنّ حالة شقيقتي سعاد ازدادت هناك سوءًا، فأدخلوها للمرّة الثالثة إلى إحدى المستشفيات الخاصّة، والتي حاولت مراعاة وضع أهلي الاقتصاديّ، إلّا أنّنا اضطررنا إلى إخراجها بسبب عدم قدرتنا على تحمّل كلفة العلاج المستمرّة، وتكبّد مصاريف المواصلات الدائمة إلى بيروت”.
مراكز الرعاية الصحّيّة
يقارب الرقم الإجمالي لمراكز الرعاية الصحّيّة التي تعتمد طبيبًا نفسيًّا الـ 60 في مختلف أنحاء لبنان، لكنّها لا تلبّي الطلب المتزايد على خدمات الصحّة النفسيّة. لذا، تغطّي بعض الجمعيّات هذا النقص بصورة بارزة. تقول الطبيبة كارولين طرّاف، مسؤولة القسم النفسيّ في “مؤسّسة عامل” ذات الخبرة الطويلة في المجال “بدأ برنامج الصحّة النفسيّة في مؤسّستنا العام 2020، ومتوافر حاليًّا في ثمانية مراكز تغطّي الجنوب والبقاع وجبل لبنان والشمال”.
تتابع طرّاف لـ “مناطق نت”: “نقدّم خدمات متكاملة تشمل الدعم والعلاج النفسيّ، بالإضافة إلى الوصفات الدوائيّة، ضمن تعاون وثيق مع البرنامج الوطنيّ للصحّة النفسيّة بوزارة الصحّة، ونوفّر الأدويّة المعتمدة من الوزارة عبر جمعيّة الشبّان المسيحيّة بشكل شبه مجّانيّ، مستهدفين بذلك جميع الأشخاص مهما اختلفت جنسيّاتهم وطوائفهم”.
حول عمل هذه الجمعيّات يعلّق البروفسير أبو خليل: “دورها مهمّ جدًّا في تقديم الاستشارات والرعاية الصحّيّة الأوّليّة، ويتكامل مع عملنا، ولكنّ عملنا متخصّص ومتقدّم أكثر”.

وإذا كانت مراكز الرعاية الصحّيّة تقدّم خدمات أوّليّة للمرضى، فماذا يفعل المرضى من ذوي الدخل المحدود الذين يحتاجون إلى ما هو أكثر؟ في هذا الإطار تشرح أمّ سامي: “تحوّلت أختي إلى حقل تجارب للأطبّاء، وكانت حالتها تتدهور بسرعة بعد تغيير العلاج، ومن جديد اضطررنا إلى إدخالها المستشفى للمرّة الرابعة، حيث أمضت هناك نحو خمسة أشهر بسبب الاكتئاب الحادّ الذي كانت تعاني منه، وبلغت كلفة المستشفى 2300 دولار، فذهبنا إلى الجمعيّات الدينية طلبًا للمساعدة”.
تتحسّر أم سامي فتقول: “بوّسنا أيادي كتير، ولم نستطع تأمين المبلغ كاملًا، ولجأنا إلى بعض الخيّرين في الضيعة لتأمين المبلغ المتبقّي”.
أسعار الأدوية لا تحاكي الاستشفاء
على الرغم من ارتفاع كلف المعاينات النفسيّة وكلف دخول الأقسام النفسيّة داخل المستشفيات، فإنّ أسعار الأدويّة المتعلّقة بالأمراض النفسيّة مقبولة، وذلك وفق ما قاله الدكتور حسن قنديل، وهو صاحب إحدى الصيدليّات في بيروت، لـ “مناطق نت”. وتابع قنديل “إنّ أسعار مضادّات الاكتئاب مقبولة جدًّا مقارنة بأسعار الأدوية الأخرى، حيث تتراوح أسعارها ما بين 500 ألف ومليون و500 ألف ليرة لبنانيّة، لكنّ ذلك يعتمد على حال المريض وكمّيّة الدواء الموصوفة له ووضعه الاقتصاديّ”. أمّا عن ارتفاع الكلفة الاستشفائيّة فيردّ قنديل ذلك “إلى الأعباء التشغيليّة للمستشفيات والأطبّاء المتعاقدين معهم.”
تتحدّث أمّ سامي عن واقع مأسويّ يعيشه كثير من المرضى النفسيّين في لبنان، قائلة: “كثير منهم غير قادر على العمل، فتتحمّل عائلاتهم عبء دفع فواتير الأدوية، ومصاريف أخرى في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة”. وتشير إلى أنّ “أختي تحتاج شهريًّا إلى مبلغ 35 دولارًا، وهذا مبلغ كبير مقارنة بالرواتب المتدنّية التي نتقاضاها”.
إنّ “الدعم الحكومي لا بد من أن يتضاعف، لأنّ معاناة المرضى النفسيّين ليست عبئًا يتحمّله المريض وحسب، بل يمتدّ ليشمل الأسرة بأكملها، ما يستدعي أن يكون الدعم الحكوميّ للأمراض النفسيّة أولويّة لدى وزارة الصحة” تختم أمّ سامي.



