ساعة الحريري وصليب البطريرك
زهير دبس
قد تكون الأخبار التي تحدّثت عن ساعة الحريري smart watch العجيبة وستائر الغرفة التي أعلن منها استقالته وعدد أكواب المياه التي شربها بالإضافة إلى تبيان صليب البطريرك الراعي من عدمه أخذت حيّزاً في الإعلام اللبناني بقدر ما أخذت استقالة الحريري المدوية التي قلبت الأمور رأساً على عقب وجعلت لبنان مفتوحاً على احتمالات لم يستطع أحد بعد تبيّن مساراتها.. فالحديث المسهب في وسائل الإعلام عن الميّزات العجائبية لساعة الحريري وألوان الستارة في خلفية الصورة أثناء إعلان الاستقالة وعدد أكواب الماء التي شربها وكلمات «النأي بالنفس» التي كرّرها تشي بأن اللبنانيين في مكان وأوضاع بلدهم الخطيرة في مكانٍ آخر. المجهول المقبل ومحاولة تبيانه هو الذي يجعل الجميع يفتش بين ثنايا الوجوه وستائر الغرف وأكواب المياه وساعات اليد عن شيءٍ ما يدلهم إلى الآتي من الأيام. لم يقتصر التنقيب في خفايا الأمور على أغراض الحريري لاستنتاج ما، بل تعداها إلى البطريرك الراعي الذي يزور السعودية، ومعه انشغل الإعلام لساعات طويلة في الحديث عن صليبه الذي بان أثناء الزيارة أو لم يبن. وعليه الأولى تعني شيء والثانية تعني أشياءً أخرى.
عبثاً يفتش اللبنانيون بين حاجيات زعمائهم وملامح وجوههم وسلاسل أعناقهم عن الحقيقة الضائعة بين شاشات التلفزة وتحليلات السياسيين.. أين الساعة.. أين الصليب. ظهرت الساعة.. ظهر الصليب.. لا لم تظهر.. لم يظهر.. إنه الفوتوشوب.. إنها الخدع البصرية… إنه الخواء والفراغ والثقة التي تهشّمت ووصلت للحضيض.. إنها الحرب بالأدلة الدامغة ونقضانها.. انقسم فيها اللبنانيون إلى فرق من الأدلة الجنائية والعرّافين والمشعوذين، يبحثون بين الحاجيات وأدق التفاصيل لإثبات فعل الإدانة ومن ثم لنقضه.. إنها حزازير السياسة وكواليسها يغرق فيها اللبنانيون بين أكواب المياه وبين تكتكات الساعات وبين زوايا الصلبان. إنه التشويق الذي يدفع إحدى المحطات لاستضافة خبيرة نفسية لكي تقرأ وتحلّل وجه سعد الحريري بعدما استفاض في التحليل والتفسير المئات من المحللين والسياسيين في مضمون الإستقالة.. إنه اليأس الذي يجعل الناس لا ترتوي من كل تلك التحليلات لتتسمّر ساعات أمام الشاشات علّها تعثر في كلام محللة نفسية على شيء ما يدلها إلى الحقيقة.
تختفي ساعة الحريري من يده تسأله بولا يعقوبيان عنها فيقول لها موجودة، لا يقتنع فريق كبير من اللبنانيين بوجودها، تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي وتضج المواقع الإخبارية بأخبار «الساعة» وتبنى فرضيات وتحليلات بأن الحريري محتجز والدليل على ذلك أن الساعة ليست في يده. في اليوم التالي يلبس الحريري الساعة ويتقصّد إظهارها، لتعاود مواقع التواصل إلى الاشتعال وبأن الحرير حر وليس محتجز والدليل أن الساعة في يده. وضع ساعة الحريري انسحب على صليب البطريرك الراعي، فمع ظهور صور غاب فيها الصليب عن صدر الراعي ارتفعت الأصوات المطالبة بإظهاره وبنت على صليب الراعي الغائب مطولات، ليظهر الصليب في صور أخرى ويرتفع التصفيق في الجانب الآخر علامة الغلبة. وليس أبلغ من هذا السجال سوى ما كتبه أحد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقاً على صورة الحريري والراعي في الرياض « هيك مشي حالنا وحال البلد، البطرك لابس الصليب والرئيس الحريري مزبط دقنوا وقاصص ظفيرو ولابس الساعة السحرية. ارتاحوا هلق».
لا نقول جديداً من أن الاستقالة التي أعلنها الحريري من الرياض تعني أن التسوية التي أوصلت الرئيس عون إلى بعبدا والرئيس الحريري إلى السراي سقطت وانتهت مفاعيلها وهي تسوية إيرانية سعودية. ولا نقول جديداً من أن سقوط هذه التسوية سوف يشرّع البلد على احتمالات خطيرة لا أحد يعرف مداها حتى الآن وهي تعني سقوط المظلة الإقليمية والدولية التي نعم بها لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى الآن.
ولا نقول جديداً أيضاً من أن اللبنانيين منقسمون انقساماً عميقاً فيما بينهم وهو امتداد للانقسام الذي تشهده المنطقة بين السعودية وإيران. وعليه فمن البديهي أن تكون ساعة الحريري مضبوطة جيداً على توقيت الرياض وباقي التفاصيل تصبح لزوم ما لا يلزم. لا الساعة ووجودها في يد الحريري تعنيان شيئا ولا لون الستائر وعدد أكواب المياه التي شربها أثناء مقابلته مع يعقوبيان. وبالرغم من أن ظهور صليب الراعي في الرياض سوف يعود بالمنفعة على المملكة كبلد للانفتاح، مع أن ظهور الصليب من عدمه لن يقدّم أي شيئ للبنان.
بين ساعة الحريري وصليب الراعي أوقات حرجة يمر بها لبنان تقطعها أخبار زلازل طبيعية تضرب إيران والعراق وصواريخ باليستية تضرب الرياض وتقفل على إثرها منافذ اليمن. وبينهما يتلهى اللبنانيون ساعة بأخبار ساعة الحريري وأخرى بصليب الراعي، فيما المطلوب الدعاء بمعجزة تنقذ البلد مما هو فيه وتُخرج لبنان من عنق الزجاجة.