رواية «رحمة» لناهد فران… صرخة في وجه الاتجار بالبشر
زهير دبس
انه القعر… القاع… العالم السفلي هو ما تأخذنا ناهد فران إليه في روايتها “رحمة” التي تسلط فيها الضوء على جرائم الاتجار بالبشر من خلال قصص ثلاث نساء من بلدان عربية مختلفة وقعوا ضحية تلك الجرائم التي تقوم بها عصابات منظمة عابرة للحدود والدول والحروب. وعابرة للانسان الذي تُنتهك أبسط حقوقه دون حسيب أو رادع.
رواية «رحمة» لفران ربما ليست الوحيدة التي تتحدث عن الاتجار بالبشر وعن ذلك العالم المرعب الذي يعيش بيننا وعلى مقربة منّا، فتقارير منظمة العفو الدولية أو غيرها تشير بشكل دائم إلى ذلك الموضوع من خلال تقارير تصدرها تباعاً. وأيضاً وسائل الإعلام تتحدّث من وقت لآخر عن اكتشاف شبكات إتجار بالبشر. لكن مع رواية «رحمة» تعيش ذلك العالم وحقيقته ووقائعه. تدخل دهاليزه المخيفة وتلمس كيف يعيش أولئك البشر المنتهكون بكراماتهم وحريتهم وأجسادهم. تسمع صرخاتهم وأنينهم تتسرب من بين الصفحات وتتردد أصداءها بين الكلمات.
لقد حاكت ناهد فران بإتقان رواية رحمة من خلال سرد شيّق لكنه في الوقت نفسه مؤلم، لا تستطيع وأنت تبحر فيه إلا أن يعتصرك الألم. صنعت فران من «رحمة» إسماً كبيراً في عالم الرواية يحاكي جرائم كبرى في عالم الإتجار بالبشر. عرفت كيف تصرخ من خلال تلك الحكايا وأن تقول إن الإنسان واحد سواء كان في اليمن أو في سوريا أو في العراق. والمجرمون واحد مهما اختلفت جنسياتهم وأعراقهم.
رحمة اليمنية، وياسمين الحلبية السورية، وجيلان الأيزيدية العراقية، ثلاث فتيات يختصرن بأسمائهن وحكاياهن قضية كبيرة لعالم منسي يسير على إيقاع العتمة يحجبه سواد الليل وغياب القوانين واستغلال النفوذ وغياب لحقوق الإنسان التي لم تجد طريقها إليه بعد.. عالم كلما سبرت أغواره تشعر أن لا قعر له ولا نهاية. رحمة وياسمين وجيلان وأم باسل وفاديا وإسراء يختصرن بأسمائهن أسماء مئات لا بل آلاف أو ربما عشرات آلاف الضحايا من الذين وقعوا ضحية جرائم الاتجار بالبشر وهي لا تقتصر على النساء فقط بل تتعداها إلى الأطفال والشباب وفئات عمرية أخرى، كما أنها لا تنحصر بأعمال الدعارة بل تطاول أعمال السخرة وحجز الحرية والأوراق الشخصية وبيع وشراء البشر وغيرها من الأمور التي ترقى إلى مجتمعات الرق والعبودية ونعيشها ونتعرّف إليها من خلال رواية رحمة.
من دار سلم في صنعاء اليمن إلى شمال بيروت جاءت رحمة بناءً على إتفاق يفيد بأنها ستعمل في دار للأزياء، لكن الذي كان ينتظرها في لبنان مغاير لما وُعدت به، واليوم الذي دخلت به إلى مكان العمل كان «أحد الأيام القليلة التي شاهدت فيه الشمس». رحمة تتحدّر من أدنى الطبقات الإجتماعية في اليمن فئة يُطلق عليها «الأخدام» أو «المهمشين» ويعرفون أيضاً بإسم اليمنيين الأفارقة أو الأَفْرُويَمَنِيون هم مواطنون يمنيون يتميزون عن أغلبية سكان البلاد بملامحهم الأفريقية وبشرتهم السوداء. رحمة التي كانت تسكن في حي معظم مساكنه تتألف من صفيح ومن إطارات السيارات لا توجد فيه شبكة صرف صحي ولا كهرباء أو مياه. رحمة هذه زوجوها أهلها وهي ما دون الخامسة عشرة من عمرها لزوج تزوج بعد فترة من زواجه منها بامرأة ثانية، لأن رحمة لم تنجب له أطفال. لكن تشاء الصدفة وهي تفتش بين حاويات القمامة أن تتعرف على مهندس لبناني (جاد) يعمل في إحدى الشركات في اليمن، فتنشأ بينهما علاقة حب قبل أن تنتهي بنهاية عقد الشركة التي يعمل فيها جاد ويغادر اليمن واعداً رحمة بأنه سيأتي ليراها في العطل والمناسبات وهذا لم يحصل. ثم تعود وتتزوج من جديد بعد أن باعها أهلها لرجل سعودي ثري. وينتهي بها المطاف في لبنان بعد إيهامها بأن فرصة عمل تنتظرها، وكلها أمل في أن تعثر على جاد هناك من جديد. لكن القدر لم يكن على مستوى الأحلام فتقع بين أيدي عصابة تتاجر بالبشر فتُساق إلى العمل في الدعارة، وتلقى حتفها في نهاية المطاف بعد أن تلتقي جاد صدفة في مكان عملها.
حكاية ياسمين الحلبية لم تكن أقل غرابة وألماً من حكاية رحمة فالشاب أنور الذي تقدّم لخطبتها في سوريا وأوهم أهلها بأنه يعمل في لبنان في شركة محترمة ويحب ياسمين “وسيتزوجوا ويعيشوا” في لبنان لم يكن سوى واحد من أخطر الأشخاص الفاعلين في الإتجار بالبشر. ياسمين التي فقدت أخاها في الحرب أحبت أنور ومعه رسمت أحلاماً زوجية حلمت بها لكن مصيرها كان مصير رحمة نفسه والتي التقتها هناك ومعها لم تعد ترى الشمس.
“ساعدني يا الله… خذني إليك.. خذني إليك… أعنّي يا مولاي فأنا لم أعد أحتمل… خذني إليك يا الله”… لعل ما صرخت به جيلان الأيزيدية يختصر الموت العاري الذي تمنته تلك الفتاة لتنادي الله لكي يأخذها الى جواره تخلصا من العذاب والالم اللذين حلا بها. جيلان واحدة من مئات لا بل من آلاف النساء الذين تعرضوا للسبي والأسر على يد تنظيم داعش الإرهابي في العراق، وتم بيعها إلى أحد الرجال لينقلها إلى سوريا ومن ثم لتنضم إلى رحمة وياسمين في لبنان إلى جانب العديد من الفتيات الذين أُجبروا على العمل في الدعارة وحجزت حريتهم ولم يعد باستطاعتهم رؤية الشمس.
«مرّت سنوات قبل أن أرى نور الشمس… سنوات ونحن نحيا تحت الأرض… نمارس الجنس مع الرجال من جميع الأنواع… والاعتراض مرفوض» هذا ما قالته ياسمين للمحقّق بعد حادثة مقتل أنور الذي قتلته فاديا وحطّمت فوق رأسه زجاجة دفاعاً عن ياسمين التي رأته صدفة بعد سنوات وهجمت عليه. فاديا التي كانت محجبة وكانت تدخر الأموال للذهاب إلى العمرة، وقعت هي أيضاً ضحية عصابة الإتجار بالبشر ولقيت المصير نفسه الذي وقعن به رحمة وياسمين وجيلان.
بين صنعاء، سنجار، حلب وبيروت، شكّلت ألمانيا رافعة للرواية حيث تشاء الصدفة أن تصل والدة ياسمين (أم باسل) إلى إحدى مستشفياتها وهي على وشك الموت بعدما تمّ إنقاذها من المركب الذي غرق بهم أثناء تهريبهم من تركيا إلى أوروبا، بعدما فقدت طفليها غرقاً أثناء الرحلة. والدة ياسمين التي غرّر بها أنور بعدما أبلغها أن ابنتها ياسمين قضت في حادث سير في لبنان، أقنعها بأن تبيع منزلها وأرضها وأن تنجو مع طفليها من الحرب. وتشاء الصدفة أن يكون علاجها على يد الطبيب اللبناني هناك، وأن يكتشف عن طريق الصدفة أيضاً وأثناء تمضيته إجازته في لبنان ومن خلال أحد أصدقائه شبكة الاتجار بالبشر التي يُكتشف أمرها من قبل قوى الأمن في بيروت ويتم تحرير الفتيات المحتجزات ومن بينهم ياسمين ورحمة التي تقضي برصاص طائش عن طريق الخطأ في بيروت.
تختصر رواية «رحمة» لناهد فران عنواناً كبيراً لجريمة كبرى تحصل في مجتمعاتنا وهي «الاتجار بالبشر». جريمة تولد من رحم الحروب ومن رحم مجتمعات تشكّل بيئة حاضنة لها. مجتمعات يُسمح فيها بأن يبيع الأهل أطفالهم وتزويجهم في سن مبكرة، ويُسمح فيها لشبكات الدعارة أن تصول وتجول وأن تحتجز أشخاص وتجبرهم على فعل ما لا يريدونه… فرّان التي عرفت كيف تغلّف روايتها «رحمة» وأن تلبسها رداء الحب من خلال حكايا الفتيات، نجحت في إبقاء الألم يعيش بجانب الأمل. بالرغم من كل الأحداث المأسوية التي تتنقل بين دفتي صفحات الرواية.
ناهد فران أطلقت صرخة مدوية في وجه تلك الجرائم، على أمل ان تجد تلك الصرخة، صدى لها في برية الله الواسعة!!!؟