لبنان الذي لا يخجل!
زهير دبس
نصف ساعة من الوقت هي المسافة الزمنية الفاصلة بين بحر لبنان حيث «فقش» الموج وبين جبله حيث لمعان الثلج… هكذا قرأنا في كتب الجغرافيا وهكذا تعلمنا منذ الصغر، بأن تلك المسافة القصيرة الفاصلة هي إحدى مزايا لبنان التفاضلية التي تميّزه عن غيره من البلدان ليس في المنطقة فحسب بل ربما في العالم. هذه الميزة التفاضلية الواقعة في الجغرافيا اللبنانية منذ نشوء تلك الجغرافيا، اختلفت كلياً خلال هذا الأسبوع. فبحر لبنان لفظ من جوفه بحر من النفايات، وثلجه ابتلع ضحايا أبرياء تناثرت جثثهم في جرود بلدة الصويري هرباً من جحيم الحروب في بلادهم.. لم يجدوا طريقاً للخلاص من ذلك الجحيم سوى ميزة لبنان التفاضلية فقضوا تجمّداً بين ثلوجها..
بين بحر لبنان وثلجه صورتان تختصران المشهد، الأولى استوفت كامل شروطها الفنية والتقنية للعرض، وهي للنائب سامي الجميل يتجوّل في ذلك الممر الطويل بين بحر النفايات، والثانية لسيارات الدفاع المدني تنتشل الضحايا من بين بقع الثلج.
لم يستأثر مشهد المرأة السورية وهي تحتضن أطفالها المتجمدين حتى الموت في الثلج على اهتمام اللبنانيين، لم يخجل لبنان من ذلك المشهد المخزي والمؤثِّر.. مرَّ مرور الكرام وكأنَّ شيئاً لم يحدث.. استحوذ المشهد الآخر على الاهتمام الأكبر، ومعه تبادل الاتهامات بشأن مصدر النفايات… مكب برج حمود الشرعي، أم مكب بيت شباب العشوائي.. من أين فاضت النفايات؟ من نهر الكلب؟ أم من بحر الذوق! من ارتفاع منسوب مجرى النهر أم من ارتفاع موج البحر.. تتدخّل الرياح الجنوبية الغربية التي يتميّز بها لبنان لتنقذ مكب برج حمود والكوستابرافا من المسؤولية، فيصرّح الوزير أكرم شهيب أن مصدر النفايات ليسا من المكبين البحريين المذكورين وإلا لكانت الرياح الجنوبية الغربية نثرت النفايات على طول الشاطىء اللبناني.
وعلى وقع توقيع رئيس الجمهورية مرسوم دعوة الهيئات الناخبة للاستحقاق الانتخابي في السادس من أيار المقبل انطلق السباق الانتخابي، فوزير البيئة طارق الخطيب الذي أطل من نافذته الفايسبوكية معلناً ترشّحه للانتخابات، أطلّ أيضاً من بيت شباب حيث المكب العشوائي ليعلن بأن الفيلم الاستعراضي للجميّل لم يكن ناجحاً… وليأتِ ليرى من أين مصدر النفايات؟ ويتابع: «من يريد الاستعانة بالنفايات في حملته الانتخابية فالنفايات ليست ماكينة انتخابية ناجحة».
لم تكن مشكلة النفايات في لبنان يوماً مشكلة تقنية، بل هي امتداداً للملفات الكثيرة الشائكة التي ترسم فيها الطوائف حدود فيدرالياتها المقنعة، تارةً تحت عنوان مشكلة النفايات وطوراً تحت عناوين مشاكل أخرى وما أكثرها. فمنذ انفراط عقد نفايات الطوائف في مكب الناعمة وإقفاله، انتشرت المكبات العشوائية لتصبح ٩٤١ مكباً في طول البلاد وعرضها، وهي جاءت نتيجة رفض الطوائف لإقامة مكبات في مناطقها تحت ذرائع مختلفة.
بين الفرز من المصدر والطمر والحرق والتفكك الحراري تستحضرني مقاربة عفوية وبسيطة لحل مشكلة النفايات كانت معتمدة في القرى قبل الحرب الأهلية، حين كانت النسوة يخرجن كل صباح أمام بيوتهنّ إلى الطرقات والدروب، ويبدأن الكنس يميناً وشمالاً. يصبّحن بعضهنَّ قبل أن يقمن بجمع النفايات البسيطة وحرقها في الحواكير لتتحول إلى أسمدة تغذي المزروعات. لم تكن النسوة يعتبرنَ أن نظافة منازلهم ينتهي عند حدود الدار أو البيت، بل كان يتخطاه إلى الطريق والأماكن المحيطة التي كنًّ يحرصن على أن تكون نظيفة وخالية من أي تلوّث.
لم ترقَ مشكلة النفايات في لبنان يوماً إلى عنوان «الأمن البيئي الحيوي» الذي لا يقلُّ أهميّة عن باقي مكوِّنات الأمن الأخرى ويشكِّل أساساً للحماية الصحية والحياتية التي تضمن سلامة الإنسان وعدم تعرُّضه للأمراض، ولم تعد البيئة الآمنة التي تعني البحر النظيف والهواء الخالي من التلوّث وحماية المياه الجوفية ومياه الأنهار من التعديات هماً وطنياً، حدودها المياه الإقليمية والسماء وباطن الأرض، ضاقت وانحسرت إلى حدود الأماكن السكنية ومجاري الأنهر وشاطئ البحر. صارت مكبات النفايات هي التي ترسم الحدود الفاصلة بين الطوائف وقواها السياسية، وأصبحت كل طائفة تغرق بنفاياتها. تحوّلت النفايات إلى مادةً دسمة للحملات الانتخابية، والمكبات إلى حلبة مباراة يقذف فيها كل طرف كرة النفايات إلى مرمى الآخر.
بين جرد الصويري وشاطىء الذوق يرتسم مشهد الميزة التفاضلية الجديدة للبنان. يترسّخ عميقاً في الجغرافيا السياسية.. في الأعلى ضحايا أبرياء تلفظهم الحروب ويقضون تجمُّداً بين أحضان الثلج، وفي الأسفل نفايات يتسابق المسؤولون في التساجل حول المسؤولية عنها. وبينهما نصف ساعة من الوقت تجعل من فكرة الوطن حلماً مؤجلاً لا بل مستحيلاً، يغرق رويداً رويداً بين نفايات أبنائه.