صانعات تغيير أم “مزهرية” على طاولة المجلس البلديّ؟

شهدت الانتخابات البلديّة الأخيرة في لبنان، تقدّمًا ملحوظًا في مشاركة النساء، إذ فازت إليها ما نسبته 10.37 في المئة من إجماليّ مقاعد المجالس البلديّة في جميع المحافظات. أظهرت هذه النتائج مقارنة بنتائج العام 2016 تقدّمًا جليًّا، إذ لم تتعدَّ نسبة الفائزات من النساء في حينه سوى 5.4 في المئة.

وعلى الرغم من أنّ القانون الخاصّ بالانتخابات البلديّة والاختياريّة لم يُحدّد كوتا للنساء كما هو الحال في الانتخابات النيابيّة، إلّا أنّ السنوات الأخيرة شهدت حراكًا على مستوى مشاركة النساء في العمل البلديّ. ومع أنّ النسب ما زالت منخفضة، لكنّها تفتح كُوّة في جدار التحدّيات التي ما فتئت تعوق انخراط النساء بالعمل السياسيّ والشأن العامّ بعيدًا من الوصاية الذكوريّة.

لا يخفى بأنّ ميدان العمل السياسيّ والشأن العام في منطقة مثل بعلبك حيث تسيطر المعايير الاجتماعيّة والجندريّة التقليديّة، يشكّل المجال الحيويّ للرجال ممّن يسيطرون لسنوات طويلة. وقلّما نسمع عن نساء استطعن اختراق هذه البنية المرتكزة على رجوليّة هذا النطاق. لقد شكّلت الانتخابات البلديّة فرصة لتحريك المياه الراكدة، فارتفعت أعداد المرشّحات في عديد من البلدات، وكذلك سجّلت نتائج لافتة. فما دلالات هذا التقدّم؟ وما الظروف التي أسهمت به، سواء من معوّقات أو محفّزات؟

أرقام عن مشاركة النساء

تشكّل النساء غالبيّة الهيئة الناخبة في قضاء بعلبك، إذ تبلغ ما نسبته 51 في المئة من مجموع الناخبين، فيما يشكّل الرجال نحو49 في المئة. في الانتخابات البلديّة الأخيرة، بلغت نسبة المرشّحات في هذا القضاء 6 في المئة مقابل 94 في المئة من المرشّحين الذكور. بينما بلغت نسبة الفائزات 4 في المئة من إجماليّ الفائزين مقابل 96 في المئة للرجال. وعلى رغم انخفاض هذه النسب، فإنّ معدّل الفوز بين النساء اللواتي ترشّحن بلغ 39 في المئة، وهي نسبة جيّدة مقارنةً بالدورات السابقة، وتشير إلى تقدّم نسبيّ في فرص وصول المرشّحات إلى المجالس البلديّة.

الإشكاليّة الأساسيّة لا تكمن في قدرات النساء على خوض الانتخابات، بل في ضعف نسب الترشّح  نتيجة القيود الاجتماعيّة والسياسيّة

عند تحليل هذه النسب، يمكننا استخلاص وجود فجوة واضحة بين التمثيل العددي والتمثيل الفعليّ للنساء في الشأن السياسيّ. فعلى رغم أنّ النساء يشكّلن غالبيّة الجسم الانتخابيّ، يبقى حضورهنّ التمثيليّ منخفضًا قياسًا بعددهنّ ومقارنة مع عدد الرجال. كذلك يظهر هذا الأمر بوضوح، في نسبة الفائزات التي لم تتجاوز 4 في المئة، وهو ما يعكس تأثير كبير للبنى العائليّة والعشائريّة والحزبيّة ذات الطابع الذكوريّ التقليديّ، والتي لا شكّ ولا ريب تستبعد النساء حكمًا عن كثير من فرص الترشّح.

لكن عند النظر من منظور آخر لهذه الارقام، يتبيّن أنّ ارتفاع معدّل الفوز بين المرشّحات النساء، يعكس قدرتهنّ على خوض غمار المعركة الانتخابيّة بجدّيّة، لا بل منافسة للرجال. هذا يشير إلى أنّ الإشكاليّة الأساسيّة لا تكمن في قدرات النساء على خوض الانتخابات، بل في ضعف نسب الترشّح أصلًا نتيجة القيود الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحدّ من وصولهنّ إلى اللوائح أو حتّى الجرأة على الترشّح.

ضعف الثقافة الانتخابيّة

“تواجه المرشحات للانتخابات البلديّة تحدّيات مختلفة، أبرزها ما له علاقة بمدى إلمامهنّ بالقوانين الانتخابيّة والعمل البلديّ والسياسيّ بمنظور أوسع، وحتّى بكيفية تصميم وتنفيذ حملات انتخابيّة منافسة” هذا ما أكّده منسّق التطوّع والتدريب في جمعيّة LADE محمّد جبارة، الذي تابع بحديثه لـ “مناطق نت”: بأنّ “الثقافة الانتخابيّة يجب أن تكون مستدامة وغير موسميّة، وذلك لإعداد كوادر من النساء اللواتي يردن خوض المعارك الانتخابيّة وتفعيل مشاركتهنّ السياسيّة”.

أضاف جبارة “سبق لـ LADE أن شاركت في تنفيذ أنشطة تساهم في رفع الثقافة الانتخابيّة من خلال تدريبات وتعاون وتنسيق مع بلديّات أثمرت تشكيل مبادرات لتأسيس كيانات مرتبطة بالجسم البلديّ”. لذا “الهدف الجوهريّ كان تشجيع النساء على المشاركة الفاعلة وليس أن يكنّ مجرّد مزهريّة في المجلس البلديّ” بحسب وصف جبارة.

من الحملات للانتخابات البلدية في منطقة بعلبك العام 2016
لسن صانعات التغيير بعيونهنّ

من جهتها أشارت المرشّحة الخاسرة في انتخابات مدينة الهرمل زينب ناصرالدين، وهي ناشطة نسويّة شاركت في عديد من المبادرات الحقوقيّة في المنطقة، إلى أنّ “المعركة الانتخابيّة لم تكن سهلة مطلقًا، فعلى الرغم من دعم الأهل، تمثّل التحدّي الأكبر بالأحزاب ومن خلفهم العائلات التي تعارض عمل المرأة السياسيّ وتحصره برجالها. هذا بالاضافة، إلى ضعف الخبرة وقلّة الموارد الماليّة، وبالطبع ضيق الوقت”.

تتابع زينب لـ “مناطق نت”: “لم تثق النساء بي قبل الرجال، وبالتالي لم يعطينني أصواتهنّ، تذرعنَ بصغر سنّي وقلّة خبرتي، فالنساء بنظرهنّ لسن صانعات التغيير”. تكشف ناصرالدين أنّ هناك عديدًا من أقاربها الرجال كانوا في صمتهنّ معها، والبعض قد أسرّ لها بأنّه لن يصوّت لها فعليًّا بسبب التزامه الحزبيّ والعائليّ، ولكن يدعمها قلبيًّا.

عند الحديث عن الانتخابات البلديّة، تُطرح الإشكاليّة الآتية التي تُعتبر مأزقًا يواجه الخيارات السياسيّة وحتّى العمل السياسيّ للنساء بشكل خاصّ وعامّة الناس. فالتنافس في الانتخابات يتجاوز مسألة التنمية المحلّيّة والمصلحة العامّة وهما أساس وظيفة البلديّة ودورها بما هي سلطة محلّيّة، ليكون تنافسًا على فهم خاطئ لهذا الدور، فتحلّ الوجاهة العشائريّة كهدف للفوز، وهذا حكر على الرجال بناءً على المعايير الجندريّة التقليديّة. لذا تصبح الكفاءة وبرامج العمل الانتخابيّة والخبرة في العمل التنمويّ والسياسيّ مجرّد عوامل هامشيّة، يحلّ مكانها التمييز على أساس الجنس والعشيرة والصلة بالاحزاب النافذة.

هندسة سياسيّة بعدسة جندريّة

من ناحيتها تصف المهندسة جيسيكا لفّة العضو الجديدة في المجلس البلديّ لبلدة مجدليون (صيدا) العمل السياسيّ بأنّه دمج بين الفنّ والهندسة والسياسة. فعلى الرغم من أنهّا لا تعمل بالسياسة لكن لديها مهارات أرادت أن تجعلها في خدمة الشأن العام بصورة خاصّة في بلدتها كما أكّدت. في البداية استغرب أهل البلدة ووصفوها بالشجاعة التي خاضت المعركة الانتخابيّة من دون أن تأخذ طرفًا سياسيًّا بعينه، وكون هذا شأنًا ذكوريًّا محضًا ولكنّها ركّزت على برنامجها الانتخابيّ.

هل ستتمكن الأعضاء الفائزات أن يكنّ صانعات للتغيير، أم يبقين مجرّد “مزهريّة” تزين المجلس البلديّ الذكوريّ؟

تتابع لفّة لـ “مناطق نت” أن “دعم أهلي كان له أثر مهمّ في تقدّمي وفوزي، وكذلك مهنتي وتحصيلي العلميّ وشخصيّتي هي الركائز الأساسيّة لما أنا عليه اليوم، فالعمل السياسيّ يحتاج إلى المبادرة، بخاصّة وسط ازدحام الرجال في المجلس البلديّ”. وتشير لفّة إلى أنّها باتت تلاحظ سلوكيّات ملفتة خلال الاجتماعات وفي يوميّاتها بالبلديّة. “فقد لاحظت تأنّق غالبيّة الأعضاء وتسجيلهم الملاحظات خلال الاجتماعات، وهذا لم يكن معهودًا في السابق”.

مجرّد مزهريّة؟

على الرغم من أنّ هذا التنوع لا يزال منخفضًا، لكنّه خلق ديناميّة جديدة مختلفة في المجلس البلديّ، والذي فتح أفقًا لمصادر تمويل وأفكار غير اعتياديّة، تحرّك التنمية الريفيّة في بلديّة مجدلون إذ أقرّ أنّ يتمّ التحضير لمهرجان في صيف العام المقبل، لتشجيع المغتربين من أبناء البلدة على المجيء إليها وتسويق منتجاتها الزراعيّة وتحريك عجلة السياحة فيها.

خطت النساء في قضاء بعلبك، خطوات سيكون لها أثر في السنوات الستّ المقبلة على الرغم من تحدّيات المعايير الجندريّة التمييزيّة، وأيضًا الثقافة الانتخابيّة والتمويل. هذا الأثر إمّا سيكون منصّة تنتج مرشّحات للانتخابات الجديدة بدعم من لوبيّات من النساء والرجال، أو تكريسًا للبنية التقليديّة حيث غياب وضعف المشاركة السياسيّة.

كل ذلك يتمّ تحديده من خلال أداء الأعضاء المنتخبات وتفاعل الأعضاء الرجال في التخطيط وتنفيذ البرامج التنمويّة أو التفاعل مع حاجات المجتمع المحلّيّ المتنامية وسط غياب الدعم الحكوميّ واستشراس سطوة البنى التقليديّة، كالعشائريّة والعصبيّة المذهبيّة وهشاشة الوضع الأمنيّ المرشّح دومًا لحرب أو حروب لم تحسم بعد. فهل ستتمكن الأعضاء الفائزات أن يكنّ صانعات للتغيير، أم يبقين مجرّد “مزهريّة” تزين المجلس البلديّ الذكوريّ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى