“يا سادة يا كرام” حكايات الحكواتي

في المساءات القديمة، حيث السكون يهبط على المدن مع خيوط المغيب الأولى، كانت المقاهي تفتح كتب الحكايات الشعبيّة في طرابلس وصيدا وبيروت وبعلبك، تستقبل أصحاب الطرابيش الرسميّة، وقبّعات القشّ البحريّة. هناك، في تلك المقاهي المدينيّة التي تتنفّس هواء الساحات العامّة والخانات والبوّابات القديمة، يبدأ الحكواتيّ في الانبعاث كما لو أنّ المدينة كلّها تمدّ يدها وتدفعه إلى السرد. كلمة تسبق تنهيدة، وصمت يفتح الطريق لخيال واسع، ثمّ تروى الحكاية. يتحوّل المكان إلى غرفة وعي جماعيّة، والناس إلى دوائر إصغاء مرهف، والشارع إلى زمن حيّ يتحرّك مع كلّ حركة من يد الراوي أو رعشة تعبر فوق شفتَيه.

حكواتيّ من خشب ونحاس ودخان

في صيدا القديمة، تقف “القهوة الخيريّة” مثل بيتٍ يلتفّ حوله الضوء. سقفها خشبيّ يعبره خيط دخان، مقاعدها من القشّ، جدرانها حجارة تُخفي داخل مسامها حكايـات متوارثة. هنا جلس محمد الشقلي القادم من حلب العام 1837، أوّل حكواتيّ حمل إلى صيدا نبض المشرق كلّه. كان يرفع صوته حين يصل الفارس إلى باب القلعة، ويخفضه لمّا تبكي العاشقة على حجر النبع، ويهزّ رأسه بعناد عندما يتحدّث عن بطولة قديمة.

بجانب “مقهى الزجاج”، ظهر الحاج عبد الرحمن الحكواتيّ، رجل يشبه جذع سنديان، صوته يتنقّل بين الجبال كأنّه راوية الريح نفسها. ثمّ جاء الحاج إبراهيم الحكواتيّ، الذي كان يصطحب كتابه وكأنّه يحمل حياة الناس بين يديه، ومعهما ظهر يوسف الحكواتيّ الذي ورث نبرة الصوت وإيقاع الزجل، فصار ليل صيدا يرتكز على حنجرته.

تبدأ الجلسة بوصول الحكواتيّ. يدخل بخطوات هادئة، يضع كتابًا أو دفترًا أو حتّى سبّحة على الطاولة، يجلس في الوسط، ويقدّم حضوره للصمت قبل الكلام

وفي بيروت، ازدهرت جلسات سعيد الأشقر في سوق الطويلة وقهوة الداعوق، حكواتيّ يعانق القصص كأنّها طفله الدائم، يلوّن صوت المدينة ويصبغ الليل بطلاء من حكايات. أمّا في طرابلس، فكان حسن قرّوق يختم الليالي بنبرة خافتة تدنو من الفجر، وكأنّ النهار يولد من بين بنانه.

طقس الجماعة

تبدأ الجلسة بوصول الحكواتيّ. يدخل بخطوات هادئة، يضع كتابًا أو دفترًا أو حتّى سبّحة على الطاولة، يجلس في الوسط، ويقدّم حضوره للصمت قبل الكلام. يتوزّع الناس بطريقة تشبه خريطة قديمة: الشيوخ في المقدّمة، الشباب في الخلف، الأطفال يتسلّقون المقاعد الخشبيّة. حين يبدأ الحكواتيّ في السرد، يذوب المكان بصوت واحد. أبو محمود البيروتيّ في باب السراي كان يرفع يده على طريقة المحارب حين يصل إلى لحظة الصدام، يضحك كأنّه مطر، ويثبّت عينيه على الجمهور حين يتحدّث عن الخيانة.

وفي قهوة الروضة ببيروت، حمل عبد الكريم الحمصيّ دفترًا متهالكًا، كان يفتحه كما تُفتح أبواب الزمن، ويغلقه مثلما تُغلق نافذة بعد ليل طويل. وفي طرابلس، تنساب حكايات حسن قرّوق كأنّها ماء، وتستمّر حتّى تتوضّأ الشمس بملح الفجر. هذه الجلسات تعيد أفراد القرية إلى أصل الجماعة، وتفتح كلّ روح على باب داخليّ يضيء فجأة: عاشق يرى نفسه في فارس، مهموم يشعر بثقل يومه في تنهيدة الراوي، طفل يكتشف أنّ العالم أكبر من دفتر المدرسة، وامرأة تلمح ظلّ أجدادها في كلمات الحكواتيّ.

الحكاية علاجٌ للروح

حين يروي الحكواتيّ قصّة عن عنترة أو الزير سالم، أو قصّة عن أمّ تنتظر عودة ابنها عند النبع، فهو لا ينقل سردًا جامدًا، بل يفتح نافذة للروح كي تتنفّس. الحكاية تمنح الإنسان ملجأً داخليًّا، تجعل العالم أقلّ حدّة، وتحوّل الوجع إلى صورة يمكن لمسها.

في الجنوب، كان فايز أبو ضرغم يروي قصص البيوت الطينيّة والمعارك الصغيرة التي جرت بين القرى، فيشعر الجالس أنّ الحكاية تسرق وجعه وتعيده على هيئة حكمة. كان الناس يخرجون من الجلسة أخفّ، وأعمق، وأقدر على الانتظار. أمّا يوسف الحكواتيّ فكان يمزج الحكمة الشعبيّة بمقامات السرد، ويحوّل الأمثال إلى دروع صغيرة، تمنح الناس قدرة على تحمّل صعوبة الأيّام. الصوت هنا ليس مجرّد وسيلة للتسلية، بل علاج داخليّ، يعيد ترتيب الفوضى، ويمدّ الجرح بقدرة على الاحتمال، ويمنح الذاكرة جناحين.

لبنان كساحة حكائيّة

لبنان بطبيعته بلدٌ يولّد الحكايات. جباله العالية تعطي للحكاية خلفيّة أسطوريّة، بحره يمنح القصص بدايات لا تنتهي، أسواقه القديمة تُنبت الحكايات كما تنبت الأعشاب بين الحجارة. في بيروت، كان صوت البائع المتجوّل يتداخل مع صوت سعيد الأشقر، وفي صيدا تذوب سطور محمد الشقلي في ضوء الفوانيس عند المرافئ.

كل مدينة تحمل في قلبها مقهى يتحوّل في الليل إلى غرفة لتجميع الوعي الشعبيّ: البلاط المبلّل، كاسات الشاي، الطرق على النحاس، كلّها موادّ تصنع ذاكرة الحكاية. لهذا احتفظ اللبنانيّون بالحكواتيّ ليس كتراث وحسب، بل كهويّة تتجدّد، وكصوت يعيد رسم علاقة الإنسان بالمكان، كذلك بالمناسبات حيث ارتبطت شخصيّة الحكواتيّ بشهر رمضان. كذلك كان الحكواتيّ يراعي خصوصيّات بعض المناسبات من أعياد وأفراح وأحزان، بمعنى أنّه شخصيّة تفاعليّة، ينتخب من قصصه ما يتناسب والظروف.

الحكواتيّ إلى المسرح

في الستينيّات والسبعينيّات، انتقلت الحكاية من المقهى إلى المسرح، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ السرد اللبنانيّ. ظهر روجيه عسّاف ليحوّل السرد الشفهيّ إلى بناء مسرحيّ يعكس نبض الشارع، معه رفيق علي أحمد (ابن يحمر- النبطية) بصوته الذي يحمل الجنوب كلّه في نبرته، ليضع الحكاية فوق الخشبة كما يضع المزارع القمح فوق البيادر. كذلك كانت حنان الحاج علي (ابنة النبطية)، فجعلت الجسد حرفًا، والصوت تحليلًا، والحكاية قرعًا للذاكرة. وهناك عبيدو باشا (البيروتيّ) وعلي كلش (ابن العبّاسيّة قرب صور) وأسماء كثيرة.

استراتيجية مسرح الحكواتيّ تعتمد على سماع قصص الناس وإعادة توظيفها في سرديّة متجانسة على لسان الممثّل الذي يتقمّص الأدوار، مغيّرًا تفاصيل صغيرة في لباسه ومتلاعبًا بنبرته ليكون أكثر من شخصيّة في آن.

جلال خوري (البيروتيّ) أعاد بناء جلسة الحكواتيّ على الخشبة المعاصرة، وفادي موراني مزج الحكاية بالغناء والألحان الشرقيّة. أمّا يحيى جابر (الجنوبيّ_البروتيّ) فقد أعاد الروح للحكواتيّ في قالب أكثر حداثة؛ في “بيروت طريق جديدة” مع زياد عيتاني (بيروت)، يكتب بيروت بأصوات الشوارع، وفي “مجدرة حمرا” مع أنجو ريحان (كفرصير- النبطية)، يدخل الجنوب بأمهاته ورائحة الحطب، ومع عّباس جعفر (بعلبك) في “هيقالو” يصبح الهزل بابًا للوعي، والضحك شكلًا من أشكال النجاة.

الحكاية بثياب جديدة

في السنوات الأخيرة، ظهر جيل يقدّم الحكاية بلغات جديدة.  نزيه شمس حمل الحكاية إلى المهرجانات العالميّة، يمزج فيها بين الإيقاع الصوتيّ والأداء البصريّ، ويقدّمها كما لو أنّها طائرٌ ملوّن يطير فوق الجمهور. جهاد درويش، ابن بلدة المروانية الجنوبيّة، حمل الحكاية معه إلى فرنسا حيث بدأ روايتها العام 1983، وترك بصمته في نحو خمسة وثلاثين كتابًا في الأدب الشفهيّ والسيَر الشعبيّة وصوغ الذاكرة المتوارثة. إلى جانبه تبرز الدكتورة سارة قصير (الجنوبيّة- البيروتيّة)، التي درست التمثيل، وقدّمت حكاياتها عبر الشاشات والمسارح والمدارس، فحوّلت الحكاية إلى جسرٍ حيّ يصل بين الأجيال ويعيد للسرد وهجه القديم بثيابٍ معاصرة.

حكواتيّ بالفطرة

بين حكواتيّ المقهى وحمّامات المدن القديمة، وبين حكواتيّ الخشبة وأضواء المسرح، يبرز نوع ثالث نعرفه جميعًا بحدس مباشر: حكواتيّ فطريّ يولد من دفء الجلسات اليوميّة. شخصيّة لا تتكلّف صنعة، تمتلك موهبة السرد بفيضها العفويّ، تُدهشنا بطريقة عرضه، بشروحاته الواسعة، بتفاصيله التي تتشعّب كأغصان شجر، وبمبالغاته التي تمنح الحكاية لمعانًا إضافيًّا. حكواتيّ يخطف الاهتمام بقدرته على تحويل الدقائق العابرة إلى عالم كامل، ويمنح الكلام حياة تشبه حياة الناس حوله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى