زيتون البقاع يتدحرج بين شحّ الموسم وارتفاع الكلف

في ظلّ الظروف المناخيّة المتقلّبة والمتردّية، وغلاء المواد الزراعيّة وغياب الدعم الرسميّ، يعاني مزارعو الزيتون في البقاع من أصعب المواسم منذ سنوات. فالإنتاج تراجع بشكل ملحوظ، والكلف تضاعفت، والمعاصر رفعت أسعارها من دون ضوابط، فيما السوق تعاني من زيت مستورد غير مضمون يُغرق المتاجر.
هذا الواقع الصعب كشفه مدير أحد المشاتل في البقاع والمسؤول عن مزارعي الزيتون في المنطقة، إذ قدّم صورة شاملة عن التحدّيات التي يواجهها القطاع.
مواسم ضعيفة وكلف منهكة
يشرح مدير المشتل والمسؤول عن مزارعي الزيتون في البقاع زين الترشيشي، أنّ “موسم الزيتون هذا العام كان ضعيفًا للغاية، إذ لم يكن هناك إنتاج يُذكر نتيجة الجفاف وعوامل الطقس والطبيعة، إضافة إلى ارتفاع الكلفة على المزارعين، سواء في الأسمدة أو الأدوية أو اليد العاملة الزراعيّة”. يتابع لـ “مناطق نت”: ” شهدت المنطقة تراجعًا واضحًا في كمّيّات الإنتاج، ليس بسبب الطبيعة فقط، بل أيضًا بسبب الغلاء غير المسبوق للمواد العضويّة والأدوية الزراعيّة والكيماويّة، ما دفع عددًا كبيرًا من المزارعين إلى ترك أراضيهم وبساتينهم من دون عناية، فلا أسمدة ولا أدوية، وهذا وحده كفيل بخفض الإنتاج بشكل كبير”.
يضيف الترشيشي أنّ “التقلّبات المناخيّة لعبت دورًا أساسيًّا في الضرر، بدءًا من برودة الطقس التي ضربت أشجار الزيتون خلال فترة الإزهار، مرورًا بارتفاع درجات الحرارة خلال مرحلة تكوين الثمار، وصولًا إلى تدني هطول الأمطار والجفاف الذي أثّر مباشرة في المحصول وجودته”.
عن أبرز التحديات التي تواجه مزارعي الزيتون في البقاع اليوم، يراها الترشيشي “في الأمراض الفطريّة والآفات وقلّة الريّ، إضافة إلى النقص الكبير في الأسمدة والأدوية الزراعيّة”.

ويشير كذلك إلى أنّ “ارتفاع أسعار السماد والأدوية والمحروقات وقلّة المياه جعل كلفة الإنتاج أثقل من أن تُحتمل. وفوق ذلك، يعاني المزارعون من نقص اليد العاملة خلال موسم القطاف، ولا سيّما اليد العاملة السوريّة التي كان يعتمد عليها البقاع منذ سنوات، إذ تراجع عددها كثيرًا في لبنان بعد التطوّرات داخل سوريا، ما أدّى إلى ارتفاع كلفة بقيّة العمّال بشكل كبير”.
زيتون البقاع بانتظار المطر
غالبًا ما يُوصف نمط الإنتاج الزراعيّ في البقاع بأنّه يعتمد على الخضار والحبوب حتّى سمّي في يومٍ من الأيّام بـ “إهراءات روما”، لتأتي في الدرجة الثانية أشجار الفاكهة وغيرها. ونادرًا ما يُذكر الزيتون بأنّه من المواسم الأساسيّة في البقاع، إذ تحتلّ الشجرة جزءًا أساسًا من الخريطة الزراعيّة فيه، ويُعدّ من المناطق التي لا يُستهان بدورها في إنتاج الزيتون نظرًا إلى مساحاته الزراعيّة الواسعة وبيئته الملائمة لزراعة هذه الشجرة المباركة.
وتبرز في هذا السياق بلدات مثل: اللبوة، حلبتا، الصوبا، العين، وادي فعرا، زبود، عرسال، الزيتون، جبولة، ورأس بعلبك بوصفها من أهمّ القرى البقاعّية التي تعتمد على زراعة الزيتون كمورد زراعيّ أساس.
وعلى الرغم من مساحته الصغيرة، وبسبب تنوّع جغرافيّته بين ساحل وجبل وداخل، يتفاوت توقيت موسم واحد في لبنان بين منطقة وأخرى، فبينما أنهى الجنوبيّون (باستثناء منطقة حاصبيّا) موسم قطاف الزيتون، بدأ البقاعيّون منذ أيّام معدودات قطاف موسم الزيتون، إذ يتريّثون في قطافه بانتظار المطر.
الترشيشي: هناك طلب مرتفع جدًّا على زيت زيتون البقاع بموازاة مناطق أخرى كجبل لبنان وطرابلس وعكّار، نظرًا إلى جودته العالية
غلاء المعاصر ومنافسة المستورد
عن أسعار أجرة معاصر الزيت يلفت الترشيشي إلى أنّ “أسعار المعاصر باتت مرتفعة وغير موحّدة، فهناك معاصر بأسعار خياليّة وأخرى متوسّطة، ما يخلق حالة من الفوضى والتلاعب في السوق”. ويضيف أنّ “آفات عديدة ضربت الموسم الحاليّ، أبرزها دودة البحر المتوسّط وذبابة البحر الأبيض المتوسّط، وهما آفّتان تصيبان حبّة الزيتون مباشرة، إضافة إلى مرض عين الطاووس ودودة الخياطة، والتي تتمّ مكافحتها بالأدوية الكيميائيّة أو عبر المصائد أو من خلال الرشّ المستدام”.
وعلى رغم ضعف الإنتاج، يؤكّد الترشيشي أنّ “جودة زيت الزيتون في البقاع هذا العام بقيت عالية جدًّا، وإن كانت الكمّيّات قليلة”. ويشرح أنّ “جودة الزيت تختلف بين القرى بحسب المناخ ونوعيّة التربة، فالتربة البيضاء تعطي زيتًا عالي الجودة، بينما التربة الحمراء تُنتج زيتًا أقلّ جودة بقليل، أمّا التربة البنّيّة فتأتي في المرتبة الثالثة، وتتأثّر الجودة أيضًا بنسبة الكلس في التربة”.
ويشدّد الترشيشي على أنّ “معظم المعاصر تلتزم مبدئيًّا بالمعايير الصحيحة للعصر والتخزين”، مشيرًا إلى أنّ “سعر صفيحة زيت الزيتون يراوح هذا الموسم بين 130 و150 دولارًا، وأنّ الأسعار وفق العرض والطلب، لا وفق الإنتاج وحده. ففي حال قلّ الإنتاج ترتفع الأسعار، وإذا ارتفع الإنتاج تصبح الأسعار متوسّطة”. ويلفت إلى “وجود طلب مرتفع جدًّا على زيت زيتون البقاع بموازاة مناطق أخرى كجبل لبنان وطرابلس وعكّار، نظرًا إلى جودته العالية”.
عن تأثير الزيت المستورد ومنافسته المحلّيّ يتحدّث الترشيشي عن أنّ “وجود زيت مستورد وغير مضمون في السوق بات يؤّثر سلبًا في تسويق زيت البقاع، إذ يحصل تلاعب بالأسعار، بينما لا يعرف المستهلك غالبًا الفرق بين المحلّيّ والمستورد”. والأسوأ، كما يقول الترشيشيي أنّ “وزارة الزراعة لم تقدّم أيّ دعم للمزارعين، لا ماليًّا ولا عبر الأسمدة أو الأدوية أو مساعدات من البلديّات”.
بين فقر الموسم وارتفاع الأسعار
وعن احتياجات المزارعين اليوم، يوضح الترشيشي أنّهم “يحتاجون بشكل أساس إلى طاقة بديلة للريّ، ومساعدات مادّيّة أو أسمدة أو أدوية للرشّ، إضافة إلى شتول هجينة مستوردة”. ويرى أنّ إنشاء تعاونيّة زراعيّة من شأنه أن يحدّ من الفوضى في السوق ومن العشوائيّة في تحديد أسعار العصر وصفيحة الزيت، بما يضمن حقوق المزارع.
الطقش: الشجر عطشان، والأرض متشقّقة، والسماد أصبح أغلى من الذهب
وعلى الرغم من كلّ هذه التحدّيات، يعتبر أنّ “زراعة الزيتون في البقاع لا تزال مشروعًا مجديًا، نظرًا إلى الطلب الكبير على زيت البقاع وجودته العالية، ولأنّ التربة الخصبة في المنطقة تمنح الزيت ميزة إضافية”. ويضيف أنّ “تحسين إنتاج السنوات المقبلة يحتاج إلى إكسار الثواب العضوي المعالج لشجر الزيتون في أشهر تشرين الأوّل وتشرين الثاني وكانون الأول (أكتوبر ونوفمبر وديسمبر)، بهدف تحسين الإزهار والعقد الزهريّ”. وتناول الترشيشي “خططًا لتطوير المشاتل وزراعة أصناف جديدة مثل الأربيكانا الإسبانيّة ذات الإنتاج الغزير، والكوروناكي اليونانيّة ذات الجودة العالية”.
وفي ما يتعلّق بالعائلات التي تعتمد على الزيت كمصدر رزق سنويّ، يؤكّد الترشيشي أنّ “ضعف الموسم أو ارتفاع الأسعار يضرب عيشها مباشرة، إذ تنتظر هذه العائلات الموسم من عام إلى عام، وأيّ خسارة تعني الوقوع تحت خط الفقر. كذلك ينعكس الموسم على الاقتصاد المحلّيّ في القرى البقاعيّة، فحين يغيب الموسم تغيب الحركة التجاريّة ويضعف الدخل في سلسلة مترابطة”.
وتمنّى الترشيشي أن “يكون الموسم المقبل أفضل، وأن تهتمّ الدولة ووزارة الزراعة بالمزارع وبالتحدّيات التي يواجهها”، راجيًا في ختام حديثه أن “يحمل الشتاء المقبل أمطارًا تعيد الخير إلى الأرض، وأن تكون السنوات المقبلة أكثر بركة”.
مواطنون في دائرة الأزمة
يقول الحاج أبو حسين الطقش من بلدة العقيديّة، وهو مزارع يملك بستانًا ورثه عن والده في السهول الغربيّة للبقاع، إنّ “الموسم الحاليّ هو الأقسى منذ عشرين عامًا”. ويوضح لـ “مناطق نت” أنّ “الشجر عطشان، والأرض متشقّقة، والسماد أصبح أغلى من الذهب. كنت أرشّ البستان أربع مرّات في السنة الواحدة، لكن هذا العام بالكاد رششت مرّة واحدة. ماذا أفعل؟ سعر تنكة الزيت سيقارب الـ 150 دولارًا، فكيف الحال إذا تكبّدت مبالغ تقارب ذلك على الإنتاج؟ ماذا سيبقى لي؟”.
ويشير إلى أنّ كثيرًا من جيرانه باعوا أراضيهم أو تركوها من دون عناية، وقال: “صرنا نحصد تعبنا بالديون… مش بالزيت.”
من جهة أخرى، يقول المواطن سامر زعيتر من مدينة بعلبك إنّه بات يحذر كثيرًا قبل شراء الزيت فالسوق تزدحم بالزيت المستورد، ولا نعرف ما هي نوعيّته”. ويؤكّد لـ “مناطق نت” أنّ “زيت البقاع له نكهته وراحته الخاصتّان به”. ويشير زعيتر إلى أنّ “صفيحة الزيت أصبحت أغلى من راتب موظّف، ومع ذلك نضطّر إلى شرائها لأن لا بيت بلا زيت.”
إنّ “اختلاف الأسعار بين المعاصر خلق فوضى في السوق، فكلّ معصرة تضع تسعيرتها الخاصّة بها، والمستهلك ضائع، والمزارع مظلوم.” يختم زعيتر



