ملكيّات معلّقة بين لبنان وسوريا ولبنانيّو الحدود ينتظرون قرارًا سياسيًّا

لعنة تاريخ أم غلطة جغرافيا أم الاثنتين معًا؟ هذا ما ينطبق على القرى الحدوديّة المتداخلة بين لبنان وسوريا، في أقصى الشمال الشرقيّ من لبنان، وتحديدًا في منطقة الهرمل، حيث مزّقت الحروب نسيجها الاجتماعيّ المتجذّر هناك منذ مئات السنين.

ثمّة أكثر من 23 قرية أبناؤها لبنانيّون هجرها أهلها على أثر التطورات التي حصلت في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، على نحو: زيتا، مطربا، حاويك، الصفصافة، الفاضليّة، مزرعة الوفاء، وادي حنّا، جرماش، السماقيّات الشرقيّة، الحمام، الجنطليّة، عين الدمامل، السيغمانيّة، الفاروقيّة، السوّاديّة وغيرها. الجزء الأكبر من هذه القرى أُفرغ بالكامل، وأبناؤها نازحون في محافظة بعلبك- الهرمل، الوجهة الوحيدة الممكنة.

اليوم، وبعد مرور قرابة العام على التهجير القسري، لا تسويات تلوح في الأفق، ولا قرار يسمح للنازحين عن تلك القرى بالعودة، ولا ضمانة تمنع ضياع ما تركوه خلف الحدود. كثير من هذه الممتلكات بات يشغلها آخرون، ويُستفاد من أرزاقها، فيما أصحابها ينتظرون في الداخل اللبنانيّ، معلّقين بين ذاكرة مُلكٍ في مهبّ الضياع ومستقبلٍ غامض.

ماذا عن هذه الممتلكات؟ وكيف يمكن لأصحابها استعادتها في ظلّ غياب أيّ إطار قانونيّ أو سياسيّ واضح يجزم للأهالي حقّهم في الأرض والبيت والرزق؟

حقّ ثابت ولو غاب أصحابه

يشير النائب غازي زعيتر، وهو ابن بلدة بلوزة (وادي حنّا)، حيث تمتدّ أراضي عائلته من أكوم إلى معيان على ملايين الأمتار المربّعة، إلى “أنّ الملكيّة اللبنانيّة في تلك القرى راسخة وثابتة، وتعود إلى ما يقارب الـ 300 عام، وكلّ المواثيق الدوليّة والأنظمة التي تحترم السيادة تعترف بحقّ الملكيّة وتطبّقه مثلما هو وارد في قوانينها، وقد ضمن القانون السوريّ هذا الحقّ أيضًا، على رغم أنّه كان في السابق يقرّ بالتملّك المطلق، قبل أن يُعاد تنظيمه لاحقًا ليحصر الملكيّة باللبنانيّ والعربيّ”.

يتابع النائب زعيتر لـ “مناطق نت”: “التعامل مع هذا الملف بالقانون، هو المدخل الوحيد لحفظ حقوق هؤلاء الملّاكين. فمعظمهم يحملون مستندات ملكيّة واضحة: وثائق قانونيّة، إفادات عقاريّة، وأوراق تثبت حدود الأراضي وأصحابها”. يضيف “بعضهم يحمل الجنسيّة السوريّة إلى جانب اللبنانيّة، وبعض آخر متزوّج من سوريّات، وفي هذه الحال تُسجَّل الملكيّة بأسمائهنّ. وفي كلّ الأحوال، يبقى الحقّ شرعيًّا وثابتًا لا يسقط بالغياب ولا بالنزوح، لأنّ الأرض لها ذاكرة، والملكيّة لها ما يسندها قانونًا وواقعًا”.

بلدة زيتا الحدودية خالية من أهلها (أرشيف)
“سايكس بيكو” والحدود

هناك، على الخطّ المحكوم بالصدف بين لبنان وسوريا، لم يبقَ من تقسيمات سايكس– بيكو سوى خطوطٍ رسمتها السياسة ولم تعترف بها الجغرافيا ولا العائلات. كان التقسيم عشوائيًّا، بحيث انقسم الأخ عن أخيه، واحد داخل الأراضي اللبنانيّة، والآخر داخل الأراضي السوريّة، فيما بقيت قيود النفوس والسجلّات في الهرمل والقصر، وبقي أصحابها يمارسون حقوقهم المدنيّة كاملة في الانتخابات النيابيّة والبلديّة والاختياريّة، كأنّ الحدود لم تُرفع يومًا بينهم.

حول هذا التداخل الحدوديّ، يوضح النائب زعيتر: “إنّ لبنان وسوريا كانا جزءًا واحدًا من بلاد الشام قبل سايكس–بيكو. التقسيم لاحقًا هو الذي جعل هذه القرى اللبنانيّة تقع ضمن الأراضي السوريّة. بعض القرى، مثل غوغران والفاضليّة وغيرها، تمتدّ اليوم عميقًا في الداخل السوريّ، لكنّ سكانها ظلّوا لبنانيّين بالهويّة والانتماء والسجلّات”.

جغرافيا منقسمة وهويّات ثابتة

من ناحيته، يشير المحامي حسن صقر إلى أنّ اللبنانيّين يملكون ما بين الـ 80 والـ 85 في المئة من مساحات القرى التي ذكرناها آنفًا. يتابع صقر لـ “مناطق نت”: “الملكيّة قديمة، ضاربة في الزمن، موثّقة منذ القدم. بعض هؤلاء الملاّكين عاش هناك منذ عقود ولا يعرف من الأراضي اللبنانيّة إلّا اسمها، استقرّ في تلك القرى واندمج في يوميّاتها، فيما بقي آخرون يتنقّلون بين البلدين من حين إلى آخر”.

يضيف صقر: “حتّى القرى التي تُعتبر اليوم ذات غالبية سنّيّة، مثل أبو حوري وسقرجا والمعيصرة والمصريّة وبلوزة وغيرها، فإنّ ملكيّتها تعود لآل حمادة. البعض اشترى منهم أراضٍ، والبعض الآخر لا يزال يسكن في البيوت والأراضيّ من دون أيّ ملكيّة قانونيّة”.

صقر: الدولة السوريّة نفسها تُقِرّ بهذه الملكيّات، استنادًا إلى الإفادات الصادرة عن السجل العقاريّ التي يحتفظ بها أصحاب الأراضي.

ملكيّة بحمى القانون والمواثيق

معظم هذه الأراضي التي يمتلكها اللبنانيّون هي إرثٌ قديم، انتقل أبًّا عن جدّ، وظلّت ملكيّتها لهم ثابتة عبر الزمن. يقول صقر: “هذه الملكيّات موثّقة بمستندات رسميّة وإفادات عقاريّة، إضافة إلى ملكيّات أُنشئت لاحقًا عبر عمليّات شراء جرت في مرحلة كان القانون السوريّ يسمح بالتملّك المطلق للأجنبيّ داخل سوريا. لكنّ هذا الوضع تغيّر عندما أصدر الرئيس السوريّ الأسبق حافظ الأسد قانونًا يقوّض سقف التملّك للأجنبيّ، ألّا يتجاوز عشرة دونمات، قبل أن يأتي بشّار الأسد في العام 2009 ليمنع التملّك نهائيًّا”.

يضيف صقر: “الدولة السوريّة نفسها تُقِرّ بهذه الملكيّات، استنادًا إلى الإفادات الصادرة عن السجل العقاريّ التي يحتفظ بها أصحاب الأراضي. فالقانون السوريّ يثبت الملكيّة بالعقد والسجلّ العقاريّ، بل إنّ المرسوم رقم 188 الصادر في العام 1926 يعتبر السجلّات العقاريّة ‘مرجعًا نهائيًّا‘ لإثبات الملكيّة، ما يجعل الحقوق ثابتة من الناحية القانونيّة مهما تغيّرت الظروف”.

كذلك يشير صقر إلى أنّ “القوانين والمواثيق الدوليّة تضع حقّ الملكيّة في موقع لا يمكن المسّ به، فـ “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في مادّته الـ 17 يمنع الحرمان التعسّفيّ من الملكيّة، ‘مبادئ بينهيرو‘ الصادرة العام 2005 وتعترف بحقّ المهجّرين في استعادة ممتلكاتهم، واتّفاقيّات جنيف تحظر النقل القسريّ للسكّان، فالسلسلة طويلة من النصوص التي تُكرّس حقّ الإنسان في أرضه وبيته”.

من هنا، يعتبر صقر أنّ حقّ أهالي تلك القرى في ممتلكاتهم قائم وثابت، طالما لم يحصل أيّ تنازل قانونيّ أو نقل ملكيّة.

أرض واحدة بخرائط متعدّدة

تاريخيًّا، كانت هذه القرى الممتدّة جغرافيًّا حتّى شمسطار تُعدّ أراضٍ لبنانيّة خاضعة لسيطرة الدولة اللبنانيّة، قبل أن تُضمّ بعد التقسيم إلى الدولة السوريّة. على رغم هذا التغيير الإداريّ، بقيت ملكيّات الأراضي ثابتة لأصحابها اللبنانيّين، بحسب صقر. في الستينيّات كان لا يزال هناك مخفر للدرك اللبنانيّ في حاويك، ومدرسة رسميّة لبنانيّة قائمة داخل الجزء السوريّ من حوش السيّد علي، ما يعكس تداخلًا قديمًا بين أراضي البلدين لم تستطع الحدود الجديدة محوه.

أوراق ثبوتية تعود لأحد المالكين(“أبو علي” خضر زعيتر) في بلدة وادي حنا في الداخل السوري

يتابع صقر: “إنّ كبار الملّاكين في تلك المرحلة كانوا من عائلات لبنانيّة معروفة مثل آل حمادة وآل الصيّاد، بالإضافة إلى زعيتر، الجمل، صقر، ناصر الدين، مندو، مدلج، نون، غراب، قطايا، إدريس، سلمان، الهقّ، جعفر، الضيقة، الزين، عسّاف، النمر، الحاج حسن، خير الدين، صفوان، وعائلات أخرى توارثت الأرض عبر أجيال وبقيت شواهد ملكيّتها حاضرة على رغم تبدّل الخرائط.

لدينا أوراق ثبوتيّة

يروي “أبو علي” خضر زعيتر، ابن وادي حنّا وأحد اللبنانيّين ممّن نزحوا من القرى الحدوديّة السوريّة إلى الداخل اللبنانيّ، تختصر حكايته حكاية منطقة بأكملها. يمتلك زعيتر منزلًا ونحو 300 دونم من الأراضي الزراعيّة. 100 دونم منها مزروعة ببساتين زيتون يزيد عمرها عن عشرين عامًا، وكانت تنتج له ما يقارب 200 صفيحة زيت كلّ موسم.

يتابع زعيتر لـ “مناطق نت”: “إنّ ملكيّة هذه الأرض في وادي حنّا هي إرث قديم، انتقل عبر القرون، ونحن سكّان هذه القرية منذ ذاك الحين. والدي كان مختارًا على أيّام الفرنسيين، وأوراقنا الثبوتيّة موجودة ومحفوظة، تحمل أسماء العائلة وحقّها الواضح”.

بيوت محتلّة وممتلكات منهوبة

يمضي زعيتر في تعداد الخسائر التي طاولت جميع المصالح هناك من ملاحم ومطاعم ومحال تجاريّة، كلّها جرى الاستيلاء عليها. حتّى موارد الحياة الأساسيّة لم تنجُ، من مواسم الزيتون إلى مزارع الدجاج والآبار الارتوازيّة وأنظمة الطاقة الشمسيّة. يتابع زعيتر: “منزلي نُهب، ولم يبقَ فيه شيء، حتّى الشبابيك والأبواب سرقت. اليوم تُقدّر خسائر منزلي بما لا يقلّ عن 20 ألف دولار. إنّها حال ما لا يقلّ عن حوالي 100 عائلة في وادي حنّا، وما لا يقل عن 3700 عائلة في مجمل القرى الحدوديّة السوريّة”.

يشير محمود النمر، ابن مزرعة الوفاء وأحد كبار الملّاكين في العقربيّة والفاضليّة ومزرعة الوفاء، إلى واقع لا يختلف كثيرًا عمّا يواجهه الآخرون.

صقر: الترسيم قد يقلب الواقع رأسًا على عقب. ربّما يعيد بعض القرى إلى لبنان، وقد يمنح سوريا بالمقابل قرى تقع اليوم داخل الأراضي اللبنانيّة

يقول النمر: “أملك 12 دونمًا ومنزلًا مساحته 300 متر، يحيط به سور بطول 100 متر، إضافة إلى مستودع للمواد الغذائيّة، ومحلّ تجاريّ ومحمصة في بلدة العقربيّة”. يتابع النمر لـ “مناطق نت”: “بعد النزوح في الـ 28 من كانون الأول (ديسمبر) العام الماضي، نُهبت البيوت، واليوم يسكنها سوريّون، يسيطرون كذلك على الآبار والأراضي الزراعيّة ويستفيدون بالكامل من إنتاجها”.

ترسيم الحدود عقدة المأساة

عن ترسيم الحدود بين البلدين يشير النائب زعيتر إلى أنّ “مطلب الترسيم هو رغبة لدى الدولتين معًا”، لكنّه يتساءل “إذا كانت السلطة المركزيّة السوريّة قادرة اليوم على اتّخاذ قرار بهذا الحجم؟”. ويلفت زعيتر إلى أنّ “وزير الدفاع اللبنانيّ ونائب رئيس الحكومة أثارا سابقًا موضوع المسح والترسيم مع الرئيس السوري أحمد الشرع، لكنّ حتّى اللحظة لا رؤية واضحة لدى الطرفين”.

ويذكّر النائب زعيتر “أنّ مستشارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون أبدت استعدادًا لتقديم المساعدة عبر الخرائط، غير أنّ هذه الخرائط لم تُسلّم بعد”.

قلب الخرائط وما أخفته السواقي

يرى المحامي صقر أنّ الترسيم قد يقلب الواقع رأسًا على عقب. ربّما يعيد بعض القرى إلى لبنان، وقد يمنح سوريا بالمقابل قرى تقع اليوم داخل الأراضي اللبنانيّة. يضيف صقر: “بعض القرى التي ضُمّت إلى سوريا بعد التقسيم أصلها لبنانيّ، والدليل أنّ الدولة السوريّة لم تُنشئ فيها أيّ بلديّات أو سلطات محلّيّة”. ويعتبر صقر أنّ اعتماد حدود السواقي كفاصل حدوديّ كان قرارًا مضلّلًا. فبلدة حوش السيّد علي مثلًا، سكّانها لبنانيّون سواء ‘فوق الساقية‘ أو ‘تحت الساقية‘، وفي داخل الجزء المصنَّف سوريًّا توجد مدرسة رسميّة لبنانيّة. الأمر نفسه يتكرّر في غرب حاويك، المعروف بـ “معبر الجمل”، وهو في الحقيقة أرض لبنانيّة تابعة لأكوم في شمال لبنان”.

الحلّ دبلوماسيّ

حلّ مسألة الملكيّات يحتاج إلى تنسيق مباشر وبحث جدّي بين السلطات اللبنانيّة والسوريّة، فالقانون وحده لا يكفي. وبحسب النائب زعيتر، فإنّ “الملفّات العقاريّة المماثلة تحتاج إلى قرار سياسيّ واضح، وإلى اتّفاقيّات تُنفّذ بين البلدين، فهذه الوثائق القانونيّة لا يمكن أن تأخذ مجراها الطبيعيّ من دون غطاء سياسيّ”.

أمّا المحامي صقر، فيعتبر أنّ “على الحكومة اللبنانيّة أن تتحرّك دبلوماسيًّا لحماية حقوق مواطنيها الذين هُجّروا، وأن تقدّم لهم الدعم القانونيّ والقنصليّ لمتابعة ملفّات ملكيّاتهم داخل سوريا”.

ويتابع: “عليهم تشكيل لجان مشتركة تُعدّ لوائح رسميّة بأسماء المالكين والعقارات، بما يحفظ الحقوق، وصولًا إلى تقديم الملف إلى الهيئات الدوليّة في حال ثَبُتَت الملكيّة أو حصلت عمليّات مصادرة غير قانونيّة من الجانب السوريّ”.

ذلك الامتداد الجغرافيّ بين البلدين، الذي يكون نعمة في أيّام السلم حيث يزدهر التبادل التجاريّ والعلاقات والتداخل السكّانيّ، يتحوّل إلى لعنة في زمن التجاذبات. يدفع النازحون ثمن وجودهم السابق في سوريا وهويّتهم اللبنانيّة، فيما مصيرهم ومصير أبنائهم معلّق في الهواء، في ظلّ غياب الدبلوماسيّة والمفاوضات والتنسيق الحقيقيّ بين الدولتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى