أحراج بعلبك الهرمل يستنزفها القطع العشوائي والحرائق والإهمال

تشهد الثروة الحرجيّة في البقاع تدهورًا متسارعًا، لا سيّما في الجرود الممتدّة على طول السلسلة الغربيّة وجزء من السلسلة الشرقيّة. خلال السنوات الماضية، شكّلت الأزمة الاقتصاديّة وارتفاع أسعار المازوت، ذريعة للناس كي تقطع الأشجار بغرض التدفئة، ما زاد الضغط على هذه الموارد الطبيعيّة المهمّة جدًّا، لكن الهشّة في الوقت نفسه.
فمنذ العام 2019، تاريخ الانهيار والأزمة الاقتصاديّة، وحتّى مطلع العام 2025، يحمل حطّابو المنطقة مع بداية كلّ فصل شتاء، مناشيرهم متّجهين نحو الأحراج المنتشرة في الجرود البقاعيّة، يقطعون كلّ ما تقع عليه أيديهم.
أحراج متنوّعة
تمتدّ هذه المساحات الحرجيّة الواسعة من مفترق يونين جنوبًا حتّى رأس بعلبك شمالًا، وتشمل بلدات: شعت، نبحا، القليلة، الحرفوش، القدّام، قرحا، ريحا، حربتا، صبوبا، حلبتا، مزرعة بيت اللقيس، وادي فعرا، وحرج رأس بعلبك، إضافةً إلى جرد عرسال (وادي رعيان)، ما يجعلها إحدى أغنى المناطق اللبنانيّة بالغابات.
وفي قضاء الهرمل، تمتدّ الأحراج من وادي النيرة، وادي بنيت، العميري، على الطويل، فيسان، البستان، القصر، السوَح، جوار الحشيش، وصولًا إلى مرجحين.
تتميّز هذه الجرود بتنوّع نباتيّ كبير، يشمل اللزّاب، أشجار السنديان بأنواعه الخمسة، الصنوبريّات الإبريّة، الأرز، الزعرور البرّي، الإجّاص البرّيّ والقيقب، إضافةً إلى نباتات البربريس والصعتر البرّي. هذا التنوّع يثري البيئة المحلّيّة ويمنح الجرود مساحات من الخضرة الكثيفة والحيّة.

ثروة طبيعيّة وأخطار محدقة
يشير الناشط البيئيّ علي عبد المولى محفوظ إلى أنّ أحراج بعلبك– الهرمل تُعدّ من أبرز الثروات الطبيعيّة في البقاع الشماليّ، ومع ذلك، تواجه هذه الثروة منذ سنوات طويلة خطر التدهور، نتيجة القطع العشوائيّ، الحرائق، الرعي الجائر والتوسّع العمرانيّ غير المنظّم”. يتابع لـ “مناطق نت”: “ازداد الطلب على الحطب كمصدر بديل للتدفئة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بعد ارتفاع أسعار المازوت بسبب الانهيار الاقتصاديّ، ما أدّى إلى موجة واسعة من الاعتداءات على الأحراج، بلغت ذروتها بين عامي 2020 و2022”.
مخالفات وتعدّيات
في الوقت الذي يخضع فيه قطع وتشذيب هذه الأحراج للقوانين، ولا يتمّ إلّا بموجب تراخيص، تسجّل في المقابل عديد من المخالفات والتعدّيات. في هذا السياق، يشير مدير مكتب الأحراج في شعت، راسم سكّريّة، إلى أنّهم استطاعوا هذا العام تخفيض نسبة القطع لتصل إلى نحو النصف. يتابع لـ “مناطق نت”: “بحسب محاضر الضبط، راوحت المحاضر المسجّلة سنة 2019 بين 60 و70 محضرًا، بينما سجّل العام 2025 نحو 19 محضرًا فقط”. يعزو سكّريّة ذلك “إلى متابعة الملفّ بجدّيّة أكبر، بالإضافة إلى توكيل قاضٍ بيئيّ بدلًا من قاضي الجزاء للنظر في هذه القضايا”.
مافيات الحطب تبيد الأحراج
إنّ حماية الأحراج واجب وطنيّ ومقدّس. فالأشجار المعمّرة، والأشجار التي لا تتكاثر بسهولة مثل اللزّاب، وجب الحفاظ عليها، والمسؤوليّة في ذلك مشتركة، تقع على عاتق الجميع، بدءًا بأصحاب الأحراج، والذين في حال تقاعسوا أو تآمروا، تقع المسؤوليّة حينها على مديريّة الأحراج ومكتبها في المنطقة، إضافةً إلى البلديّات، الجيش وقوى الأمن.
سكرية: كانوا يقطعون خلال 24 ساعة نحو خمسين طنًّا من أشجار السنديان، وعندما قلّ عددها، اتّجهوا نحو قطع اللزّاب الذي يُمنع قطعه
يشير سكّريّة إلى أنّ “الجيش يقوم بعمله بنسبة 90 في المئة، وعادةً ما يكون التدخّل العسكريّ هو الخيار الأخير، لكنّ التعاون الأكبر يجب أن يكون مع البلديّات من خلال الإبلاغ عن أسماء المعتدين لردع عمليّات القطع، إلّا أنّ جزءًا كبيرًا من هذه البلديّات غير متعاون في هذا المجال”، يقول سكّريّة.
ويتابع: “على الوزارة أن تعمّم على المحافظين، وجوب تكليف عضو بلديّ في كلّ بلديّة، ليحمل مسؤوليّة توقيع محاضر الضبط لضمان الجدّيّة في متابعة القضايا”. ويضيف سكّريّة: “بعض المناطق شهدت خلال السنوات الماضية إبادة للأحراج، مثل جرديّ نبحا وحلبتا، ولم يكن ذلك من أعمال الحطّابين العاديّين، بل مافيات الحطب التي كانت تشغّل نحو 20 عاملًا، معظمهم مطلوبون قضائيًّا ويقيمون في الجرود”.
اللزّاب المحرّم قطعه
في هذا السياق يقول سكّريّة: “كانوا يقطعون خلال 24 ساعة نحو خمسين طنًّا من أشجار السنديان، وعندما قلّ عددها، اتّجهوا نحو قطع اللزّاب الذي يُمنع قطعه تحت أيّ ظرف، فاللزاب لا يحمل فروعًا كثيرة، ويمكن قطع طنّ منه خلال ساعة واحدة”.
وبحسب سكّريّة، نشطت هذه الظاهرة في العام 2020، حيث كانت الاعتداءات تتمّ غالبًا خلال الليل، أو في عطلات نهاية الأسبوع حين يغيب موظّفو مكاتب الأحراج، “وبالتعاون مع مخابرات الجيش والقوى الأمنيّة، حرّرنا محاضر ضبط غيابيّة بحقّهم”.

يضيف سكّريّة أنّ ذلك “أسهم في تقليل نسبة القطع، إذ شكّلت النسبة خلال السنوات الماضية وحتّى مطلع هذا العام، نحو 40 في المئة من مساحة الأحراج، أيّ أقلّ من النصف بقليل، لكن بعد الإجراءات الصارمة هذا العام انخفضت النسبة لتصل إلى 15 في المئة. ساعد في ذلك تعاون الجيش وفتح الملفّات القديمة في القضاء، وأيضًا أنّ أسعار الحطب لم تعد أقلّ من المازوت حيث بلغ سعر طن السنديان 200$ واللزاب 130$.
التشحيل والرخص
إنّ إحدى العقبات الكبرى التي تقف عائقًا أمام منع القطع العشوائيّ وغير القانونيّ، هي الحصص الإرثيّة المشتركة. فالحصول على رخصة تشحيل تتطلّب موافقة ممّن يملكون 1800 سهم من العقار، ما يجعل الحصول على الترخيص صعبًا. نتيجة لذلك، يلجأ بعض الحطابين إلى القطع دون ترخيص. وفي هذا الإطار، يشير سكرية إلى أنّ التشحيل ممنوع من نيسان (أبريل) حتّى أيلول (سبتمبر)، وأعمال التفحيم ممنوعة من حزيران (يونيو) حتّى تشرين الأوّل (أكتوبر) لتفادي الحرائق.
ويتابع: “ثمّة جزء من الحطّابين لا يملك عملًا أو مصدر دخل ثابت، وغالبًا ما يلجأ إلى قطع الأشجار إمّا بداعي الحاجة وإمّا بسبب ظروفه المادّيّة الصعبة. لهذا السبب، من الممكن تقديم وظائف للحطّابين في مشاريع التحريج، ما قد يغيّر من وجهة نظر الحطاب تجاه قطع الأشجار”.
الرعي الجائر
تعاني هذه الأحراج أيضًا من الرعي العشوائيّ، على رغم أنّ القانون يشترط الحصول على تصريح من البلديّة لرعي المواشي، مع إلزامية تخصيص 15 في المئة من ضمان الرعي لأعمال التحريج. القانون موجود لحماية الأحراج، لكنّ التطبيق الفعليّ هو ما يصنع الفارق. فعمليّة التشحيل تتطلّب بدلًا ماليًّا، كذلك يجب مع قطع كلّ شجرة، غرس ستّ شجرات بديلة وفق مواصفات محدّدة، سواء من مشتل وزارة الزراعة أو من إحدى المشاتل المتعاقَد معها.
لا يمكن القول إنّ ظاهرة الاعتداء على الأحراج انتهت، فالتعدّيات لا تزال تحصل بشكل متقطّع وممنهج في بعض القرى، غالبًا خلال الليل أو في المناطق النائية
تراجع التعديات ولكن؟
تراجعت الاعتداءات على الأحراج، لكنّ هذا التراجع يبقى نسبيًّا وموقّتًا. يعزو الناشط البيئيّ علي محفوظ، هذا التراجع إلى “عوامل عدّة محتملة، منها نفاذ الأشجار في المناطق التي كانت تُستغلّ بكثافة، تشديد نسبيّ في المراقبة من قبل المسؤولين والقوى الأمنيّة وتراجع الطلب على الحطب أحيانًا مع توافر بدائل أخرى”.
يتابع محفوظ: “لا يمكن القول إنّ ظاهرة الاعتداء على الأحراج انتهت، فالتعدّيات لا تزال تحصل بشكل متقطّع وممنهج في بعض القرى، غالبًا خلال الليل أو في المناطق النائية البعيدة من الرقابة. وعلى رغم التراجع الطفيف الذي شهدته بعض المناطق، يبقى الخطر قائمًا ويهدّد النظام البيئيّ في المنطقة”.
البيئة في خطر
يُعتبر قطع الأحراج والاعتداء المستمرّ عليها أحد أبرز العوامل المهدّدة للبيئة والطبيعة في المنطقة. يقول محفوظ: “هذه الاعتداءات لا تقتصر على قطع الأشجار وحسب، بل تمتدّ إلى سلسلة آثار بيئيّة مدمّرة، منها: تعرية التربة وزيادة الانجراف، تراجع الغطاء النباتيّ، خسارة الموائل الطبيعيّة للحيوانات البرّيّة، تفاقم خطر الحرائق نتيجة الجفاف والتعرية وتراجع السياحة البيئيّة، التي يمكن أن تكون رافدًا اقتصاديًّا مهمًّا للمنطقة”.
يتطلّب الحفاظ على الأحراج ووقف التعدّيات تعاونًا بين مختلف الأطراف وتكاملًا في أدوارهم. يشير علي محفوظ إلى أنّه “لحماية هذه الأحراج، لا تكفي جهود البلديّات أو القوى الأمنيّة وحدها، بل تحتاج إلى مقاربة شاملة تشمل: تفعيل دور البلديّات ومكاتب الأحراج عبر خطط مراقبة دائمة وتطبيق القوانين بجدّيّة، تأهيل المجتمع المحلّيّ من خلال حملات توعية تشجّع على استخدام البدائل البيئيّة للتدفئة، إطلاق مشاريع تشجير وحماية بمشاركة الجمعيّات والمدارس والنوادي الشبابيّة، تأمين بدائل اقتصاديّة للسكّان الذين يعتمدون على قطع الأشجار كمصدر رزق، وإشراك المجتمع المدنيّ في الرصد والإبلاغ عن أيّ تعدٍ”.
الاستثمار في الأحراج
تتطلّب ثقافة الحفاظ على الأحراج، العمل على تشجيع السياحة البيئيّة. ففي كلّ من الهرمل وشعت توجد محميّات بيولوجيّة متنوّعة بالأشجار والطيور المستوطنة والرحّالة. ويمكن استثمار هذه الموارد عبر منح الصيّادين رخصًا منظّمة للصيد تحمي هذه المناطق، مع تحصيل ريع ماليّ يُعاد توجيهه إلى تنظيم الأحراج وزيادة مساحتها وتحسينها، ضمن إطار قانون الصيد، أيّ بعد استحصال الصيّاد على رخصة صيد وبندقيّة، وتسجيله في البلديّة، التي تتقاضى 15 في المئة من الريع لصالح أعمال التحريج في المنطقة.
كما يمكن إقامة مشاريع “هايكينغ” ونشاطات كشفيّة تسمح باستثمار هذه الأراضي الحرجيّة بطريقة مستدامة تحميها من الأضرار المباشرة.
مشاريع تحريج جديدة
لا يكفي الحفاظ على الأحراج ذات الأشجار المعمّرة، بل إلى زراعة أحراج جديدة تساهم أيضًا في زيادة المساحات الحرجيّة. ويعتبر سكّريّة أنّ “مشاريع التحريج تعوّض جزئيًّا عن فقدان عديد من الأحراج بفعل الإبادة”، مشيرًا إلى أنّ “الجمعيّات تقوم ببعض أعمال التحريج ولكن بشكل عشوائيّ، وهو ما يستدعي حصر عملها ضمن إطار وزارة الزراعة لضمان تنظيم المشاريع”.
من ناحيته يختم محفوظ: “إنّ هذه الأحراج تمثّل المساحات الخضراء التي من واجب كلّ إنسان الحفاظ عليها، وقطعها يشكّل جريمة بحقّ الوطن والبيئة. فالأحراج في بعلبك– الهرمل ليست مجرّد أشجار، بل هي رئة المنطقة وذاكرتها الحيّة. إنّ حمايتها واجب وطنيّ وأخلاقيّ وإنسانيّ، إذ إنّ ما يُدمّر اليوم يحتاج إلى عقود من أجل استعادته”.




