تجربة “روّاد التنمية” بطرابلس تحوّل بقايا الطعام إلى سماد عضويّ

أنجز التقرير: بلال لاغا، علياء الأطرش، دلع برهان، شهد الرفاعي
……..
في يوم عمل مُنتِج، تنهمك ميشا، الشيف في مطبخ “أطايب طرابلس” المجتمعيّ الذي أنشأته جمعيّة “روّاد التنمية”، لتلبية ثلاث ولائم من المطبخ الطرابلسيّ، مع مجموعة من طاهيّات من التبّانة وجبل محسن في طرابلس، حيث تقع الجمعيّة، وحيث ينخرط المجتمع المحلّيّ من سيّدات وشباب في برامج تنمويّة.
ينتج هذا اليوم ما لا يقلّ عن أربعة كيلوغرامات من بقايا الطعام، كانت لتشكّل عبئًا على سيّدات المطبخ، خصوصًا أنّ المدينة تعاني منذ عقود من أزمة إدارة النفايات، متفرّعة من أزمة وطنيّة عالقة. إزاء هذا الواقع، طوّرت “روّاد التنمية” مبادرة “التسبيخ” على سطح مبنى الجمعيّة، من خلال تحويل بقايا الخضار إلى سماد عضويّ مُخمّر (كومبوست)، ما يقلّص كمّيّة النفايات في المطبخ.
تقول الشيف ميشا وهي مستغرقة في تقطيع الجزر “أنا سعيدة بأنّنا ننجح في تحويل بقايا الطعام إلى فرصة للتخفيف من مشاكل النفايات التي نعاني منها جميعًا”. وتتابع لـ “مناطق نت”: “لطالما رسخت في الأذهان صورة نمطيّة عن البؤس والمشاكل الأمنيّة في طرابلس، وبخاصّة منطقتيّ التبّانة وجبل محسن، لكنّنا اليوم نؤكّد أنّ نساء هذه المنطقة شريكات في المسؤوليّة البيئيّة، ولسنَ ضحايا ولا متفرّجات”.
البداية منذ 10 سنوات
اليوم، تشكّل الخيمة الخضراء المنصوبة على سطح مبنى “روّاد التنمية”، مشهدًا صديقًا للبيئة يختلف عن المشهد الاسمنتيّ المحيط، في استجابة لمشهد آخر موازٍ يبعد 1.2 كيلومتر، حيث يربض جبل ضخم من النفايات على شاطىء البحر المتوسّط، وألحق فيه العام 2018 مطمر كان يجب أن يكون موقّتًا، لكنّه لم يمثّل سوى مخرج للهروب إلى الأمام، أسوة بحلول مماثلة على صعيد لبنان، حيث تشكّل النفايات العضويّة نسبة 69 إلى 72 في المئة من النفايات الصلبة، وفق بيانات البنك الدوليّ.

المبادرة ليست وليدة اليوم، إنّما انطلقت في العام 2015، حيث كانت الظروف الموضوعيّة آنذاك مؤاتية؛ ففي ذلك العام، كانت أكوام النفايات على الطرقات تتكدّس بشكل مرعب في غالبيّة المناطق اللبنانيّة، ما حفّز قيام حراك “طلعت ريحتكن”.
ووسط هذه الأجواء، انطلق التفكير في “روّاد التنمية” بالتسبيخ كمشروع مبتكر ينسجم مع موارد وأهداف الجمعيّة، إذ يعزّز الانتماء والوعي المجتمعيّين لدى شباب الجمعيّة، وينخرطوا في ممارسات بيئيّة مستدامة داخل مجتمعهم، كذلك يتوافق مع رؤية الجمعيّة في تمكين الأفراد من قيادة مبادرات تنمويّة تساهم في تحسين جودة الحياة داخل المجتمعات المحرومة، مع الإشارة إلى أنّ الجمعيّة ذات امتداد إقليميّ، حيث انطلقت من الأردن، ثمّ مصر وفلسطين، وتأسّست في لبنان العام 2012.
ولقاء ساعات الخدمة المجتمعيّة التي يقدّمها الشباب، يحصلون على منح دراسيّة في جامعات لبنانيّة معروفة. ويعدّ مطبخ “أطايب طرابلس” واحدًا من مشاريع “روّاد” المستدامة، ومن خلال أرباحه تدخل نساء المنطقة في الدورة الاقتصاديّة، وتساهم أرباح المطبخ في تغطية تعليم الشباب.
من نفايات إلى مورد بيئيّ
لكنّ التسبيخ لم يبدأ من المطبخ، بل من سوق خضار باب التبّانة المجاور لمبنى الجمعيّة. تشرح هذا المسار هدى الرفاعي، الخبيرة البيئيّة ومسؤولة برنامج “تمكين الشباب” في الجمعيّة، وهي مُطلقة المبادرة فتقول: “ولدت الفكرة العام 2015 كتجربة انبثقت من حاجة محلّيّة، حيث كانت بقايا الخضار من سوق التبّانة تتعفن على الأرض، أو تُرمى في نهر أبو علي، ففكّرت بمشروع مستدام يحدّ من أزمة النفايات، ويحوّل مادّة كانت تُهدر إلى مورد بيئيّ مفيد”. تتابع لـ “مناطق نت”: “صار جزء من شبابنا يجمعون الخضار التالفة في المساء، ويقومون بعمليّة تقطيع وفرز الكمّيّات لتسريع التحلّل”.
لقاء ساعات الخدمة المجتمعيّة التي يقدّمها الشباب، يحصلون على منح دراسيّة في جامعات لبنانيّة معروفة
عن مراحل العمليّة تقول الرفاعي: “تقوم العمليّة أوّلًا على جمع النفايات العضويّة اليوميّة الناتجة عن الخضار، التالف منها أو القشور وبقايا الخضار المقطّعة، وكلّ المكونات النباتيّة القابلة للتحلّل، ثمّ تُنقل هذه المواد إلى سطح المبنى، حيث تجري عمليّة الفرز اليدويّ لإزالة أيّ شوائب غير عضويّة”. تضيف “بعد ذلك تُوزّع الكمّيّات داخل أوعية مخصّصة للتسبيخ، وتُخلط مع طبقات من التربة الجافّة ونشارة الخشب لضبط الرطوبة ومنع الروائح. يُقلب الخليط بشكل دوريّ ويُترك نحو 40 يومًا ليتخمّر ويتحوّل تدريجًا إلى كومبّوست”.
وتشير الرفاعي إلى أنّ “نظام التسبيخ المتّبع يعتمد على فتحات سفليّة في كلّ وعاء، يسمح بتصريف السوائل الزائدة، بينما تبقى المادّة الصلبة أعلى الوعاء حتّى تكتمل عمليّة التحلّل. وبعد نضوج السماد، يُنخّل ويُنقل إلى الخيمة الزراعيّة، حيث يُستخدم في تجارب ناجحة لزراعة الملفوف والخسّ والباذنجان والبطاطا والفليفلة والبندورة والنعناع، ونباتات أخرى تستخدم في تحضير مأكولات ‘أطايب طرابلس”.
تحدّيات ومرونة
من الناحية الفنّيّة، لا تخفي مسؤولة برنامج الشباب تحدّيات رافقت التجربة، حيث فشلت المحاولة الأولى في إنتاج السماد، فانصبّ التركيز على ضبط معايير مؤثّرة، من رطوبة الخضار، وحرارة المستوعبات، وأشعة الشمس. وتنتظر الجمعيّة اليوم نتائج فحوصات مخبريّة لآخر عيّناتها من الكومبوست، في مختبر غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس، على سبيل تقييم مفصّل لجودة وفعاليّة المنتج.

أمّا على الصعيد اللوجستيّ، فلم يكن اعتماد سوق الخضار خيارًا سهلًا، فـ “خلال عمليّة جمع النفايات، كان الشباب يواجهون أحيانًا مشاكل مع شركة جمع النفايات، التي كانت سترميها في المكبّ، كذلك فإنّ مزارعين كانوا يلمّون النفايات نفسها لجعلها علفًا للحيوانات، ما خلق منافسة على المصدر. وخلال عام من إنطلاق المشروع، أغلقت المساحة الّتي تبرّعت بها جمعيّة صديقة، والتي كانت مخصّصة لبدء عمليّة فرز النفايات وتقطيعها، فجمّدنا المشروع، وأعدنا تقييمه لتحقيق الاستمراريّة”، بحسب الرفاعي.
تردف الرفاعي: “يسير العمل بانتظام منذ العام 2022، حيث انتقلت العمليّة إلى سطح مبنى “روّاد التنمية”، وغيّرنا مصدر النفايات ليصبح مطبخ “أطايب طرابلس”، حيث تتوافر مخلّفات عضويّة يوميّة في المكان عينه، وهي أنظف وأسهل فرزًا. وهنا بدأت مؤشّرات النجاح تظهر بوضوح: استمراريّة ثابتة، انتظام في تدفّق المواد العضويّة، قدرة الفريق على إدارة الكمّيّات بموارد بسيطة، وإنتاج سماد يُستخدم مباشرة في الخيمة الزراعيّة على السطح. هذا السماد بات ينتج محاصيل زراعيّة طبيعيّة 100 في المئة، من دون أيّ إضافات كيميائيّة، وتُستخدم في أطباق مطبخ “أطايب طرابلس”، ما يخلق حلقة إنتاج محلّيّة متكاملة بين المطبخ والزراعة والتسبيخ”.
شراكات وفرص توسّع
مهّدت شراكات مع مموّلين ومنظّمات غير حكوميّة في توسّع وانتظام مبادرة التسبيخ في “روّاد التنمية”. ففي أواخر العام الماضي، شكّلت المبادرة جزءًا من مشروع “النقد مقابل العمل- بناء مرونة الاقتصاد المحلّيّ في طرابلس” بتمويل من جهات مانحة ألمانيّة، حيث تحوّل سطح مبنى الجمعيّة إلى مزرعة حضريّة لإنتاج السماد، ووفّر للشباب العاملين فيه مداخيل موقّتة، وساهم في إنتاج منتجات محلّيّة طازجة.
ومنذ أربعة أعوام، كانت التجربة جزءًا من مشروع مدعوم من برنامج الأمم المتّحدة الانمائيّ في لبنان، بالشراكة مع وحدة البيئة والتنمية المستدامة في الجامعة الأميركيّة في بيروت ESDU-AUB. ووفق تعريف المشروع، استهدف “الأشخاص المستضعفين المتضرّرين بشكل مباشر من الأزمة الاقتصاديّة في البلاد”، حيث تحوّلت هذه المبادرة الصغيرة إلى فرصة لإنتاج المداخيل، في وقت كان لبنان يعاني من ذروة الانهيار الماليّ وأزمات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة.
تختم هدى الرفاعي “نحن منفتحون دائمًا على التعاون مع مدارس وأسواق ومنظّمات بيئيّة وحتّى نشطاء بيئيّين، فالجميع في مجتمعنا المحلّيّ شركاء. وفي حال تأمين التمويل اللازم، سيكون المشروع قادرًا على إنتاج حلّ بيئيّ يعود ريعه مباشرة إلى صندوق المنح في ‘روّاد التنمية‘ الذي يدعم أكثر من 40 طالبًا سنويًّا، ليصبح التسبيخ ليس حلًّا بيئيًّا وحسب، بل أداة للتعلّم والتنظيم المجتمعيّ”.
أخيرًا، يتزامن مسار “التسبيخ” في جمعيّة “روّاد التنمية” مع إطلاق “الاستراتيجيّة المتكاملة لإدارة النفايات الصلبة في اتّحاد بلديّات الفيحاء” الذي يضمّ طرابلس والميناء والبدّاويّ والقلمون، في أيلول (سبتمبر) الماضي، ما يوفّر فرصة جاهزة للتعاون بين المجتمع المحلّيّ والبلديّات لتطوير هذه المبادرة من خلال نهج بيئيّ أكثر فعاليّة واستدامة وشموليّة على المدى الطويل.
تمّ إنجاز هذا العمل في إطار مشروع لمنظّمة المادّة 19 بعنوان “الحقّ في الوصول إلى المعلومات والقضايا البيئيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وبدعم من جامعة أوسلو متروبّوليتان.”






