“الاجتماع البعلبكي” لجمال عرفات… وحكاية الحداثة والإنماء
حسين حمية
ارتبط خطاب المسألة الإنمائية في منطقة بعلبك الهرمل وتعثرها أو فشلها بإهمال الدولة وتحيزها الطائفي والجهوي، ومع أن هذا الخطاب أسهم في تظهير المشكلة الإنمائية وتوسيع مساحات إثارتها والمظالم والافتئاتات الناجمة عنها، إلا أن ذلك لم يفلح في فتح الأبواب أمام معالجات جذرية لها على الرغم من إلحاحها، بعد أن تجاوزت الأمراض الاجتماعية المتولدة منها الخطوط الحمراء لأمن المنطقة ووضع تعايشها الأهلي أمام أخطار محدقة.
لا اعتقد أن أحدا في لبنان على الاستعداد للتطوع لغسل أيدي الدولة اللبنانية من هذه المشكلة المزمنة التي تنوء منطقة بعلبك الهرمل تحت حملها الآخذ في التثاقل مع الايام. لكن لا يعني تجريم الدولة تغييب عوامل أخرى متواطئة بتعقيد العملية الإنمائية وعرقلتها عن قصد أو بغير قصد، ومنها هذا الخطاب الذي يعرض فيه أهل المنطقة قضيتهم المحقّة.
شحيحة هي الكتب التي تتناول الأوجاع البعلبكية، وليس مبالغة القول أنها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، واقصد تلك التي تحاول أن تداوي الجرح الإنمائي للمنطقة، فقبل أن صدور كتاب جمال أحمد عرفات”الاجتماع البعلبكي من خلال العمل البلدي (1958-1970) كان للدكتورة عيدا زين الدين كتاب عن التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمدينة بعلبك.
في كتابه يحاول جمال أحمد عرفات أن يضخ معاني جديدة في مفهوم القضية الإنمائية لمدينة بعلبك ومنها للمنطقة، فالمفهوم المتداول لهذه المشكلة بات متقادما وباليا، وجعله الاستخدام السياسي لازمة كلامية بكماء خاوية من المعنى وذات شحنات ضعيفة في التحريض والثورة على الواقع.
أهم ما في كتاب ابن هذه المدينة، هو إعادة تصويب الانطباعات عن بعلبك، بعد التعميم، بأنها جثة من قرون ماضية لم تستيقظ على قدوم العالم الجديد الذي يضج بالتبدلات وهدير التغيرات، وفي الكتاب أيضا، ليس تاريخ بعلبك، تاريخا خاملا بطيء الحركة، هناك صورة أخرى ينقلها جمال عرفات، عن سيرورة بعلبكية، نشطة بذاتها ومقاومة لبلادة الآخر، والبلادة هنا، تنطوي على سوء نية، تهدف لتطويع المدينة وحرمانها واستدراجها لأدوار مرفوضة.
يجتزأ عرفات بكتابه مرحلة زمنية من تاريخ المدينة، هي ما بين 1958 و 1970، لكن لا يعني هذا أن كلامه ينغلق على “درفتي” هذين التاريخين، إنما يأخذ ما بينهما على أنه شرفة زمنية تطل على الماضي والحاضر، وعليه، ينفتح على المراحل السابقة ويتقصى عن أوصالها في الفترة التي يتناولها بكتابه. كما أنه يأخذ على سبيل المثال وليس الاختزال، النشاط البلدي في بعلبك، على اعتبار أن البلدية هي أحد مراكز النشاط المنظم والهادف للبعلبكيين.
وإذا كان جمال عرفات يصوب إلى الإشكالية التي يعالجها في كتابه، وهي الكيفية التي تم فيها سكب الجماعة البعلبكية في قالب الدولة التي أتى به المستعمر الفرنسي وما رافق عملية السكب هذه من تصادم أو تباين أو تخالف أو تكيف بين موروث الجماعة وبين جديد المؤسسات وأنظمتها، فالكتاب ينفتح إلى جانب هذه الإشكالية على العديد من القضايا والأمور البعلبكية اللامحكى عنها، في حين تناولها بالكتابة والحوار والندوات هو شرط أساسي لحل عقدة لسان الشعار البعلبكي عن الإنماء.
أترك لقارىء الكتاب أن يتحرى عن العلاقة المتبادلة بين الدولة و”المواطن” البعلبكي، وهي تنضح بشكل فاقع بغياب حس المسؤولية لدى رعاة مشروع الدولة وضم بعلبك إليه، لكن بالوقت نفسه نلحظ أو نستشف في الكتاب أن الابتعاد البعلبكي أو إبعاد البعلبكي عن مشروع الدولة له أكثر من بعد، أضف وجود التواطؤ على الذات، بالأستمرار في توسيع الفجوة بين عقلية المؤسسات الأهلية وعقلية مؤسسات الدولة، وهي تتسع بالمساومة اليومية وتأخذ من فكرة الدولة نفسها لدرجة سحقها.
من ضمن ما يجب الالتفات إليه في كتاب “الاجتماع البعلبكي” هو معاينة المنافذ الأولى التي تسرّبت منها الحداثة إلى بعلبك، وهذه تؤشر إلى دور البلدية بشكل رئيسي، لكن على الهامش، هناك إشارات عميقة في الزمن تدل على القابلية البعلبكية للتحديث، ويُظهر الكتاب أن بدايات انعتاق المجتمع البعلبكي من تقاليد البداوة والذهاب إلى السلوكيات المدينية هي قديمة وواكبت المدن الأخرى، كتأريخه لوجود الفنادق والمقاهي في المدينة وتحجيم اسواق التبادل وإقامة الحفلات والدخول في الأحزاب وتوسع الاندماج الإهلي عبر مؤسسات الدولة مدرسية وحكومية، كما يوضح النجاحات والصعوبات التي تعانيها المدينة في مجانسة الثقافات الريفية والعشائرية مع الضرورات المدينية.
أهمية كتاب “الاجتماع البعلبكي” لجمال عرفات، هو تظهير الإيجابية البعلبكية، والاعتراف لمدينة بعلبك قدرتها على هضم التنوع العائلي والديني والمذهبي والثقافي مع هذا القدر الضحل من الإنماء والدور، وهذا يعيدنا إلى دور القيم والتقاليد البعلبكية في حفظ عيشها الأهلي وانتمائها الوطني، لكن هذا لا يعفي الدولة من واجباتها.