ملحمة الدبابير وجيش ابو شرطوطة
حيدر حيدر
ولادتي وسكني في بيروت لم يمنعا من زياراتي المتكررة إلى قريتي جويا التي أمضيت فيها جزءا أساسيا من طفولتي حيث كانت العائلة تزور البلدة باستمرار حيث كنا نقضي العطل الصيفية فيها. كنا نقيم في منزل جدي لأمي من آل الحاوي في الحارة التحتىا. وكنت ألعب مع أترابي وهم مجموعة من الأولاد تتراوح أعمارنا بين التسع والخمس عشرة سنة. كنت الأصغر بينهم، وحين كنا نلعب كرة القدم كان الكبار هم سادة اللعبة، يضعوننا نحن الصغار «إحتياط» يوكلون لنا مهام جلب الكرة حين تخرج من دائرة اللعب.
كان أمين الأكثر شيطنة بيننا يبتكر حركات بهلوانية يقلده الآخرون فيها. في إحدى المباريات ترك غسان وهو أحد اللاعبين اللعبة وذهب ليقضي حاجته، توجه نحو خندق المغاريق وهو منخفض تنحدر فيه أمطار الشتاء من أعالي البلدة نحو حارة التحتا لتصب في الأراضي المحيطة في الحارة. الخندق يرتبط في أعلاه بعين الجديدة التي ينبع منها الماء الذي يصل إلى عين السفلى حيث تنتصب أعواد القصب وتنتشر من أعلى الخندق حتى أسفله مع بعض الأعشاب البرية.
بعد أن قضى غسان حاجته، بادر إلى قطع إحدى القصبات ليلهو بها، وما أن تحرّكت القصبات حتى خرج دبور من بينها ولسعه ففرّ مولولاً حيث أخبر الجميع بما حصل له وعن أعشاش الدبابير. بدأ أمين بالتعبئة وتهييج الجيش بالغناء تارة وبالحداء الذي كان يسمعه أثناء الجنازات تارة أخرى. ومما كان يقوله: قوموا هجموا ردو الطار (الثأر)… ما في دبور ولا زلاقط بيبقوا بالدار.
بدأنا نردد الحداء وصرنا نصرخ ويعلو صوتنا مع الحماس.. وضع أمين خطة تسلل مع مجموعة إلى الخندق وأحضر أعواد القصب ووضع عليها قطع من الأقمشة المهترئة حيث رُفعت كأعلام وبيارق وكُلِّف حيدر بالهجوم، على أن تنبطح مجموعة الإسناد (الأصغر سناً) ويُقتصر دورها على الحداء والغناء والمراقبة.
تحمّس حيدر قائد الهجوم، شكّل عن ساعديه وشمّر عن بنطاله استعداداً للهروب، وحمل عود القصب يعلوه شرطوطة كبيرة ونزل الخندق. إنبطح الإسناد أرضاً، وما أن حرّك حيدر بقصبته عش الدبابير حتى أغار عليه سرب منها، حيث فرّ هارباً وما لبث أن سقط أرضاً لكثرة اللسعات التي نالها (لا من إيدو ولا من إجرو). تمّ حمل حيدر من أربعة جنود من يديه ورجليه وراح أمين يحدو مبدلاً من حدائه بشعار آخر «راح الفدائي يا حيدر.. إجا خيو مطرحو» حيث رحنا نردِّد وراءه العبارة بحماس.
تحمّس محمد الأخ الأصغر لحيدر. ذهب إلى البيت، لبس بنطلوناً نفاخي (منفوخ الجيوب) وبسطاراً وهم ملابس والده في العمل، وعاد مستنفراً متهيئاً.. ولكي يكتمل المشهد أحضر أحدهم طاسة عبارة عن طنجرة صغيرة وضعها على رأسه، وتمّ إحضار «طاروح» كبير من القصب، عُلِّق عليه قطع قماش كبيرة وسار الجميع استعداداً للهجوم وبدأ الحداء من جديد. إنضم إبراهيم الذي صودف مروره يقود البقرات ليسقيهم من العين إلى الهجوم وترك البقرات بمفردها تذهب إلى البيت. إبراهيم أضاف عنصرا جديداً على المجموعة إذ سحب «منجيرته» وبدأ بالعزف عليها ليكتمل المشهد. جيش جرار مؤلف من قائد وأعلام وموسيقى وجمهور مساند. حمل محمد «طاروح» القصب إيذاناً ببدء الهجوم، وركض مسرعاً نحو الخندق ليبيد الدبابير والزلاقط إنتقاماً لأخيه. لكن الذي حدث لم يكن يتوقعه محمد حيث أسراب الدبابير والزلاقط مستنفرة، وما أن رأته حتى انقضّت عليه ليسقط أرضاً هو الآخر مغشياً عليه.
هرب الجميع.. إنهزم جيش «أبو شرطوطة».. هرب قائد التوجيه أمين ومن ورائه الأولاد وهو يصرخ «وقع الله لا يقيموا… وقع الله لا يقيموا» والجميع يردد وراءه العبارة نفسها التي لا زال يتردّد صداها حتى الآن في عين التحتى، فيما لسعات الدبابير والزلاقط لا زالت حية تلسع ما تبقى من ذاكرة لتوقظها، وتحيي فيها أياماً جميلة كانت وستبقى محفورة في الأمكنة وعلى ضفاف الذكريات.