قانون تنظيم تجارة البذور: انقلاب على المُزارع وتهديد للغذاء

على مدى قرون، شكّلت البذور المحلّيّة البلديّة أساس الدورة الزراعيّة في لبنان وركناً من أركان تراثه الزراعيّ والبيئيّ. أمّا اليوم، وفي ظلّ الحرب التي يعيشها اللبنانيّون والأزمة الاقتصاديّة الخانقة، يدور الحديث عن مشروع قانون تنظيم تجارة الشتول ومواد الإكثار؛ قانون يرى فيه الخبراء والناشطون البيئيّون خطوة تصبّ في اتّجاه تجاريّ يهمّش حقوق المزارعين، ويعرّض البذور المحلّيّة إلى خطر الاندثار، ويفتح الباب أمام انتشار الأصناف الهجينة بما تحمله من تبعات على البيئة وصحّة الإنسان.
زينب مهدي مزارعة جنوبيّة من الناقورة، ما زالت تعتمد على الزراعة التقليديّة والبذور المحلّيّة. الزراعة بالنسبة إليها هي حياتها، ماضيها ومستقبلها وسرّ صمودها.
تعتمد زينب على البذور البلديّة فتشكّل محصولها من عام إلى آخر. تستخدم الأسمدة المكوّنة من موادّ طبيعيّة كالأعشاب وبقايا الخضار التالفة. ومبيدات الحشرات الطبيعيّة وغير المضرّة بالتربة كالمنقوع والصعتر المغليّ. تستخدم الرماد لإبعاد النمل والسوس والحشرات، ولتغذية التربة.
بالنسبة إلى زينب طرق الزراعة هذه أكثر أمانًا على الصحّة، فهي تعلم ما الذي يتغذّى عليه محصولها. على عكس البذور المهجنّة التي تحتاج باستمرار إلى الأسمدة الكيميائيّة المضرّة بالتربة والصحّة.
المحليّة بدل الهجينة
تحاول زينب جمع البذور البلديّة من عام إلى عام، تقول لـ “مناطق نت”: “إنّ البذور ليست متوافرة كلّها في السوق اليوم”، ولكن على الرغم من هذا تحاول الاعتماد على البذور المحلّيّة بدل شراء المهجّنة، وإن اضطرّت إلى شراء شتول فلا تثق بأيّ مشتل حتّى تتأكّد أنّ الشتول محلّيّة.
زينب لا علم لها بقانون تنظيم البذور المطروح، وبخطره عليها كمزارعة ورثت هذا الكار من أمّها وأبيها. تحاول قدر الإمكان الحفاظ على هذا الإرث، تختار بذورها بعناية وتردّد جملة “بعرف على القليلة عم آكل شي صحّيّ”، في إشارة إلى أن البذور المهجنّة مضرّة في الصحّة بسبب المبيدات. بالإضافة إلى أنّ البذور الهجينة تنتج فقط لعام واحد ولكن لا تنتج في العام التالي، وعليها أن تقوم بشراء هذه البذور والشتول باستمرار ما يجعل هذا الأمر عبئًا مادّيًّا عليها.

ناشطون يدقّون ناقوس الخطر
يدقّ الناشطون والباحثون اليوم ناقوس الخطر، محذّرين من تأثير القانون على الأمن الغذائيّ والتنوّع البيولوجيّ الزراعيّ في لبنان. فكيف يمكن أن يغيّر القانون بصيغته الحاليّة واقع المزارعين؟ وما أبرز المخاطر التي يسبّبها في البذور المحلّيّة وفي مستقبل الزراعة المستدامة وصحّة اللبنانيّين؟
بحسب رئيسة الحركة الزراعيّة في لبنان سارة سلّوم، فإنّ مشروع القانون طُرح من قبل النائب السابق أيّوب حميّد العام 2022. وقد اطّلعت عليه الحركة الزراعيّة في حينه وعارضته. تتابع سلّوم لـ “مناطق نت”: “كانت هناك خمسة قوانين؛ بعضها يتعلّق بالبذور، وبعضها بالأملاك البحريّة، وبعض آخر بالأراضي. وبإعلان النائب نزار الهاني أنّه يعمل على القوانين، قامت الحركة بإصدار تنبيه كي لا يُعاد طرح هذا القانون، إلّا أنّ الوزير أخذ قانون البذور وبدأ العمل عليه”.
وفق سلوم، “خلال الاجتماع الذي دعا إليه الوزير والذي حضره الائتلاف البيئيّ الزراعيّ والحركة الزراعيّة والمفكّرة القانونيّة، أعرب الناشطون عن مخاوفهم بأنّ المشروع مستوحى من اتّفاقيّةUPOV لحماية الأصناف، وهي اتّفاقية ترفضها هذه الجهات، لأنّها تعمل ضدّ المزراعيّن وحقوقهم من خلال احتكار الشركات الكبرى للبذور، بالإضافة إلى أنّ القانون لا يحمي لبنان من دخول البذور المعدّلة جينيًّا إليه، ولا يساهم في الرقابة على هذه البذور التي تُلحق الضرر بالتنوّع البيولوجيّ”.
أمراض وڤيروسات
تشير سلّوم إلى أنّه “ربّما تأتي بذور تحمل أمراضًا أو فيروسات لأنّها مستوردة من الخارج، لا نعرف مكوّناتها، بخاصّة وأن القانون يمنح المستنبِط سرّيّة كاملة، فلا نعرف ما الذي يتّمّ إدخاله إلى البلد، كذلك فإنّه من الناحية العلميّة من الممكن إدخال فيروسات إلىDNA هذه البذور”.
سلوم: القانون يمنح الشركات صلاحيّات واسعة، أساسها حقّ الملكيّة الفكريّة الحصريّة للبذور، علمًا أنّ بذورنا الوطنيّة غير مسجّلة بالكامل، وبالتالي يمكن للشركات أن تأخذ ملكيّة منطقة كاملة
الأخطر من هذا بحسب سلّوم، أنّ “القانون يمنح الشركات صلاحيّات واسعة، أساسها حقّ الملكيّة الفكريّة الحصريّة للبذور، علمًا أنّ بذورنا الوطنيّة غير مسجّلة بالكامل، وبالتالي يمكن للشركات أن تأخذ ملكيّة منطقة كاملة، بينما يُغيّب المزارع تمامًا، ويحوّل إلى مجرّد ‘أداة‘ تُستَخدم أراضيه لخدمة الشركات”.
هناك كثير من النقاط التي يعترض عليها المزراعون والمزراعات، منها مسألة الملكيّة الفكريّة للبذور التي تهدّد المزارعين بشكل مباشر وتصبّ في مصلحة الشركات الكبرى. هذا ما تقوله الناشطة الحقوقيّة والبيئيّة رهام الصيص، التي أكّدت لـ “مناطق نت” أنّ “تبعات الملكيّة الفكريّة كارثيّة، لأنّ المزارع الذي يزرع بذورًا بلديّة، إذا ما تلقّحت هذه البذور ببذور خاضعة للملكيّة الفكريّة فربّما يلاحق قانونيًّا، لأنّ الملكيّة الفكريّة تمنح صاحبها وحده حقّ البيع والتصرّفّ وتجرّم استخدام البذور من دون إذن المستنبط، وهنا قد يتّم رفع دعوى على المزارع ومصادرة محصوله بالكامل”.
تتابع رهام “بالإضافة إلى الملكيّة الفكريّة هناك عبء تسجيل الأصناف ودفع الرسوم لكلّ من يريد استهلاك أو استخدام البذور، وكلف توزيعها في مغلّفات محدّدة ومنع تغييرها أو نقلها من مغلّف إلى آخر، وصولًا إلى العقوبات المفروضة على المخالفين للقانون”.
بين البيئة والمزارع
وتشير رهام إلى أنّ “القانون ركّز تركيزًا كبيرًا على معايير معيّنة، من دون أن يسلّط الضوء بما يكفي على معايير القيمة الغذائيّة أو على شروط تضمن تمتّع هذه البذور بقيمة غذائيّة ثابتة أو مضافة بالنسبة إلى الأصناف التي سيجري إنتاجها في حال تطبيقه”.
وتشرح رهام أنّ مشروع القانون “يفرض على المزارعين البيئيّين أعباءً كبيرة جدًّا، على عكس قانون البيئة اللبنانيّ 444/2002 الذي يمنح تسهيلات وحوافز ضريبيّة للأشخاص ممّن يمارسون نشاطات تحافظ على البيئة والطبيعة والتنوّع البيولوجيّ وتخفّف التلوّث. فالمزارع الذي يزرع زراعة بلديّة، ولا يرشّ المواد الكيميائيّة، ويستخدم وسائل طبيعيّة للحفاظ على محصوله، يقدّم للمستهلك منتجًا ذا قيمة غذائيّة عالية. وبدلًا من مكافأة هذا المزارع، يأتي هذا القانون ليظلمه”.
وتلفت رهام، إلى “أنّ من بين موّاد القانون ورد أنّه في حال وجود مخالفة في البذور أو الشتول أو مواد الإكثار لمعايير القانون، يجب إتلافها. ولكن لم يتّم تحديد كيف ستطبّق عمليّة الإتلاف والأثر البيئيّ الناتج عنها. فإتلاف هذه المواد ربّما يتّم عبر رميها في البحر أو الأنهار أو إحراقها، وكلّ واحدة من هذه الطرق يمكن أن تترك أثرًا بيئيًّا خطيرًا”.
قانون يعاقب المزارعين
هذا القانون لا يلقي بالعبء على جيب المزارع وحسب، بل يأخذ منحىً آخر أيضًا، هو معاقبته إذا ما خالف بنوده.
يشرح الناشط والباحث الزراعيّ غسّان السلمان، كيف يعاقب القانون المزارعين دون تمييز بين قدراتهم، مقابل عمالقة السوق من الشركات. ووفق السلمان، “يجرّم القانون زراعة البذور البلديّة. وبحسب نصّ القانون الحاليّ في الفصل الثامن يُعاقب كلّ من يقوم بإنتاج أو إكثار أو استيراد البذور غير المُسجّلة بغرامة ربّما تصل إلى ثلاثة مليارات ونصف مليار ليرة لبنانيّة، مع مدّة سجن قد تصل إلى ثلاث سنوات”.
يتابع لـ “مناطق نت”: “هذا حتّى إن لم تكن الغاية من إكثار البذور التسويق والبيع، على رغم أنّ القانون يهدف إلى تنظيم التجارة فقط، وهذا يتناقض مع المادة 11 التي تعطي استثناءات غير واضحة أبداً، حول بعض البذور البلديّة المستثناة من التسجيل، بخاصّة تلك المُنتجة من قبل المزارعين، على رغم أنّ كلّ البذور البلديّة مُنتجة من قبل المزارعين”.
ويشير السلمان إلى أنّ “السرّيّة المنصوص عليها في المادّة 13 ربّما تعطي الشركات القدرة على احتكار أصناف بلديّة كجزء أساس من إنتاج بذورهم الهجينة. بعض المزارعين والمزارعات ما زالوا يزرعون أصنافًا بلدية ورثوها عن أهلهم وسيصعب عليهم تسجيلها. هؤلاء المزارعون والمزارعات مهدّدون بالسجن والغرامات”.
كارثة على المجتمع والبيئة
مخاوف السلمان لا تقف عند هذا الحدّ، بل تذهب إلى ما هو أبعد بكثير، إذ يرى “أنّنا أمام كارثة على نطاق المجتمع والبيئة والقدرة على إنتاج الغذاء. لأنّه يخوّل للموظّفين المكلّفين بتطبيق بنوده طلب مؤازرة قوى أمنيّة، وستحصل بالتالي عمليّة تلف المزروعات وسجن للمزارعين والمزارعات باستخدام القوة، أيّ تحوّل لبنان إلى دولة ديكتاتوريّة بإملاءات خارجيّة”.
مضيفًا: “أرى واقعًا شبيهًا بما حصل مع لجان العمل الزراعيّ في الضفّة الغربيّة في الأوّل من كانون الأوّل (ديسمبر) 2025. بعد أن تمّ تصنيف اللجان على قائمة الإرهاب، تمّت مداهمة مراكز عملهم ومصادرة البذور البلديّة والسجلّات وسجن كلّ من يعمل فيها”.

خصائص البذور البلديّة
للقانون بطبيعة الحال أثر سلبّي خطير على البيئة والتنوّع البيولوجيّ. فالبذور البلديّة هي بذور جرى تأصيلها في المنطقة ولها قدرة على التأقلم مع المناخ. كذلك فإنّها عند زراعتها، لا تحتاج إلى كثير من الرشّ أو المواد الكيميائيّة، لأنّها تأقلمت مع الأمراض التي قد تهدّدها.
تضّر الموّاد الكيميائيّة المستخدمة في الزراعة أوّلًا بالحياة الموجودة في التربة، مثل البكتيريا والفطريّات المفيدة التي توفّر الغذاء للنباتات، فتقوم بقتلها. وعندما تُروى الأرض، تأخذ المياه جزءًا من هذه المواد الكيميائيّة إلى الجداول والأنهار، ما يؤدّي إلى ظاهرة التغذية المفرطة.
و”عندما ترتفع نسب النيتروجين والفسفور والبوتاسيوم في الأنهار، يحدث نموّ مفرط للطحالب، ما يؤّثر في نسبة الأوكسجين في المياه، وبالتالي على الأسماك والنباتات المائيّة. وفي الوقت نفسه، تؤثّر الكيميائيّات في الحياة البرّيّة مثل الطيور التي تتغذّى على الحشرات المسمّمة”. بحسب الناشط البيئيّ راند خوري.
وهنا نلحظ كيف يمكن بخطوة استخدام المبيدات التي تعيش منها البذور المهجّنة تهديد التنوّع البيولوجيّ في بلدنا بأكمله.
ويوضح راند: “تقول الدراسات إنّ البذور المهجّنة فقدت كثيرًا من الفوائد الصحّيّة التي كانت تتمتّع بها. فمثلًا فقدت نسبة من الفيتامين “سي” والحديد والألياف والبروتين… وغالبيّة البذور اليوم، وبخاصّة المهجّنة، خسرت جزءًا كبيرًا من مقوّماتها الغذائيّة”.
البذور وخصائص التغذية
في حديث مع اختصاصيّة التغذية نادين خير الدين، أكدّت أنّه بحسب الدراسات العلميّة “فإنّ التعرّض المزمن إلى كمّيّات مرتفعة من بقايا المبيدات ربّما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعديد من المشاكل الصحّيّة، كاضطرابات هرمونيّة، مناعيّة، زيادة الإلتهابات في الجسم ومشاكل بالجهاز الهضميّ والتنفّسيّ لدى الأشخاص ممّن يعانون من ضعف مناعة أو مشاكل سابقة صحيًّا وصولًا إلى اضطرابات في الجهاز العصبيّ”.
ربما يشكّل التراكم المستمرّ لهذه الموّاد خطرًا إضافيًّا، لا سيّما عند الأشخاص الأكثر عرضة للخطر، كالأطفال، لأنّ مناعتهم غير مكتملة وأجهزتهم وبخاصّة الجهاز المناعيّ والهضميّ ما زالت في طور النموّ. كذلك فإنّ الكبد الذي هو عضو أساس يعمل كفلتر رئيس في الجسم يكون غير مكتمل، فأيّ مادّة كيميائيّة سيكون تأثيرها نسبيًّا أكبر عليهم.
-النساء الحوامل، لأنّ مناعتهم في الحمل تضعف وأيّ تعرّض لمادّة كيميائيّة يمكن أن تنتقل إلى الجنين.
-كبار السنّ، بسبب ضعف مناعتهم مع العمر وخصوصًا عند من يعاني من أمراض مزمنة، وعلى الأخصّ اضطرابات مناعيّة أو مشاكل كلى أو كبد.
-والأشخاص من ذوي المناعة الضعيفة أو ممّن يعانون من مشاكل تحسّسيّة.
خلاصة القول: يهدّد القانون المطروح حقوق المزارعين، وسيادتنا الغذائيّة، وبذورنا المحلّيّة التي تشكّل إرثنا الزراعيّ وهويّة بلدنا، وأمننا الغذائيّ وصحّتنا كمستهلكين. فلمَ يُطرح مثل هذا القانون اليوم في ظلّ ما يشهده لبنان؟ هل إنّ الوزارة حقًّا غافلة أم تتغافل من أجل خدمة عمالقة الشركات وربّما أبعد من الشركات؟



